ما هو رأيكم في صحّة هذا الحديث، وكيف تفسّرونه؟ «كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِي حِمْيَرَ، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَجَعَلَهُ فِي قُرَيْشٍ، وَسَيَعُودُ إِلَيْهِمْ».
قال الجورقانيّ وابن الجوزيّ: «هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ»[١]، وزاد الجورقانيّ: «شَبِيهٌ بِالْبَاطِلِ»[٢]، وهو كما قالا، وذلك لوجوه:
الأوّل أنّه من رواية حريز بن عثمان، عن راشد بن سعد، عن أبي حيّ المؤذّن، عن ذي مخمر، وأمّا حريز بن عثمان فكان زنديقًا لا تحلّ الرواية عنه؛ كما قال عبد اللّه بن حمّاد: «سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ صَالِحٍ وَقِيلَ لَهُ: لِمَ لَمْ تَكْتُبْ عَنْ حَرِيزٍ؟ قَالَ: كَيْفَ أَكْتُبُ عَنْ رَجُلٍ صَلَّيْتُ مَعَهُ الْفَجْرَ سَبْعَ سِنِينَ، فَكَانَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَلْعَنَ عَلِيًّا سَبْعِينَ لَعْنَةً كُلَّ يَوْمٍ؟!»[٣]، وقال: «أَمْلَى عَلَيَّ حَدِيثًا فِي تَنَقُّصِ عَلِيٍّ مُعْضَلًا مُنْكَرًا جِدًّا لَا يَرْوِي مِثْلَهُ مَنْ يَتَّقِي اللَّهَ، فَلَمَّا حَدَّثَنِي بِذَلِكَ قُمْتُ عَنْهُ وَتَرَكْتُ الْكِتَابَةَ عَنْهُ»[٤]؛ قال الأزديّ: «رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ بَغَلَتَهُ جَاءَ عَلِيٌّ فَحَلَّ حِزَامَ الْبَغَلَةِ لِيَقَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ لَا يُرْوَى عَنْهُ»[٥]، وأمّا راشد بن سعد فكان من طغاة أهل الشام، ذهبت عينه يوم صفّين وهو مع معاوية[٦]، وقال ابن المدينيّ: «كَانَ ضَعِيفًا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ»[٧]، وقال ليحيى بن سعيد منكِرًا عليه: «تَرْوِي عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ؟!»[٨]، وضعّفه أيضًا ابن شاهين[٩] وابن حزم[١٠] والدارقطنيّ[١١]، والمحتمل جدًّا أنّه وضع هذا الحديث؛ فإنّه كان من حمير[١٢]، وأمّا أبو حيّ المؤذّن فلم يكن بذاك القويّ؛ فقد سكت عنه أهل العلم بالرّجال، ولم يوثّقه أحد غير العجليّ وابن حبّان، وهما متساهلان في التوثيق، وقال ابن عبد البرّ بعد إيراد حديثه في صلاة الحاقن: «هُوَ حَدِيثٌ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِضَعْفِ إِسْنَادِهِ»[١٣]، وقال مغلطاي: «أَظُنُّ أَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّهُ لِلْجَهَالَةِ بِحَالِ أَبِي حَيٍّ الْمُؤَذِّنِ، وَيُوضِحُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ فِي التَّمْهِيدِ: وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِي حَيٍّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْحَدِيثَ، وَهُوَ خَبَرٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ»[١٤]، وبذلك يظهر لك أنّ إسناد الحديث ضعيف بالمرّة، ولو صحّحه من «سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالِمًا وَلَيْسَ بِهِ»![١٥]
الثاني أنّه مخالف لما ثبت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من القول بأنّ الأمر في قريش إلى يوم القيامة؛ كما صحّ عن عبد اللّه بن عمر أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ»، وهو حديث اتّفق البخاريّ ومسلم على إخراجه[١٦]، ولذلك حذف ابن أبي عاصم[١٧] والبغويّ[١٨] والطبرانيّ[١٩] من الحديث قوله: «وَسَيَعُودُ إِلَيْهِمْ»، وتورّع أحمد بن حنبل، وكتبه هكذا: «وَ سَ يَ عُ و دُ إِ لَ يْ هِ مْ»؛ قال عبد اللّه بن أحمد: «كَذَا كَانَ فِي كِتَابِ أَبِي مُقَطَّعٌ»[٢٠]، كأنّه كره أن يكتب ما يعلم أنّه باطل، وكره أن يحذفه فيخلّ بالأمانة، وقد حاول الذهبيّ تأويله، فقال: «يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ سَيَعُودُ الْأَمْرُ إِلَيْهِمْ فِي وَقْتٍ عَلَى سَبِيلِ الْغَصْبِ وَالتَّعَدِّي»[٢١]، وهو غير بعيد، ويقرّبه ما روي عن أبي مسعود الأنصاريّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لقريش: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَزَالُ فِيكُمْ، وَأَنْتُمْ وُلَاتُهُ، حَتَّى تُحْدِثُوا أَعْمَالًا، فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَ خَلْقِهِ، فَالْتَحَوْكُمْ كَمَا يُلْتَحَى الْقَضِيبُ»[٢٢]، وما روي عن معاوية، قال: «بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْكُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا تُؤْثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَالْأَمَانِيَّ الَّتِي تُضِلُّ أَهْلَهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ، لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ، مَا أَقَامُوا الدِّينَ»[٢٣]؛ قال ابن حجر: «بِهِ يَقْوَى أَنَّ مَفْهُومَ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ مَا أَقَامُوا الدِّينَ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُقِيمُوا الدِّينَ خَرَجَ الْأَمْرُ عَنْهُمْ»[٢٤]، ولكنّ الحقّ أنّه لا حاجة إلى هذا التأويل، لضعف الحديث، ولأنّ قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ» يدلّ على أنّه لا يزال فيهم رجل يقيم الدّين ويعمل بالعدل[٢٥]؛ فلا يحقّ القول بأنّهم إذا أحدثوا أعمالًا ولم يقيموا الدّين خرج الأمر منهم؛ لأنّه إذا فعل ذلك أحدهم كان فيهم من يقوم مقامه[٢٦]، والظاهر أنّ قوله: «مَا أَقَامُوا الدِّينَ» يعود إلى قوله: «لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ»، فمفهومه أنّ اللّه لا يكبّ على وجهه من يعاديهم عندما لا يقيمون الدّين؛ لأنّه يعاديهم بحقّ، وليس أنّ الأمر يخرج منهم، ولذلك احتجّ به معاوية.
الثالث أنّه مخالف لكتاب اللّه؛ لأنّه أخبر بأنّ الأمر كان في آل إبراهيم عليه السلام، فقال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾[٢٧]، والظاهر أنّ حمير لم يكونوا من آل إبراهيم عليه السلام؛ لأنّهم من العرب العاربة، وأصحّ ما قيل في نسبهم أنّهم ولد حمير بن سبأ بن يَشجب بن يَعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام، وقد أخبر كتاب اللّه بامرأة كانت تملكهم وهم يسجدون للشمس، فكتب إليهم سليمان عليه السلام: ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾[٢٨]، وفيه دلالة على أنّ الأمر كان في آل إبراهيم عليه السلام من دونهم؛ كما أخبر أيضًا بأنّ قوم تبّع ﴿كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾[٢٩] و﴿كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾[٣٠]، فأهلكهم اللّه، وأنّ سبأ كفروا وأعرضوا وظلموا أنفسهم، فجعلهم اللّه أحاديث ومزّقهم كلّ ممزّق[٣١]، وأنّ أصحاب الأخدود ﴿فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾[٣٢]، وفي كلّ ذلك دلالة على أنّ القوم كانوا أعداء اللّه في الزمن الأوّل؛ فمتى كان فيهم الأمر؟! وإن قلت أنّ الأمر كان فيهم قبل إبراهيم عليه السلام، قلنا لم يكن ذلك أيضًا؛ لأنّ الأمر، إن كان المراد به خلافة اللّه في الأرض، وهي المراد، فإنّه كان في الأنبياء والأوصياء واحدًا بعد واحد منذ كان آدم عليه السلام، كما بيّنه المنصور حفظه اللّه تعالى في باب «اتّصال الوصيّة بين خلفاء اللّه في الأرض»، وما كان أكثرهم من حمير، بل لا يُعرف فيهم حميريّ أصلًا، وقد أخبر كتاب اللّه بأنّه باقٍ في عقب إبراهيم عليه السلام إلى يوم القيامة، فقال: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾[٣٣]، يعني الخلافة[٣٤]، فلا يخرج منهم إلى حمير ولا غير حمير، وإن كان المراد به مطلق الملك، وليس هو المراد، فإنّه كان في نمرود ملك بابل؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[٣٥]، وكان من بعده في الفراعنة والقياصرة والأكاسرة، ولم يكن حمير في جنبهم شيئًا مذكورًا!
الرابع أنّه مخالف للواقع، حتّى لو كان المراد بالأمر ملك اليمن؛ لأنّ آخر ملوك اليمن كانوا من فارس، ومنهم انتقل ملكها إلى قريش، وذلك عندما أسلم باذان بن ساسان، فأبقاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على ولايتها، فأصبح من أمراء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بعد أن كان من أمراء كسرى[٣٦].
الحاصل أنّ الحديث واهٍ لضعف إسناده ونكارة متنه.