أرجو من حضراتكم بيان حدود الغيرة الإسلاميّة -لو صحّ التعبير- للرجل المسلم على حريمه من النساء، لنميز حدّها الصحيح من غير الصحيح؛ فمثلًا هل يجب أن لا تسمع المرأة صوت الرجال، مع أنّها تحتاج إلى ذلك لتعلّم الدّين؟ نرجو منكم بيان الحدود الإسلاميّة لهذا الأمر وفقًا لرأي السيّد العلامة. جزاكم اللّه خيرًا.
غيرة الرجل اهتمامه بمنع محارمه من السوء، وهو من الفطرة ومكارم الأخلاق، ويوافق قول اللّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾[١]، ولذلك روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «الْغَيْرَةُ مِنَ الْإِيمَانِ»[٢]، وقال: «كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيُورًا وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَجَدَعَ اللَّهُ أَنْفَ مَنْ لَا يَغَارُ»[٣]، وفي رواية أخرى: «إِنِّي غَيُورٌ، وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ غَيُورًا، وَمَا مِنِ امْرِئٍ لَا يَغَارُ إِلَّا مَنْكُوسُ الْقَلْبِ»[٤]، وقال: «الْمُؤْمِنُ يَغَارُ، وَاللَّهُ أَشَدُّ غَيْرَةً»[٥]، والمراد بغيرة اللّه تعالى تحريمه الفواحش ومعاقبته عليها؛ كما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَالْمُؤْمِنُ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ»[٦]، وقال: «لَيْسَ شَيْءٌ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ»[٧]، وروي أنّه «بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ يَقُولُ: لَوْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا لَضَرَبْتُهَا بِالسَّيْفِ، غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟! فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»[٨]، وفي رواية عن أهل البيت: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى غَيُورٌ، يُحِبُّ كُلَّ غَيُورٍ، وَلِغَيْرَتِهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا»[٩].
نعم، المراد بالغيرة المحمودة في هذه الروايات هو اهتمام الرجل بمنع محارمه ممّا حرّم اللّه عليهنّ، وأمّا منعهنّ ممّا لم يحرّم اللّه عليهنّ فذلك مذموم؛ لأنّه تحريم ما أحلّ اللّه، وقد قال اللّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[١٠]، وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال ليلة زفّت فاطمة إلى عليّ عليهما السلام: «جَدَعَ الْحَلَالُ أَنْفَ الْغَيْرَةِ»[١١]، وقال جعفر بن محمّد عليهما السلام: «لَا غَيْرَةَ فِي الْحَلَالِ بَعْدَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَا تُحْدِثَا شَيْئًا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكُمَا»[١٢]؛ كما أنّ التضييق عليهنّ بما لا داعي له شرعًا ترجع إلى إساءة الظنّ بهنّ، وقد قال اللّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا﴾[١٣]، ولذلك روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ، فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ»[١٤]، وروى كعب بن مالك: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْغَيْرَةُ غَيْرَتَانِ: فَغَيْرَةٌ يُحِبُّ اللَّهُ، وَأُخْرَى يَكْرَهُهَا، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَغَارَ؟ قَالَ: تُؤْتَى مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتُنْتَهَكُ مَحَارِمُهُ، قُلْنَا: فَمَا الْغَيْرَةُ الَّتِي يَكْرَهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ؟ قَالَ: غَيْرَةُ أَحَدِكُمْ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ»[١٥]، وروي عن عليّ عليه السلام أنّه قال: «الْغَيْرَةُ غَيْرَتَانِ: غَيْرَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ يُصْلِحُ بِهَا الرَّجُلُ أَهْلَهُ، وَغَيْرَةٌ تُدْخِلُهُ النَّارَ، تَحْمِلُهُ عَلَى الْقَتْلِ، فَيَقْتُلُ»[١٦]، وقال: «إِيَّاكَ وَالتَّغَايُرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ غَيْرَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو الصَّحِيحَةَ إِلَى السَّقَمِ وَالْبَرِيئَةَ إِلَى الرِّيَبِ»[١٧]، وقد أحسن الشاعر إذ قال:
مَا أَحْسَنَ الْغَيْرَةَ فِي حِينِهَا ... وَأَقْبَحَ الْغَيْرَةَ فِي غَيْرِ حِينٍ
مَنْ لَمْ يَزَلْ مُتَّهِمًا عِرْسَهُ ... مُنَاصِبًا فِيهَا لِرَجْمِ الظُّنُونِ
يُوشَكُ أَنْ يُغْرِيَهَا بِالَّذِي ... يَخَافُ، أَوْ يَنْصُبَهَا لِلْعُيُونِ[١٨]
بناء على هذا، فإنّ الغيرة على المحارم محمودة فقطّ في ثلاث حالات:
١ . إذا أتين بفاحشة مبيّنة مثل الزنا أو اتّخاذ الأخدان أو الإخلال بالقدر الواجب من الإحتجاب أو التزيّن لغير ذوي المحارم أو الخضوع بالقول عندهم أو النظر إليهم وبهم عُري، وقد روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ! إِذَا سَجَدَ الرِّجَالُ فَاغْضُضْنَ أَبْصَارَكُنَّ لَا تَرَيْنَ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ مِنْ ضِيقِ الْأُزُرِ»[١٩]، وفي رواية أخرى: «لَا تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَرْفَعَ الرِّجَالُ»[٢٠].
٢ . إذا فعلن ما قد يؤدّي إلى فاحشة مبيّنة مثل الخلوة بغير ذوي المحارم أو إطالة النظر في وجوههم أو كثرة محادثتهم بغير ضرورة أو الدخول في المكان المزدحم؛ كما روي عن عليّ عليه السلام أنّه قال: «يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، نُبِّئْتُ أَنَّ نِسَاءَكُمْ يُدَافِعْنَ الرِّجَالَ فِي الطَّرِيقِ، أَمَا تَسْتَحْيُونَ؟»[٢١]، وفي رواية أخرى: «أَلَا تَسْتَحْيُونَ أَوْ تَغَارُونَ؟ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءَكُمْ يَخْرُجْنَ فِي الْأَسْوَاقِ يُزَاحِمْنَ الْعُلُوجَ»[٢٢]، وليس من هذا القبيل الإستماع إلى دروس أهل العلم ومواعظهم؛ لأنّ فيه مصلحة وليس فيه مفسدة بيّنة؛ كما روي «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمَ عِيدٍ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَطَبَ، فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعِ النِّسَاءَ، فَمَشَى إِلَيْهِنَّ وَبِلَالٌ مَعَهُ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُهْوِي بِيَدِهَا إِلَى أُذُنِهَا وَحَلْقِهَا، تُلْقِي الْقُرْطَ وَالْخَاتَمَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ»[٢٣]، وروي «أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِنْ وَلَدِهَا، إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: أَوِ اثْنَيْنِ؟ فَإِنَّهُ مَاتَ لِي اثْنَانِ، فَقَالَ: أَوِ اثْنَيْنِ»[٢٤].
٣ . إذا اعتدى عليهنّ غير ذي محرم باليد أو اللسان أو العين، فيجب دفعه عنهنّ، وهذا أفضل مصاديق الغيرة، ولذلك روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «مَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»[٢٥]، وصاح الحسين بن علي عليهما السلام يوم عاشوراء لمّا حالوا بينه وبين رحله: «وَيْلَكُمْ يَا شِيعَةَ آلِ أَبِي سُفْيَانَ! إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ، وَكُنْتُمْ لَا تَخَافُونَ الْمَعَادَ، فَكُونُوا أَحْرَارًا فِي دُنْيَاكُمْ، وَارْجِعُوا إِلَى أَحْسَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ عُرُبًا كَمَا تَزْعُمُونَ، فَنَادَاهُ شِمْرٌ فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا ابْنَ فَاطِمَةَ؟ قَالَ: أَقُولُ: أَنَا الَّذِي أُقَاتِلُكُمْ، وَتُقَاتِلُونِي، وَالنِّسَاءُ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ، فَامْنَعُوا عُتَاتَكُمْ وَجُهَّالَكُمْ عَنِ التَّعَرُّضِ لِحَرَمِي مَا دُمْتُ حَيًّا، فَقَالَ شِمْرٌ: لَكَ هَذَا، ثُمَّ صَاحَ شِمْرٌ: إِلَيْكُمْ عَنْ حَرَمِ الرَّجُلِ، فَاقْصُدُوهُ فِي نَفْسِهِ، فَلَعَمْرِي لَهُوَ كُفْؤٌ كَرِيمٌ»[٢٦].
هذا، ولكن لا يجوز معاقبتهنّ ولا معاقبة المعتدي عليهنّ إلا بما يجوز في الشرع، وهذه نقطة مهمّة للغاية؛ لأنّ كثيرًا من الجنايات يتمّ ارتكابها باسم الغيرة، مع أنّها غير جائزة في الشرع، ومثال ذلك قتل الرجل أخته أو ابنته غير المحصنة بسبب أنّها هربت مع عشيقها، مع أنّ الشرع لم يحكم بقتلها، ولكن بجلدها مائة جلدة إذا أقرّت بالزنا أو شهد عليها أربعة شهداء، وبتعزيرها إذا لم يكن هناك إقرار ولا شهادة، أو قتل الرجل من زنى ببعض محارمه وهو غير محصن، مع أنّ الشرع لم يحكم بقتله، ولكن بجلده مائة جلدة إذا ثبت زناه بالإقرار أو الشهادة، وممّا يدلّ على هذا ما روي في حديث مشهور: «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: لَا، قَالَ سَعْدٌ: بَلَى وَالَّذِي أَكْرَمَكَ بِالْحَقِّ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: اسْمَعُوا إِلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ»[٢٧]، وفي رواية أخرى: «قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ وَجَدْتُ مَعَ أَهْلِي رَجُلًا لَمْ أَمَسَّهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، قَالَ: كَلَّا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنْ كُنْتُ لَأُعَاجِلُهُ بِالسَّيْفِ قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: اسْمَعُوا إِلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ، إِنَّهُ لَغَيُورٌ، وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي»[٢٨]، أراد بذلك أنّي نهيته عن قتل الزاني بغير حكم الحاكم وأنا أغير منه؛ كما أنّ اللّه تعالى نهى عن ذلك وهو أغير منّي؛ لأنّ الغيرة لا تبيح ما ليس بحقّ، وفي رواية أخرى: «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَجَدْتُ عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِي رَجُلًا أَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَبَيِّنَةٌ أَبْيَنُ مِنَ السَّيْفِ؟! ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: كِتَابُ اللَّهِ وَالشُّهَدَاءُ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَّةُ بَيِّنَةٍ أَبْيَنُ مِنَ السَّيْفِ؟ فَقَالَ: كِتَابُ اللَّهِ وَالشُّهَدَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، هَذَا سَيِّدُكُمُ اسْتَفَزَّتْهُ الْغَيْرَةُ حَتَّى خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ سَعْدًا رَجُلٌ غَيُورٌ مَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثَيِّبًا قَطُّ لِغَيْرَتِهِ، وَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً طَلَّقَهَا لِغَيْرَتِهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: سَعْدٌ غَيُورٌ وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ وَاللَّهُ تَعَالَى أَغْيَرُ مِنِّي، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَغَارُ اللَّهُ تَعَالَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: يَغَارُ عَلَى رَجُلٍ مُجَاهِدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُخَالَفُ إِلَى أَهْلِهِ»[٢٩]، وفي رواية أخرى: «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ لَوْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ»[٣٠]، وفي رواية أهل البيت: «إِنَّ أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالُوا: يَا سَعْدُ، مَا تَقُولُ لَوْ ذَهَبْتَ إِلَى مَنْزِلِكَ فَوَجَدْتَ فِيهِ رَجُلًا عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِكَ، مَا كُنْتَ صَانِعًا بِهِ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: كُنْتُ وَاللَّهِ أَضْرِبُ رَقَبَتَهُ بِالسَّيْفِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ فِي هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ، مَنْ هَذَا الَّذِي قُلْتَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ؟ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي قَالُوا وَمَا قَالَ سَعْدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: يَا سَعْدُ، فَأَيْنَ الشُّهُودُ الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؟! فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَعْدَ رَأْيِ عَيْنِي وَعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: إِي وَاللَّهِ يَا سَعْدُ، بَعْدَ رَأْيِ عَيْنِكَ وَعِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ حَدًّا، وَجَعَلَ عَلَى مَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ حَدًّا، وَجَعَلَ مَا دُونَ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ مَسْتُورًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ»[٣١].
بالطبع، هذا كلّه يتعلّق بغيرة الرجل على زوجته وسائر محارمه، وأمّا غيرة المرأة على زوجها فغير جائزة إذا فعل زوجها ما لا بأس به شرعًا مثل اتّخاذ زوجة أخرى؛ لأنّ ذلك كراهة لما أنزل اللّه، وهي تحبط أعمالها؛ كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾[٣٢]، وروي أنّ جعفر بن محمّد عليهما السلام كان فيما بين مكة والمدينة ومعه زوجته أمّ إسماعيل، فأصاب من جارية له، فأمرها فغسلت جسدها وتركت رأسها، وقال لها: إذا أردت أن تركبي فاغسلي رأسك، وفي رواية أخرى أنّه أمرها بغسل رأسها أوّلًا، ففعلت ذلك، فعلمت بذلك أمّ إسماعيل فحلقت رأسها، فلمّا كان من قابل انتهى جعفر عليه السلام إلى ذلك المكان، فقالت له أمّ إسماعيل: أيّ موضع هذا؟ فقال لها: «هَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي أَحْبَطَ اللَّهُ فِيهِ حَجَّكِ عَامَ أَوَّلٍ»[٣٣]، وروي أنّه قال: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَجْعَلِ الْغَيْرَةَ لِلنِّسَاءِ، وَإِنَّمَا تَغَارُ الْمُنْكِرَاتُ مِنْهُنَّ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنَاتُ فَلَا، إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ الْغَيْرَةَ لِلرِّجَالِ، لِأَنَّهُ أَحَلَّ لِلرَّجُلِ أَرْبَعًا وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْمَرْأَةِ إِلَّا زَوْجَهَا، فَإِذَا أَرَادَتْ مَعَهُ غَيْرَهُ كَانَتْ عِنْدَ اللَّهِ زَانِيَةً»[٣٤]، والغيرة قد تسلب عقل المرأة وتحملها على ما يشبه الجنون؛ كما روي: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ إِذْ جَاءَتِ امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي فَجَرْتُ فَطَهِّرْنِي! فَجَاءَ رَجُلٌ يَعْدُو فِي أَثَرِهَا وَأَلْقَى عَلَيْهَا ثَوْبًا فَقَالَ: مَا هِيَ مِنْكَ؟ فَقَالَ: صَاحِبَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَلَوْتُ بِجَارِيَتِي فَصَنَعَتْ مَا تَرَى! فَقَالَ: ضُمَّهَا إِلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْغَيْرَاءَ لَا تُبْصِرُ أَعْلَى الْوَادِي مِنْ أَسْفَلِهِ»[٣٥]، وفي رواية أخرى: «أَنَّ امْرَأَةً وَجَدَتْ زَوْجَهَا عَلَى جَارِيَةٍ لَهَا، فَغَارَتْ، فَانْطَلَقَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّبَعَهَا حَتَّى أَدْرَكَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهَا زَنَتْ، فَقَالَ: كَذَبَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنَّهَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا كَذَا وَكَذَا، وَأَخَذَتْ بِلِحْيَتِهِ، فَانَتَهَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَتْهُ، فَقَالَ: مَا تَدْرِي الْآنَ أَعْلَى الْوَادِي مِنْ أَسْفَلِهِ»[٣٦]، وروي «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَتْ أَنَّ زَوْجَهَا وَقَعَ عَلَى جَارِيَتِهَا، فَقَالَ: إِنْ تَكُونِي صَادِقَةً نَرْجُمْهُ، وَإِنْ تَكُونِي كَاذِبَةً نَجْلِدْكِ، فَقَالَتْ: يَا وَيْلَهَا غَيْرَى نَغِرَةٌ! قَالَ: وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَذَهَبَتْ»[٣٧].
مع هذا، قلّما تخلو من الغيرة امرأة، ولذلك لم تخل منها أمّهات المؤمنين؛ كما روي: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: ”غَارَتْ أُمُّكُمْ!“ ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ»[٣٨]، وروت عائشة: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا، قَالَتْ: فَغِرْتُ عَلَيْهِ، فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ، فَقَالَ: ”مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ؟ أَغِرْتِ؟“ فَقُلْتُ: ”وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ؟!“ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: ”أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ؟“ قَالَتْ: ”يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْ مَعِيَ شَيْطَانٌ؟“ قَالَ: ”نَعَمْ“ قُلْتُ: ”وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟“ قَالَ: ”نَعَمْ“ قُلْتُ: ”وَمَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟“ قَالَ: ”نَعَمْ، وَلَكِنَّ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ“»[٣٩]، وفي رواية أخرى قالت: «فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَتَجَسَّسْتُهُ، فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ، يَقُولُ: ”سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ“، فَقُلْتُ: ”بِأَبِي وَأُمِّي، إِنَّكَ لَفِي شَأْنٍ، وَإِنِّي لَفِي شَأْنٍ آخَرَ“»[٤٠]. ومن ثمّ روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ الْغَيْرَةَ عَلَى النِّسَاءِ، وَالْجِهَادَ عَلَى الرِّجَالِ، فَمَنْ صَبَرَ مِنْهُنَّ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا كَانَ لَهَا مِثْلُ أَجْرِ الشُّهَدَاءِ»[٤١]؛ لأنّه من الصعب عليهنّ الصبر على الغيرة، كما يصعب على الرجال الجهاد، وقد روي أنّ النساء لا غيرة لهنّ، وإنّما هي حسد منهنّ؛ كما روي عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «غَيْرَةُ النِّسَاءِ الْحَسَدُ، وَالْحَسَدُ هُوَ أَصْلُ الْكُفْرِ، إِنَّ النِّسَاءَ إِذَا غِرْنَ غَضِبْنَ وَإِذَا غَضِبْنَ كَفَرْنَ إِلَّا الْمُسْلِمَاتُ مِنْهُنَّ»[٤٢]، وروي عن جعفر عليه السلام أنّه قال: «لَيْسَ الْغَيْرَةُ إِلَّا لِلرِّجَالِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُنَّ حَسَدٌ، وَالْغَيْرَةُ لِلرِّجَالِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النِّسَاءِ إِلَّا زَوْجَهَا وَأَحَلَّ لِلرِّجَالِ أَرْبَعًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمُ أَنْ يَبْتَلِيَهُنَّ بِالْغَيْرَةِ وَيُحِلَّ لِلرِّجَالِ مَعَهَا ثَلَاثًا»[٤٣]، وليس فيهما تعارض مع سائر الروايات؛ لأنّ المراد بالغيرة فيهما هي الغيرة التي جعلها اللّه في عباده بفضله وحكمته؛ فإنّه جعلها في الرجال، ولم يجعلها في النساء، وغيرة النساء من الشيطان؛ لأنّها من الحسد، وروي أنّها من الحبّ[٤٤]، والأوّل أظهر.