هناك رجال كثيرون من أهل العلم وأهل السياسة يطلق عليهم أتباعهم «الإمام»؛ كما يقولون مثلًا: الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعيّ، والإمام أحمد، والإمام البخاريّ، والإمام مسلم، والإمام محمّد بن عبد الوهّاب، والإمام الخمينيّ، مع أنّ النبيّ قال: «الأئمّة بعدي اثنا عشر». فهل يجوز إطلاق «الإمام» على غير النبيّ وخلفائه الإثني عشر؟
«الإمام» في كتاب اللّه رجلان: رجل فرض اللّه طاعته، فيطاع بأمره، فهو إمام هدى؛ كما قال: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾[١]، ورجل لم يفرض اللّه طاعته، فيطاع بغير أمره، فهو إمام ضلالة؛ كما قال: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾[٢]، وعليه فلا يتسمّى بالإمام إلّا أحد الرّجلين. نعم، قد كان رجال من أهل العلم لم يدّعوا الإمامة ولم يسمّوا بالإمام في زمانهم، ومن الواضح أنّهم غير مسؤولين عمّا قال الجهّال من بعدهم إن كانوا قد نهوهم عن اتّخاذهم أئمّة؛ كمثل عيسى عليه السلام إذ قال اللّه له: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[٣]، ولكنّ الذين ادّعوا الإمامة أو سُمّوا بالإمام في زمانهم فلم ينهوا عن ذلك ولم يتبرّؤوا، أولئك هم المسؤولون، وسوف يحاسبون حسابًا شديدًا، وكذلك الذين أباحوا للناس تقليدهم، وإن لم يسمّوا بالإمام؛ لأنّهم ادّعوا الإمامة بمعناها؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ يَقُولُ: لَيْسَ الْإِمَامُ مَنْ يُسَمَّى إِمَامًا، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ مَنْ يُقَلَّدُ، وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِمَامَانِ: إِمَامٌ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا، فَيَهْدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، وَهُوَ خَلِيفَةُ اللَّهِ الْمَهْدِيُّ، وَإِمَامٌ مِنْ دُونِهِ، وَهُوَ خَلِيفَةُ الشَّيْطَانِ الدَّجَّالُ! فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا بَنِي آدَمَ، وَلَا تَتَّخِذُوا الدَّجَّالَ إِمَامًا![٤]
بناء على هذا، فلا يجوز إطلاق الإمام على غير النبيّ وخلفائه الإثني عشر، كما لا يجوز تقليد أحد غيرهم، ومن يطلق الإمام على أحد غيرهم لا يخلو من حالتين: إمّا يرى وجوب طاعته أو جواز تقليده، فإنّه إذًا من عبدة الطاغوت؛ لأنّ كلّ إمام دون الإمام الذي جعله اللّه للناس إمامًا طاغوت، وإمّا لا يرى وجوب طاعته أو جواز تقليده، وإنّما يطلق عليه الإمام إكرامًا وتبجيلًا، فإنّه إذًا لمن الخاطئين؛ لأنّه يتشبّه بعبدة الطاغوت، ويبتذل كلمة الإمام؛ كالذين ذكرهم اللّه في كتابه، فقال: ﴿ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾[٥]، وقد نبّه على ذلك السيّد المنصور في بعض خطبه، إذ قال بعد الدّعوة إلى الإمام المهديّ عليه السلام الذي هو الإمام الحقّ الوحيد في زماننا:
الْآنَ كُونُوا عَلَى حَذَرٍ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ الَّذِي أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، لَا يَتْرُكُكُمْ مَعَ إِمَامٍ وَاحِدٍ لِتَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ، بَلْ يَبْعَثُ إِلَيْكُمْ دَجَّالِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ لِيَقُولُوا لَكُمْ أَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ مِنْ دُونِ الْمَهْدِيِّ. فَإِذَا دَعَوْكُمْ... فَلَا تُجِيبُوهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ مِنْ دُونِ الْمَهْدِيِّ إِمَامٌ، وَأَنَّهُمْ لُعَبٌ مِنَ الشَّيْطَانِ يُلَهِّيكُمْ بِهَا وَيَصُدُّكُمْ بِهَا عَنْ إِمَامِكُمْ... فَلَا تَدْعُوُنَّهُمْ أَئِمَّةً؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَدْعُهُمْ أَئِمَّةً، وَلَمْ يُنَزِّلْ لَهُمْ حُجَّةً. أَفَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ؟! إِنَّ هَذَا لَشِرْكٌ زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لَكُمُ لِيُضِلَّكُمْ بِهِ، وَتَحْسَبُونَ أَنَّكُمْ مُهْتَدُونَ. أَلَا إِنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى إِمَامِكُمُ الْمَهْدِيِّ، وَأُحَذِّرُكُمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.[٦]
وأخبرنا بعض أصحابه، قال:
قَامَ الْمَنْصُورُ فِينَا خَطِيبًا، فَوَعَظَنَا وَأَحْسَنَ وَعْظَنَا، حَتَّى اقْشَعَرَّتِ الْجُلُودُ وَرَجَفَتِ الْقُلُوبُ وَبَكَتِ الْعُيُونُ وَرُفِعَتِ الْأَصْوَاتُ! فَلَمَّا جَلَسَ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فَمَدَحَهُ، وَقَالَ لَهُ فِي مَدْحِهِ: إِنَّكَ لَأَنْتَ إِلَهُ الْوَاعِظِينَ! فَغَضِبَ الْمَنْصُورُ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ لَهُ: أُسْكُتْ -أَسْكَتَكَ اللَّهُ- فَإِنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَمَّا أَنَا فَمُعَلِّمُ خَيْرٍ! فَقَالَ لَهُ الْمَادِحُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنِّي مَا عَنَيْتُ بِالْإِلَهِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنَّهُ كَلِمَةٌ يَقُولُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ! فَقَالَ لَهُ: وَهَلْ أَهْلَكَ النَّصَارَى إِلَّا كَلِمَةٌ يَقُولُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ؟! ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾[٧]! ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: اعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ -يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ- فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيضُ وَيُفَرِّخُ! فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، هَلْ لَنَا أَنْ نُسَمِّيَكَ الْإِمَامَ كَمَا يُسَمِّي النَّاسُ قَادَتَهُمْ؟ قَالَ: لَا، ذَاكَ اسْمٌ لَا يَتَسَمَّى بِهِ غَيْرُ الْمَهْدِيِّ إِلَّا دَجَّالٌ.[٨]