ما رأي السيّد العلامة حول صلاة التراويح جماعة في شهر رمضان؟
الصلاة المعروفة بـ«التراويح» هي نافلة الليل التي تستحبّ إقامتها في جميع الليالي، ولا تختصّ بشهر رمضان، وقد شرعها اللّه في كتابه للفرادى؛ كما يظهر ذلك من قوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾[١]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾[٢]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾[٣]. هذه الآيات ظاهرة في أنّ نافلة الليل شُرعت للفرادى، وأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأصحابه كانوا يقيمونها مختلفين في الوقت والمقدار بحسب أحوالهم، ولم يكونوا يجتمعون لها، وهذا ما تصدّقه الأخبار المتواترة؛ كما روي عن بعض أصحابه أنّه قال: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى الْقِيَامِ»[٤]. نعم، كان رجال من أصحابه يقيمونها خلفه بغير إذنه، فلمّا فطن لهم منعهم من ذلك فعلًا وقولًا؛ كما روي عن أنس بن مالك أنّه قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ، فَجِئْتُ فَقُمْتُ خَلْفَهُ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، حَتَّى كُنَّا رَهْطًا، فَلَمَّا أَحَسَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّا خَلْفَهُ تَجَوَّزَ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ مَنْزِلَهُ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَصَلِّهَا عِنْدَنَا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ فَطِنْتَ لَنَا الْبَارِحَةَ؟! فَقَالَ: نَعَمْ، وَذَاكَ الَّذِي حَمَلَنِي عَلَى مَا صَنَعْتُ»[٥]، وعن زيد بن ثابت أنّه قال: «اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حُجْرَةً مِنْ حَصِيرٍ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ، فَصَلَّى فِيهِ لَيَالِيَ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ جَعَلَ يَقْعُدُ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَتَنَحْنَحُوا وَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مُغْضَبًا، فَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ»[٦]، وعن عبد اللّه بن سعد أنّه قال: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا أَفْضَلُ؟ الصَّلَاةُ فِي بَيْتِي، أَوِ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ: أَلَا تَرَى إِلَى بَيْتِي مَا أَقْرَبَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ؟ فَلَأَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً»[٧]. فتوفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم والأمر على ذلك، وكذلك كان في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر، حتّى رأى عمر غير ذلك، فبدّله تبديلًا؛ كما قال ابن سعد: «هُوَ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ قِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَتَبَ بِهِ إِلَى الْبُلْدَانِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةِ أَرْبَعِ عَشْرَةَ، وَجَعَلَ لِلنَّاسِ بِالْمَدِينَةِ قَارِئَيْنِ، قَارِئًا يُصَلِّي بِالرِّجَالِ، وَقَارِئًا يُصَلِّي بِالنِّسَاءِ»[٨]، وهذا يعني أنّه بدعة؛ كما اعترف بذلك عمر نفسه فيما روى عنه عبد الرّحمن بن عبد القارئ، وكان من عمّاله، قال: «خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ»[٩]، وروي أنّ أوّل من أحدث ذلك أبيّ بن كعب، فرضيه عمر وأمضاه؛ كما قال أبو سلمة، ويحيى بن عبد الرّحمن: «كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ رَمَضَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَبَعْضَ إِمَارَةِ عُمَرَ فُرَادَى، حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ الَّذِي مَعَهُ الْقُرْآنُ إِذَا صَلَّى جَاءَ الْقَوْمُ يَقِفُونَ خَلْفَهُ، حَتَّى صَارُوا فِي الْمَسْجِدِ زُمَرًا، هَاهُنَا زُمْرَةً، وَهَاهُنَا زُمْرَةً، مَعَ كُلِّ مَنْ يَقْرَأُ، فَكَلَّمَ النَّاسُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَالُوا: لَوْ جَمَعْتَنَا فَصَلَّيْتَ بِنَا، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى تَقَدَّمَ وَصَفَّ النَّاسُ خَلْفَهُ، فَأَتَاهُمْ عُمَرُ فَقَالَ: بِدْعَةٌ، وَنِعْمَتِ الْبِدْعَةُ»[١٠]، وروي أنّ الناس أحدثوا ذلك، فرضيه عمر وأمضاه، وأقام لهم أبيّ بن كعب؛ كما قال الضحّاك: «أَحْدَثَ النَّاسُ الْقِيَامَ فِي رَمَضَانَ»[١١]، يعني جماعة، وقال عروة بن الزبير: «إِنَّ عُمَرَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ وَالنَّاسُ قَدِ اجْتَمَعُوا، فَقِيلَ: اجْتَمَعُوا لِلصَّلَاةِ، فَقَالَ: بِدْعَةٌ، وَنِعْمَتِ الْبِدْعَةُ، ثُمَّ قَالَ لِأُبَيٍّ: صَلِّ بِالرِّجَالِ فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ، وَقَالَ لِسُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: صَلِّ بِالنِّسَاءِ فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ»[١٢]، وفي جميع الروايات أنّه اعترف بأنّها بدعة، ثمّ استحسنها، فنسي قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم «أَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»[١٣]، وقوله: «إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»[١٤]، ولم يعلم أنّها لو كانت حسنة لأمر بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؛ كما قال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَعِّدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ»[١٥]، وقال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»[١٦]، وكانت هذه زلّة من عمر، فخالفه جماعة من فقهاء الصحابة والتابعين؛ منهم عليّ بن أبي طالب؛ كما روي أنّه لمّا قدم الكوفة في خلافته اجتمع إليه الناس، فسألوه أن ينصب لهم إمامًا يصلّي بهم نافلة شهر رمضان، فزجرهم وعرّفهم أنّ ذلك خلاف السنّة، فتركوه واجتمعوا لأنفسهم، وقدّموا بعضهم، فبعث إليهم ابنه الحسن عليه السلام، فدخل عليهم المسجد ومعه الدرّة، فلمّا رأوه تبادروا الأبواب، وصاحوا: «وَاعُمَرَاهُ!»[١٧]، وفي رواية أخرى أنّه أمر الحسن بن علي عليه السلام أن ينادي في الناس: «لَا صَلَاةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ جَمَاعَةً»، فنادى في الناس الحسن بما أمره به أبوه، فلمّا سمع الناس مقالته صاحوا: «وَاعُمَرَاهُ! وَاعُمَرَاهُ!» فلمّا رجع الحسن إلى عليّ قال له: «مَا هَذَا الصَّوْتُ؟!» فقال: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، النَّاسُ يَصِيحُونَ: وَاعُمَرَاهُ، وَاعُمَرَاهُ»! فقال عليّ: «قُلْ لَهُمْ صَلُّوا»[١٨]، فأذن لهم كارهًا مخافة الفتنة، وروي أنّه لمّا كان بالكوفة أتاه الناس، فقالوا: «اجْعَلْ لَنَا إِمَامًا يَؤُمُّنَا فِي رَمَضَانَ»، فقال لهم: «لَا»، ونهاهم أن يجتمعوا فيه، فلمّا أمسوا جعلوا يقولون: «ابْكُوا رَمَضَانَ، وَارَمَضَانَاهُ»، فأتى الحارث الأعور في أناس، فقال: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ضَجَّ النَّاسُ وَكَرِهُوا قَوْلَكَ»، فقال عليه السلام عند ذلك: «دَعُوهُمْ وَمَا يُرِيدُونَ، لِيُصَلِّيَ بِهِمْ مَنْ شَاؤُوا»[١٩]، ولذلك جاءت روايات بأنّهم كانوا يصلّونها في زمان عليّ[٢٠]، وروي أنّه خطب يومًا، فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ، وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ، يُقَلِّدُ فِيهَا رِجَالٌ رِجَالًا، أَلَا إِنَّ الْحَقَّ لَوْ خَلَصَ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافٌ، وَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي حِجًى، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ، فَيُمْزَجَانِ، فَيَجِيئَانِ مَعًا، فَهُنَالِكَ اسْتَوْلَى الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَنَجَا الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبَسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، يَجْرِي النَّاسُ عَلَيْهَا وَيَتَّخِذُونَهَا سُنَّةً، فَإِذَا غُيِّرَ مِنْهَا شَيْءٌ قِيلَ قَدْ غُيِّرَتِ السُّنَّةُ»، ثمّ أقبل بوجهه، وحوله ناس من أهل بيته وشيعته، فقال: «قَدْ عَمِلَتِ الْوُلَاةُ قَبْلِي أَعْمَالًا خَالَفُوا فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مُتَعَمِّدِينَ لِخِلَافِهِ نَاقِضِينَ لِعَهْدِهِ مُغَيِّرِينِ لِسُنَّتِهِ، وَلَوْ حَمَلْتُ النَّاسَ عَلَى تَرْكِهَا وَحَوَّلْتُهَا إِلَى مَوَاضِعِهَا وَإِلَى مَا كَانَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، لَتَفَرَّقَ عَنِّي جُنْدِي، حَتَّى أَبْقَى وَحْدِي، أَوْ قَلِيلٌ مِنْ شِيعَتِي»، فذكر من ذلك شيئًا كثيرًا حتّى قال: «وَاللَّهِ لَقَدْ أَمَرْتُ النَّاسَ أَنْ لَا يَجْتَمِعُوا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَّا فِي فَرِيضَةٍ، وَأَعْلَمْتُهُمْ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ فِي النَّوَافِلِ بِدْعَةٌ، فَتَنَادَى بَعْضُ أَهْلِ عَسْكَرِي مِمَّنْ يُقَاتِلُ مَعِي: يَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، غُيِّرَتْ سُنَّةُ عُمَرَ! يَنْهَانَا عَنِ الصَّلَاةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَطَوُّعًا! وَلَقَدْ خِفْتُ أَنْ يَثُورُوا فِي نَاحِيَةِ جَانِبِ عَسْكَرِي»[٢١]، وممّن خالف عمر في هذه البدعة ابنه عبد اللّه؛ كما روى عنه نافع «أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي خَلْفَ الْإِمَامِ فِي رَمَضَانَ»[٢٢]، وفي رواية أخرى: «أَنَّهُ كَانَ لَا يَقُومُ مَعَ النَّاسِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ»[٢٣]، وروى مجاهد، قال: «قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ: أُصَلِّي خَلْفَ الْإِمَامِ فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَ: أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: صَلِّ فِي بَيْتِكَ»[٢٤]، وكان يقول: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَإِنْ رَآهَا النَّاسُ حَسَنَةً»[٢٥]، كأنّه يردّ على أبيه، ومنهم عروة بن الزبير؛ فإنّه «كَانَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ مَعَ النَّاسِ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَلَا يَقُومُ مَعَ النَّاسِ»[٢٦]، وكذلك كان سالم، والقاسم، وعلقمة، والأسود، ونافع، وهم من كبار التابعين[٢٧]، وكان مجاهد يقول: «إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ عَشْرُ سُوَرٍ فَلْيُرَدِّدْهَا، وَلَا يَقُومُ فِي رَمَضَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ»[٢٨]، فقال إبراهيم النخعيّ: «لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعِي إِلَّا سُورَتَانِ رَدَّدْتُهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي رَمَضَانَ»[٢٩]، وروي «أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ، وَالْإِمَامُ يُصَلِّي بِهِمْ فِيهِ»[٣٠]، وكذلك ابن محيريز، «كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ فِي مُقَدَّمِهِ لِلْقِيَامِ»[٣١]، وروى عبد الملك بن عمير، قال: «رَأَيْتُ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ وَنَاسٌ مَعَهُ يُصَلُّونَ وُحْدَانًا فِي رَمَضَانَ وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ، وَرَأَيْتُ شَبَثًا يُصَلِّي فِي سُتْرَةٍ وَحْدَهُ»[٣٢]، وروى عمر بن عثمان، قال: «سَأَلْتُ الْحَسَنَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، يَجِيءُ رَمَضَانُ، فَيَقُومُ النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ، فَمَا تَرَى أَقُومُ مَعَ النَّاسِ أَوْ أُصَلِّي أَنَا لِنَفْسِي؟ قَالَ: تَكُونُ أَنْتَ تَفُوهُ الْقُرْآنَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُفَاهَ عَلَيْكَ بِهِ»[٣٣]، فأمره بالصلاة منفردًا، وسئل مالك عن مثل ذلك، فقال: «إِنْ كَانَ يَقْوَى فِي بَيْتِهِ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ هُرْمُزَ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ بِأَهْلِهِ، وَكَانَ رَبِيعَةُ وَعَدَدٌ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ يَنْصَرِفُ وَلَا يَقُومُ مَعَ النَّاسِ، وَأَنَا أَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ»[٣٤]، وقال: «لَا أَشُكُّ أَنَّ قِيَامَ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنَ الْقِيَامِ مَعَ النَّاسِ إِذَا قَوِيَ عَلَى ذَلِكَ، وَمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَّا فِي بَيْتِهِ»[٣٥]، وقال أبو يوسف: «مَنْ قَدَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ كَمَا يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ فِي رَمَضَانَ فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ»[٣٦]، وقال الشافعيّ: «أَمَّا قِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ»[٣٧]، وكان يحيي بن سعيد يصلّي العشاء بالمدينة في المسجد مع الإمام في رمضان، ثمّ ينصرف، فسئل عن ذلك، فقال: «كُنْتُ أَقُومُ، ثُمَّ تَرَكْتُ ذَلِكَ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُ أَنْ أَقُومَ لِنَفْسِي أَحَبُّ إِلَيَّ»[٣٨]، وروي عن جعفر الصادق أنّه قال: «الْقِيَامُ فِي جَمَاعَةٍ فِي لَيَالِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِدْعَةٌ، وَمَا صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ كَانَ خَيْرًا مَا تَرَكَهَا، وَقَدْ صَلَّى فِي بَعْضِ لَيَالِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَحْدَهُ، فَقَامَ قَوْمٌ خَلْفَهُ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ دَخَلَ بَيْتَهُ»[٣٩]، وقال عليّ بن موسى الرضا فيما كتبه للمأمون في محض الإسلام وشرائع الدّين: «لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ التَّطَوَّعَ فِي جَمَاعَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ»[٤٠].
هكذا كان موقف فقهاء أهل البيت والصحابة والتابعين وأتباعهم من هذه البدعة، «وَلَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ»[٤١]، والغريب موقف أبي أمامة الباهليّ، وكان له صحبة، فإنّه قال: «أَحْدَثْتُمْ قِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، إِنَّمَا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ، فَدُومُوا عَلَى الْقِيَامِ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ، وَلَا تَتْرُكُوهُ، فَإِنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدْعَةً لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمُ ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ، فَلَمْ يَرْعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَعَابَهُمُ اللَّهُ بِتَرْكِهَا، قَالَ: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾[٤٢]»[٤٣]، وهذا سوء فهم لكتاب اللّه؛ فإنّه لم يعب بني إسرائيل بترك البدعة، ولكن عابهم بأمرين: الأوّل أنّهم ابتدعوا الرهبانيّة؛ فإنّ اللّه لم يكتبها عليهم، ولكن كتب عليهم ابتغاء رضوان اللّه، وهذا ما أراد بالإستثناء المنقطع، والثاني أنّهم ما رعوا حتّى الرهبانيّة التي ابتدعوها؛ فإنّهم ابتدعوها اعتزالًا من الناس حتّى يخرج النبيّ الذي وعدهم اللّه، فينجيهم من القوم الكافرين، فلمّا خرج النبيّ لم يؤمنوا به، فنقضوا شرطهم فيما ابتدعوه، فأصبح عملهم ذنبًا على ذنب، ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾[٤٤]!
الحاصل أنّ صلاة الليل جماعة في شهر رمضان بدعة، ولو لم تكن إلّا هي لكفى بها ضلالة، ولكنّ الناس لم يكتفوا بها حتّى ضمّوا إليها بدعًا أخرى؛ منها ختم القرآن فيها مرّة أو مرّتين، وهو لا يتيسّر غالبًا إلّا بقراءة سريعة جدًّا، بحيث لا يُفهم كثير من كلمات اللّه، مع أنّ اللّه قد نهى عن ذلك بصراحة، فقال: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾[٤٥]، وقال: ﴿رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾[٤٦]، وروي عن أمّ سلمة «أَنَّهَا نَعَتَتْ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قِرَاءَةً مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرْفًا»[٤٧]، وروي أنّ رجلًا جاء إلى عبد اللّه بن مسعود، فقال: «إِنِّي قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ الْبَارِحَةَ فِي رَكْعَةٍ»، فغضب وقال: «إِنَّمَا فُصِّلَ لِتُفَصِّلُوهُ، أَهَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، وَنَثْرًا كَنَثْرِ الدَّقَلِ[٤٨]؟!»[٤٩]، وفي رواية أخرى أنّه قال: «لَا تَهُذُّوا الْقُرْآنَ كَهَذِّ الشِّعْرِ، وَلَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ، وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ»[٥٠]، وروي مثله عن عليّ بن أبي طالب[٥١]، وروي عن ابن عبّاس أنّه قال: «لَأَنْ أَقْرَأَ الْبَقَرَةَ فِي لَيْلَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ»[٥٢]، وفي رواية أخرى أنّه قال: «لَأَنْ أَقْرَأَ الْبَقَرَةَ فَأُرَتِّلَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَهُذَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ»[٥٣]، وعن محمّد بن كعب القرظيّ أنّه قال: «لَأَنْ أَقْرَأَ فِي لَيْلَتِي حَتَّى أُصْبِحَ بِإِذَا زُلْزِلَتْ وَالْقَارِعَةُ أُرَدِّدُهُمَا وَأَتَفَكَّرُ فِيهِمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَهُذَّ الْقُرْآنَ لَيْلَتِي هَذًّا»[٥٤]، وروي عن جعفر الصادق أنّه قال: «إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يُقْرَأُ هَذْرَمَةً، وَلَكِنْ يُرَتَّلُ تَرْتِيلًا، فَإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ فَقِفْ عِنْدَهَا، وَسَلِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الْجَنَّةَ، وَإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ فَقِفْ عِنْدَهَا، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ»[٥٥]، وقد أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
مَرَّ الْمَنْصُورُ عَلَى مَسْجِدٍ فِي لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ، فَسَمِعَ الْقَارِئَ يَقْرَأُ هَذْرَمَةً وَهُوَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي التَّرَاوِيحِ، فَقَالَ: مَا لَهُ؟! قَاتَلَهُ اللَّهُ! أَيَتَّخِذُ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا؟ قُلْتُ: يَتَكَلَّفُ الْخَتْمَ جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَقَالَ: بِدْعَةٌ عَلَى بِدْعَةٍ، كَظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ قَوْمًا يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، فَلَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَإِنَّ هَذَا مِنْهُمْ.
أراد بقوله: «بِدْعَةٌ عَلَى بِدْعَةٍ» بدعة ختم القرآن هذًّا في بدعة التراويح جماعة، وإطالة القراءة أيضًا بدعة إذا كانت في صلاة الجماعة؛ لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نهى عنها؛ كما روي «أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ صَلَّى الْعِشَاءَ، فَطَوَّلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟! خَفِّفْ عَلَى النَّاسِ، وَاقْرَأْ بِـ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾، وَبِـ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا تَشُقَّ عَلَى النَّاسِ»[٥٦]، وهذه البدعة أيضًا قد شاعت بين الناس منذ زمان عمر؛ كما روي عن السائب بن يزيد أنّه قال: «أَمَرَ عُمَرُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَقَدْ كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ، حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلَّا فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ»[٥٧]، ولا شكّ أنّ البدعة يجب تركها وإن كانت عبادة في أصلها؛ فقد روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «عَمَلٌ قَلِيلٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مَنْ عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي بِدْعَةٍ»[٥٨]، وقال: «لَا يُقْبَلُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إِلَّا بِإِصَابَةِ السُّنَّةِ»[٥٩]، وقال: «أَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ حَتَّى يَدَعَ بِدْعَتَهُ»[٦٠]، وقال: «طُوْبَى لِمَنْ وَسِعَتْهُ السُّنَّةُ، وَلَمْ يَعْدُهَا إِلَى بِدْعَةٍ»[٦١]، وعن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال: «اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنَ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ»[٦٢]، وعن جعفر الصادق أنّه قال: «الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْعَمَلِ فِي اتِّبَاعِ الْآثَارِ وَالسُّنَنِ وَإِنْ قَلَّ أَرْضَى لِلَّهِ وَأَنْفَعُ عِنْدَهُ فِي الْعَاقِبَةِ مِنَ الْإِجْتِهَادِ فِي الْبِدَعِ»[٦٣]، وعن أيوب السختيانيّ أنّه قال: «مَا ازْدَادَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ اجْتِهَادًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا»[٦٤]، وروي أنّ رجلًا كان يكثر الصلاة في غير سنّة، فحصبه ابن عمر ونهاه، فقال الرجل: «أَتَرَى اللَّهَ يُعَذِّبُنِي عَلَى كَثْرَةِ الصَّلَاةِ؟!» فقال ابن عمر: «لَا، وَلَكِنْ يُعَذِّبُكَ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ»[٦٥]، وروي عن بعض أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عِبَادَةً مَفْتُونٌ، يَعْنِي صَاحِبَ بِدْعَةٍ»[٦٦]، وروي مرفوعًا «أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِبِدْعَةٍ خَلَّاهُ الشَّيْطَانُ وَالْعِبَادَةَ، وَأَلْقَى عَلَيْهِ الْخُشُوعَ وَالْبُكَاءَ»[٦٧]، وروي أنّ رجلًا قال للحسن: «يَا أَبَا سَعِيدٍ، إِنَّ قَوْمًا يَجْتَمِعُونَ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَقْرَؤُونَ، وَيَبْكُونَ، وَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ، فَإِذَا انْصَرَفُوا فَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ شَيْءٌ»، فقال الحسن: «إِنَّ مِنَ الْبُكَاءِ خُدَعًا كَخُدَعِ بَنِي يَعْقُوبَ، إِذْ جَاؤُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ»[٦٨]، وقال: «مَا ازْدَادَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ عِبَادَةً إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا»[٦٩]، وقال: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ صِيَامًا، وَلَا صَلَاةً، وَلَا زَكَاةً، وَلَا حَجًّا، وَلَا جِهَادًا، وَلَا عُمْرَةً، وَلَا صَدَقَةً، وَلَا عِتْقًا، وَلَا صَرْفًا، وَلَا عَدْلًا»[٧٠]، وعن مطر الورّاق أنّه قال: «مَنْ عَمِلَ فِي سُنَّةٍ قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ، وَمَنْ عَمِلَ فِي بِدْعَةٍ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِدْعَتَهُ»[٧١]، وقال محمّد بن الفضل: «قَلَّ مَا جَلَسْنَا إِلَى فُضَيْلِ بْنِ عَيَاضٍ إِلَّا أَتَانَا بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَلَا يَقْبَلُهُ إِلَّا عَلَى السُّنَّةِ»[٧٢]، وكان أبو الأحوص يقول لنفسه: «يَا سَلَّامُ، نَمْ عَلَى سُنَّةٍ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَقُومَ عَلَى بِدْعَةٍ»[٧٣]، وكان أبو إدريس الخولانيّ يقول: «لَأَنْ أَرَى فِي الْمَسْجِدِ نَارًا لَا أَسْتَطِيعُ أُطْفِيهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَى فِيهِ بِدْعَةً لَا أَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا»[٧٤].
هذا هو الحقّ الذي عليه السيّد العلامة المنصور الهاشمي الخراساني حفظه اللّه تعالى؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
كُنَّا عِنْدَ الْمَنْصُورِ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ لَيَالِيَ رَمَضَانَ، فَقَالَ: إِنَّهَا بِدْعَةٌ، قَالَ: فَلَا أُصَلِّيهَا؟ قَالَ: إِنَّهَا بِدْعَةٌ، قَالَ: فَلَا أُصَلِّيهَا؟ مَرَّتَيْنِ، فَغَضِبَ الْمَنْصُورُ، وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا، وَقَالَ: مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ هَذَا الْجَاهِلِ؟! أَقُولُ لَهُ: إِنَّهَا بِدْعَةٌ، فَيَقُولُ لِي: فَلَا أُصَلِّيهَا؟ أَلَا يَرْضَى مِنِّي إِلَّا أَنْ أَقُولَ لَهُ: لَا تُصَلِّ؟! لَا وَاللَّهِ، لَا يَسْمَعُ اللَّهُ مِنِّي هَذَا اللَّفْظَ!
وأخبرنا بعض أصحابه، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ نَوَافِلِ لَيَالِي شَهْرِ رَمَضَانَ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: بِدْعَةٌ، قُلْتُ: رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ يُصَلِّيهَا، فَلِمَ لَا تَنْهَاهُ؟! قَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ ﴿الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾[٧٥]، ثُمَّ قَالَ: قُلْ لَهُ يُصَلِّيهَا فِي بَيْتِهِ، أَوْ يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ، قُلْتُ: إِنَّهُ يُصَلِّيهَا عِشْرِينَ رَكْعَةً، فَهَلَّا أَقُولُ لَهُ يُصَلِّيهَا ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ؟ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ فِي صَلَاتِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَا يَشَاءُ، قُلْتُ: عِشْرِينَ رَكْعَةً؟ قَالَ: عِشْرِينَ رَكْعَةً وَأَكْثَرَ.
وفّقنا اللّه تعالى لإقامة السنّة وترك البدعة، ولو كره الضّالّون.