في العلوم التي لها ماهيّة غير دينيّة مثل الفيزياء والهندسة والزراعة والإدارة والإقتصاد والطبّ، عادة ما يكون إجماع مجموعة من الخبراء مقبولًا. هل يرى السيّد المنصور أنّ الإجماع غير معتبر في هذه العلوم أيضًا؟ هل يجب في هذه العلوم أيضًا الرجوع إلى خليفة اللّه في الأرض؟
المراد بالإجماع عند أهل الفقه هو اتّفاق جميع المسلمين أو جميع أهل العلم على حكم شرعيّ، وهو مثبت للحكم الشرعيّ فيما يزعمون؛ لأنّه لا يمكن أن يتّفق جميع المسلمين أو جميع أهل العلم على باطل، وهذا صحيح اعتبارًا لوجود خليفة اللّه فيهم؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾[١]، ولذلك يستحيل شرعًا اتّفاقهم على الباطل، لكنّ هذا الإتّفاق لا يكون معلومًا ولا نافعًا؛ لأنّه لا يمكن إحصاء آراء جميع المسلمين أو جميع أهل العلم بالنظر إلى كثرتهم واختفاء بعضهم، ولأنّ ما يراه جميعهم ثابتًا لا يحتاج إلى إثبات حتّى يُستدلّ لإثباته باتّفاقهم عليه! من هنا يعلم أنّ عدم إمكان إثبات الحكم الشرعيّ استنادًا إلى الإجماع هو من باب سالبة بانتفاء الموضوع، نظرًا لتعذّر الإستقراء التامّ من ناحية، وعدم إمكان تحصيل الحاصل من ناحية أخرى، ومراد السيّد المنصور من عدم حجّيّة الإجماع هو هذا.
أمّا «إجماع مجموعة من الخبراء» فهي عبارة متناقضة؛ لأنّ مفهومها وجود خلاف بين الخبراء، ومن البديهيّ أنّ خلافهم ليس مثل اتّفاقهم. إنّما الإجماع اتّفاق الجميع، وهو ما لا يمكن التحقّق منه، سواء كان في الشرعيّات أو في الطبيعيّات. نعم، يمكن الإطّلاع على آراء كثير منهم وعدم الإطّلاع على رأي مخالف، وهذا ما يسمّيه البعض إجماعًا على سبيل التسامح، لكنّ العقل لا يعتبره كافيًا لإثبات أيّ حكم وإن كان طبيعيًّا؛ كما كان «مجموعة من الخبراء» طوال مئات السنين متّفقين على تسطّح الأرض، ودوران الشمس حولها، ووجود أربعة عناصر وتسعة أفلاك وسبعة أقاليم في العالم، بدون أن يُعرف لهم مخالف، ومع ذلك تبيّن عدم صحّته.
أمّا الرّجوع إلى خليفة اللّه في العلوم التي لها ماهيّة غير دينيّة مثل الفيزياء والهندسة والزراعة والإدارة والإقتصاد والطبّ، فغير واجب؛ لأنّ هذه العلوم لها ماهيّة حقيقيّة وغير اعتباريّة، وهي تعرف بواسطة العقل؛ إلّا في جوانب منها لها أحكام شرعيّة، مثل حكم بناء البيت عاليًا، وبناء الكنيف مستقبل القبلة، وحكم المزارعة والمساقاة والمضاربة، وحكم الربا والمكاسب المحرّمة، وحكم ضمان الطبيب، وما إلى ذلك. مع هذا، قد يكون الرجوع إلى خليفة اللّه في هذه العلوم أيضًا مفيدًا للغاية، بل لا يبعد أن يكون كثير من هذه العلوم ممّا تمّ تعليمه بواسطة خلفاء اللّه؛ كما روي أنّ أوّل من قال الشعر آدم عليه السلام، وأوّل من خطّ بالقلم إدريس عليه السلام، وهو أوّل من خاط الثياب ولبسها، وكان الناس من قبله يلبسون الجلود، وقيل أنّ اللّه علّمه النجوم والحساب وعلم الهيئة، وروي أنّ أوّل من عمل سفينة تجري على ظهر الماء نوح عليه السلام، وأوّل من رتّب العسكر في الحرب ميمنة وميسرة وقلبًا ورفع الرايات إبراهيم عليه السلام لمّا سار لقتال الذين أسروا لوطًا عليه السلام، وهو أوّل من اتّخذ النعلين، وأوّل من ركب الخيل إسماعيل عليه السلام، وكانت وحشيّة لا تُركب، وأوّل من عمل المكيال والميزان شعيب عليه السلام، وأوّل من صنع الدّرع داود عليه السلام، إنّما كانت صفائح، فهو أوّل من سردها وحلّقها فجمعت الخفّة والتحصين، ويدلّ على ذلك قول اللّه تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾[٢]، وأوّل من اتّخذ السكّر سليمان عليه السلام، وهو أوّل من صنعت له النورة ودخل الحمّام، وأوّل من بنى ردمًا على الأرض ذو القرنين، واللّه أعلم.