ما رأي السيّد العلامة المنصور الهاشمي الخراساني في ذي القرنين؟ بعض المفسّرين يعتقدون أنّه كورش الكبير ملك فارس.
أكثر المفسّرين الذين يعتقدون أنّ ذا القرنين في القرآن هو كورش الكبير ملك فارس ما لهم بذلك من علم، إن يتّبعون إلا الظنّ وإن هم إلا يخرصون، ومنهم فارسيّون يتعصّبون لقومهم؛ كما أنّ كثيرًا من المنكرين لذلك أيضًا مصابون بمثل هذه العلّة، ولديهم دوافع عنصريّة ومعادية للفارسيّة، في حين أنّ القضايا الإسلاميّة ليست مكانًا مناسبًا لهذه الألعاب، ومن الخطير جدًّا إدخال الصراعات السياسيّة والعرقيّة إلى عالم الدّين. لهذا السبب، فإنّ العالم الحكيم السيّد المنصور الهاشمي الخراساني حفظه اللّه تعالى لا يرى هؤلاء مستأهلين للعلم، ويكره وضع الحكمة بين أيديهم؛ لأنّهم يتّخذون العلم وسيلة إلى العلوّ في الحياة الدّنيا، ويستخدمون الحكمة ضدّ الحكيم، وفيهم أناس يسرقون من علمه ما يعجبهم ويوافق أهواءهم، ولا يذكرون اسمه بغضًا وحسدًا ليكتموا الحقّ ويلبسوه بالباطل؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
كُنْتُ عِنْدَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي دَارِهِ فَوَجَدْتُهُ فَارِغًا، فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَسْأَلُكَ؟ فَقَالَ بِرَأْسِهِ: نَعَمْ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُسَبِّحُ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يَخْتَلِفُونَ فِي ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَأَنْتَ عَالِمُهُمْ وَسَيِّدُهُمْ، فَإِنْ رَأَيْتَ -جُعِلْتُ فِدَاكَ- أَنْ تُخْرِجَهُمْ فِيهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ فَعَلْتَ، فَمَكَثَ حَتَّى قَضَى سُبْحَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: دَعْنِي مِنْ هَؤُلَاءِ السَّفَلَةِ الْمَرَدَةِ الْقَائِلِينَ عَلَى اللَّهِ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ، أَلَا تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ هَبَطَ مِنْهَا مَعَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، حَتَّى يَرْجِعَ مَعَ آخِرِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ؟! أَفَتُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ مِثْلَ هَذَا الْكَنْزِ فِي أَيْدِي الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْمُدْمِنِينَ عَلَى الْمُخَدِّرَاتِ؟! لَا وَاللَّهِ لَيْسَ هَؤُلَاءِ بِمَأْمُونِينَ عَلَيْهِ وَلَا مِنْ أَهْلِهِ، وَإِنَّ فِيهِمْ سَارِقِينَ يَسْرُقُونَهُ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا وَيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى حُجَجِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ، ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ﴾[١]! فَنَدَمْتُ عَلَى مَسْأَلَتِي حَتَّى رَأَى ذَلِكَ فِي وَجْهِي، فَقَالَ: كَانَ الْيَهُودُ يَجِدُونَ ذَا الْقَرْنَيْنِ عِنْدَهُمْ فِي كِتَابِ دَانِيَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَسَأَلُوا عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لِيَعْلَمُوا أَيُوحَى إِلَيْهِ أَمْ لَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا﴾[٢]، قُلْتُ: وَمَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي كِتَابِ دَانِيَالَ؟ قَالَ: إِنَّ دَانِيَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى فِي الْمَنَامِ كَبَشًا لَهُ قَرْنَانِ طَوِيلَانِ، أَحَدُهُمَا أَطْوَلُ مِنَ الْآخَرِ، وَرَآهُ يَنْطَحُ غَرْبًا وَشَرْقًا وَشَمَالًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْدِرَ حَيَوَانٌ عَلَى دَفْعِهِ، حَتَّى عَظُمَ شَأْنُهُ، فَأَخْبَرَهُ جَبْرَئِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ الْكَبَشَ ذَا الْقَرْنَيْنِ هُوَ مَلِكُ مَادِي وَفَارِسَ، قُلْتُ: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ آتَاكَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ! أَفَأُحَدِّثَهُمْ عَنْكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ؟ قَالَ: حَدِّثْهُمْ بِهِ، أَرْغَمَ اللَّهُ أُنُوفَ قَوْمٍ مُسْتَكْبِرِينَ.[٣]
من قول جنابه هذا يعلم أنّ ذا القرنين هو كورش الكبير ملك فارس الذي وحّد مُلك فارس ومادي، ثمّ سار نحو الغرب والشرق والشمال، ونال العديد من الفتوحات؛ كما أشار اللّه تعالى في كتابه إلى هذا السير وهذه الفتوحات في الجهات الثلاثة، وأخبر عن سيرته المرضيّة في كلّ منها، ولا شكّ أنّ أهمّ الدليل على ذلك آيات من التوراة أشار إليها السيّد العلامة حفظه اللّه تعالى؛ لأنّ ما نزل في ذي القرنين من القرآن نزل إجابة على سؤال اليهود، واليهود لم يعرفوا من ذي القرنين إلّا ما ذُكر منه في كتاب دانيال عليه السلام من أنّه «ملك مادي وفارس»، بالنظر إلى أنّه ينطح شرقًا وغربًا ككبش ذي قرنين. من الواضح تاريخيًّا أنّ كورش هو أوّل ملك لفارس ومادي كان له فتوحات واسعة ومهمّة في الشرق والغرب. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الصفات المحمودة التي ذكرها القرآن لذي القرنين إنّما تلائم الصفات المذكورة لكورش، واليهود أيضًا لم يعرفوها إلا لكورش؛ لأنّه مذكور في التوراة ٢٣ مرّة على الأقلّ، وفي كلّ مرّة بإكرام وتعظيم؛ كما ذُكر فيها بصفة «مسيح اللّه»، وأنّه قد أعطي «جميع ممالك الأرض»، وهذه موافقة لوصف القرآن لذي القرنين: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾[٤]، وقد جاء في كتاب إشعياء: «هَكَذَا يَقُولُ اللَّهُ لِمَسِيحِهِ، لِكُورَشَ الَّذِي أَمْسَكْتُ بِيَمِينِهِ لِأَدُوسَ أَمَامَهُ أُمَمًا، وَأَحُلُّ أَحْقَاءَ مُلُوكٍ، لِأَفْتَحَ أَمَامَهُ الْمِصْرَاعَيْنِ، وَالْأَبْوَابُ لَا تُغْلَقُ: <أَنَا أَسِيرُ قُدَّامَكَ وَأُمَهِّدُ الْهِضَابَ، أُكَسِّرُ مِصْرَاعَيِ النُّحَاسِ، وَأَقْصِفُ مَغَالِيقَ الْحَدِيدِ، وَأُعْطِيكَ ذَخَائِرَ الظُّلْمَةِ وَكُنُوزَ الْمَخَابِئِ، لِكَيْ تَعْرِفَ أَنِّي أَنَا اللَّهُ الَّذِي يَدْعُوكَ بِاسْمِكَ، إِلَهُ إِسْرَائِيلَ>»[٥]، وجاء: «أَنَا قَدْ أَنْهَضْتُ كُورَشَ لِيَنْتَصِرَ، وَأُسَهِّلُ كُلَّ طُرُقِهِ، هُوَ يَبْنِي مَدِينَتِي وَيُطْلِقُ سَبْيِي، لَا بِثَمَنٍ وَلَا بِهَدِيَّةٍ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ»[٦]، وجاء: «الْقَائِلُ عَنْ كُورَشَ: هُوَ رَاعِيَّ الَّذِي يُتَمِّمُ كُلَّ مَسَرَّتِي»[٧]. لا شكّ أنّ هذا موافق لصفة ذي القرنين في القرآن؛ فإنّه يصفه بأنّه كان مرضيًّا ووجيهًا عند اللّه، وكان له سيرة حسنة وعادلة، وقد جاء في كتاب عزرا: «وَفِي السَّنَةِ الْأُولَى لِكُورَشَ مَلِكِ فَارِسَ إِتَمَامًا لِكَلَامِ اللَّهِ بِفَمِ إِرْمِيَا، نَبَّهَ اللَّهُ رُوحَ كُورَشَ مَلِكِ فَارِسَ، فَأَطْلَقَ نِدَاءً فِي كُلِّ مَمْلَكَتِهِ وَبِالْكِتَابَةِ أَيْضًا قَائِلًا: <هَكَذَا قَالَ كُورَشُ مَلِكُ فَارِسَ: الرَّبُّ إِلَهُ السَّمَاءِ أَعْطَانِي جَمِيعَ مَمَالِكِ الْأَرْضِ، وَهُوَ أَوْصَانِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا فِي أُورُشَلِيمَ الَّتِي فِي يَهُوذَا. فَمَنْ مِنْكُمْ مِنْ كُلِّ شَعْبِهِ يَكُونُ إِلَهُهُ مَعَهُ، فَلْيَصْعَدْ إِلَى أُورُشَلِيمَ الَّتِي فِي يَهُوذَا لِيَبْنِيَ بَيْتَ الرَّبِّ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ. هُوَ الْإِلَهُ الَّذِي فِي أُورُشَلِيمَ>»[٨]. هذا القول من كورش دليل واضح على إيمانه باللّه واهتمامه بنشر عبادة اللّه، وهو موافق لما جاء في القرآن عن ذي القرنين؛ فإنّ القرآن أشار إلى أنّ ملك ذي القرنين كان من عند اللّه، وأنّ اللّه أمره ببعض الأمور؛ كما قال: ﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾[٩]، ولم يُذكر في التاريخ ولا في التوراة ملك آخر بهذه الأوصاف. لذلك، لا ينبغي الشكّ في أنّ المراد بذي القرنين في القرآن هو كورش الذي سُمّي في التوارة «ذا القرنين» ووُصف بخصال جميلة، وممّا يؤيّد هذا ما روي عن بريدة الأسلميّ، قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَتَكُونُ بَعْدِي بُعُوثٌ كَثِيرَةٌ، فَكُونُوا فِي بَعْثِ خُرَاسَانَ، ثُمَّ انْزِلُوا مَدِينَةَ مَرْوَ، فَإِنَّهُ بَنَاهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ، وَدَعَا لَهَا بِالْبَرَكَةِ، وَلَا يَضُرُّ أَهْلَهَا سُوءٌ»[١٠]؛ علمًا بأنّ مرو كانت من مدن فارس، وكانت موجودة قبل دارا -الملك الثالث بعد كورش-؛ لأنّه ذكرها في نقش بيستون، ولذلك من القريب جدًّا أن كانت ممّا بناها كورش ملك فارس، وممّا يؤيّده أيضًا ما روي عن ابن عبّاس، قال: «أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَعْتَبِرَ مَلَكُوتَ السَّمَاءِ بِمَلَكُوتِ الْأَرْضِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَدَاوُدَ، فَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُمَا فَلْيَنْظُرْ إِلَى مُلْكِ فَارِسَ، فَقَالَ ذَلِكَ النَّبِيُّ: أَيْ رَبِّ، هَذَا دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ أَعْطَيْتَهُمَا نُبُوَّتَهُمَا وَفَضْلَهُمَا، فَمَا بَالُ فَارِسَ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ عَمَّرُوا بِلَادِي، فَعَاشُوا فِيهَا عِبَادِي»[١١]، والظاهر أنّه أراد ملك ذي القرنين؛ فإنّه فعل ذلك بإذن اللّه، وكان معاصرًا لأنبياء بني إسرائيل، كما ذُكر في كتبهم.