ما هي مدّة حكم المهديّ وماذا يحدث بعده؟ نظرًا لأنّ المهديّ هو آخر الأئمّة والخلفاء وفقًا للروايات.
روايات المسلمين في مدّة ملك المهديّ مختلفة. ففي رواية أبي سعيد الخدريّ أنّه «يَمْلِكُ سَبْعَ سِنِينَ، أَوْ ثَمَانِيَ سِنِينَ، أَوْ تِسْعَ سِنِينَ»[١]، وهي أشهر الروايات وأقواها سندًا، ولم ينفرد بها زيد العمّيّ خلافًا لما توهّم بعض، بل تابعه رجال كمقاتل بن حيّان ومطر بن طهمان وابن عمير الهجريّ عن أبي الصّدّيق، وقتادة وعطاء بن عجلان عن أبي نضرة، ومعمر بن راشد عن أبي هارون العبديّ، وأبي الواصل عن أبي أميّة الحبطيّ، ولها شاهد من رواية هشام بن حسّان، عن محمّد بن سيرين، عن أبي هريرة، وفي رواية أنّ المهديّ «يَقُومُ فِي عَالَمِهِ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً»[٢]، وهي مع ضعفها غير صريحة في مدّة ملكه، وفي أكثر المصادر أنّ ذلك «مِنْ يَوْمِ قِيَامِهِ إِلَى يَوْمِ مَوْتِهِ»[٣]، وفي رواية أنّه «يَمْلِكُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَشْهُرًا»[٤]، وهي صريحة وإسنادها قويّ، وفي رواية أنّه «يَمْلِكُ عِشْرِينَ سَنَةً»، رواها الطبرانيّ عن أبي أمامة من طريق عنبسة بن أبي صغيرة[٥]، وهو ضعيف، ولكن تتقوّى روايته بالرواية السابقة، وبما روى الطبريّ في الجزء المفقود من «تهذيب الآثار»[٦]، والجورقانيّ في «الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير»[٧] عن حذيفة بن اليمان، وذكره الديلميّ في «الفردوس بمأثور الخطاب»[٨]، وفي رواية: «يَلِي الْمَهْدِيُّ أَمْرَ النَّاسِ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً»، رواها ابن حمّاد في «الفتن»، قال: «حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَرْوَانَ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ عَلِيٍّ»[٩]، وبهذا قال بعض أهل العلم[١٠]، وفي رواية أنّ المهديّ «يَمْكُثُ سَبْعَ سِنِينَ، مِقْدَارُ كُلِّ سَنَةٍ عَشْرُ سِنِينَ مِنْ سِنِيِّكُمْ هَذِهِ، ثُمَّ يَفْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَشَاءُ»[١١]، وكلّ هذا محتمل غير مقطوع به، واللّه تعالى أعلم أيّ ذلك سيكون، وهذا كقوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[١٢]، وهكذا القول فيما سيحدث بعد المهديّ؛ فإنّما العلم عند اللّه، ولم يرد في الروايات ما يفيد العلم بذلك، بل ورد فيها ما يرشد إلى ترك القول في ذلك؛ كما تقدّم في رواية: «ثُمَّ يَفْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَشَاءُ»[١٣]، وفي رواية أخرى أنّ الأصبغ بن نباتة سأل عليًّا عليه السلام عمّا يكون بعد المهديّ، فقال عليّ عليه السلام: «ثُمَّ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ، فَإِنَّ لَهُ بَدَاءَاتٍ وَإِرَادَاتٍ وَغَايَاتٍ وَنِهَايَاتٍ»[١٤]، وهذا ظاهر في عدم التعيين.
أعتقد أنّ ضرورة وجود خليفة في الأرض من جانب وانحصار الخلفاء في الأئمّة الإثني عشر آخرهم المهديّ من جانب آخر، يستلزم أحد الأمرين: إمّا يعيش المهديّ إلى يوم القيامة، وإمّا يموت فيرجع الأئمّة السابقون إلى الدّنيا من بعده، وليس هناك احتمال ثالث.
لم يرد في الروايات ما يفيد العلم بما سيحدث بعد المهديّ كما بيّنّا ذلك، ولكن ورد فيها ما يفيد احتمالات أربعة:
١ . تقوم الساعة.
٢ . يرجع بعض الخلفاء السابقين إلى الدّنيا.
٣ . يقوم بالأمر رجال مهديّون.
٤ . يقوم بالأمر عيسى بن مريم عليه السلام.
أمّا الإحتمال الأوّل فموجود في كلّ حال، ولا ينبغي استبعاده في وقت من الأوقات؛ لقول اللّه تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[١]، وقوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾[٢]، وقوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ۖ فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ۚ فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾[٣]، وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ ۖ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾[٤]، وإلى هذا مال المفيد من الشيعة حيث قال: «أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ لَنْ يَمْضِيَ مَهْدِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا قَبْلَ الْقِيَامَةِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا يَكُونُ فِيهَا الْهَرْجُ وَعَلَامَةُ خُرُوجِ الْأَمْوَاتِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكُونُ»[٥].
أمّا الإحتمال الثاني فقد بيّنّا وجوده في الإجابة على السؤال ٣٥، وهو قول أكثر الشيعة، وممّن حكي عنه ذلك عامر بن واثلة، والأصبغ بن نباتة، ورُشَيد الهجريّ، وجابر بن يزيد الجعفيّ، ومسلم بن نُذير السعديّ، وكثيّر بن عبد الرّحمن الشاعر، وأبو حمزة الثماليّ، وأبو اليقظان البجليّ، والحارث بن حصيرة، والسيّد الحميريّ، وغيرهم.
أمّا الإحتمال الثالث فهو موجود أيضًا، وبه قال ابن عبّاس وعبد اللّه بن عمرو، وهو رواية عن أهل البيت؛ كما روي عن سعيد بن جبير أنّه قال: «سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَنَحْنُ نَقُولُ: اثْنَيْ عَشَرَ أَمِيرًا ثُمَّ لَا أَمِيرَ، وَاثْنَيْ عَشَرَ أَمِيرًا ثُمَّ هِيَ السَّاعَةُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أَحْمَقَكُمْ! إِنَّ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَنْصُورَ وَالسَّفَّاحَ وَالْمَهْدِيَّ يَدْفَعُهَا إِلَى عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ»[٦]، وروي عن عبد اللّه بن الحجّاج أنّه قال: «سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: يَكُونُ بَعْدَ الْجَبَّارِينِ الْجَابِرُ، يَجْبُرُ اللَّهُ بِهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، الْمَهْدِيُّ، ثُمَّ الْمَنْصُورُ، ثُمَّ السَّلَامُ، ثُمَّ أَمِيرُ الْعُصَبِ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْمَوْتِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلْيَمُتْ»[٧]، وروي عن أبي جعفر عليه السلام أنّ المهديّ يقوم في عالمه تسع عشرة سنة من يوم قيامه إلى يوم موته، ثمّ يخرج المنصور فيطلب بدم الحسين عليه السلام ودماء أصحابه، فيقتل ويسبي حتّى يخرج السفّاح[٨]، وروي عنه وابنه الصادق عليهما السلام: «يَكُونُ بَعْدَ الْقَائِمِ اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيًّا»[٩]، وفي رواية أخرى: «أَحَدُ عَشَرَ مَهْدِيًّا»[١٠]، والمستفاد من قول ابن عبّاس وابن عمرو وأبي جعفر أنّ أوّل هؤلاء المهديّين «المنصور»، وهو رجل يخرج من خراسان مع رايات سود فيمهّد للمهديّ سلطانه؛ كما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في وصفه: «رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَنْصُورٌ، يُوَطِّئُ أَوْ يُمَكِّنُ لِآلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا مَكَّنَتْ قُرَيْشٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ نَصْرُهُ»[١١]، وفي رواية أخرى: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّايَاتِ السُّودَ قَدْ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ خُرَاسَانَ فَأْتُوهَا، فَإِنَّ فِيهَا خَلِيفَةَ الْمَهْدِيِّ»[١٢]، وإنّما يكون هذا محتملًا إذا لم يكن هو وسائر خلفاء المهديّ أئمّة؛ لأنّ الأئمّة في الإسلام اثنا عشر آخرهم المهديّ[١٣]، فلا يمكن أن يكون بعد المهديّ إمام آخر. نعم، يمكن أن يكون له نوّاب خاصّة يحملون علمه ويحفظون أماناته حتّى يؤدّوها إلى عيسى بن مريم عليه السلام أو تقوم عليهم الساعة، والفرق بينهم وبين الأئمّة أنّهم مجرّد قرّاء القرآن ورواة الأحاديث الصحيحة لا يأمرون ولا ينهون إلا بدليل جليّ منهما؛ كما روي عن أبي بصير أنّه قال: «قُلْتُ لِلصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، إِنِّي سَمِعْتُ مِنْ أَبِيكَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: يَكُونُ بَعْدَ الْقَائِمِ اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيًّا، فَقَالَ: إِنَّمَا قَالَ: اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيًّا وَلَمْ يَقُلْ: اثْنَا عَشَرَ إِمَامًا، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ شِيعَتِنَا يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى مُوَالَاتِنَا وَمَعْرِفَةِ حَقِّنَا»[١٤]، وليس من المحال أن يكون هؤلاء بمنزلة خلفاء اللّه في الأرض؛ لأنّهم خلفاء خلفائه فيها، ويوفّقهم اللّه لطاعته وطاعة خلفائه حتّى تقوم الساعة أو ينزل عيسى بن مريم عليه السلام.
أمّا الإحتمال الرابع فموجود أيضًا، بل هو أقرب الإحتمالات وأقواها؛ لدلالة القرآن والسنّة على نزول عيسى بن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة، وتواتر الروايات في وقوع ذلك على عهد المهديّ، وعدم وجود دليل على موته قبل موت المهديّ، بل روي ما يدلّ على أنّه يعيش بعد المهديّ؛ كما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْمَهْدِيُّ أَوْسَطُهَا، وَعِيسَى آخِرُهَا»[١٥]، وفي رواية أخرى: «كَيْفَ تَهْلِكُ أُمَّةٌ أَنَا أَوَّلُهَا، وَعِيسَى بْنُ مَرْيَمَ فِي آخِرِهَا، وَالْمَهْدِيُّ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فِي وَسَطِهَا؟!»[١٦]، وفي رواية أخرى: «لَنْ يُخْزِيَ اللَّهُ أُمَّةً أَنَا أَوَّلُهَا، وَعِيسَى بْنُ مَرْيَمَ آخِرُهَا»[١٧]، وليس هذا بمعنى نسخ الإسلام؛ لأنّ عيسى بن مريم عليه السلام إنّما يحكم بالقرآن وسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؛ كما جاء في الرواية: «يَنْزِلُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَمْحُو الصَّلِيبَ، وَتُجْمَعُ لَهُ الصَّلَاةُ، وَيُعْطِي الْمَالَ حَتَّى لَا يُقْبَلَ، وَيَضَعُ الْخَرَاجَ، وَيَنْزِلُ الرَّوْحَاءَ، فَيَحُجُّ مِنْهَا أَوْ يَعْتَمِرُ، أَوْ يَجْمَعُهُمَا»[١٨]، وفي رواية أخرى: «فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيُعَطِّلُ الْمِلَلَ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا غَيْرَ الْإِسْلَامِ»[١٩].
هذه هي الحالات الأربعة التي يحتمل وقوعها بعد المهديّ، واللّه يعلم أيّها تقع، وليس علينا العلم بذلك في هذا الوقت، وإنّما علينا العمل بما علمنا، وهو التمهيد لظهور المهديّ من خلال نصرة المنصور الذي يدعو إليه، وهذا كما أمر اللّه رسوله بأن يقول: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾[٢٠].