من المعروف أنّ اليمانيّين لهم دور في نصرة اللّه ورسوله ودين الإسلام، وأنّهم من أوائل العرب في ذلك، ومع هذا لم يذكرهم النبيّ في الحديث الذي ذكر فيه عصائب العراق وأبدال الشام، كما لم يذكر الخراسانيّين. فهل يعني ذلك أنّه لن يكون لهم دور مع المهديّ، أم يعني ذلك أنّهم قد سبقوا أولئك إلى المهديّ؟
ليست الأشياء كلّها مذكورة في حديث واحد، بل ذُكر بعضها في حديث وبعضها في حديث آخر، ولذلك تجب مراعاة الأحاديث كلّها، ولا يجوز الإيمان ببعض والكفر ببعض إذا كانت كلّها صحيحة؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾[١]، وقد وردت أحاديث صحيحة في نصرة أهل خراسان للمهديّ، بل الظاهر منها أنّهم السابقون فيها، ولذلك أُمر الآخرون بإتيانهم ولو حبوًا على الثلج[٢]، ويمكن الجمع بينها وبين هذا الحديث بأنّهم بعد خروجهم من خراسان ينزلون العراق، ومنها يخرجون إلى مكّة لنصرة المهديّ، والشاهد على ذلك ما روي عن عليّ عليه السلام أنّه قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تَجِيءَ الرَّايَاتُ السُّودُ مِنْ قِبَلِ خُرَاسَانَ، حَتَّى يُوثِقُوا خُيُولَهُمْ بِنَخْلَاتِ بَيْسَانَ وَالْفُرَاتِ»[٣]، وعن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «تَنْزِلُ الرَّايَاتُ السُّودُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ خُرَاسَانَ الْكُوفَةَ، فَإِذَا ظَهَرَ الْمَهْدِيُّ بِمَكَّةَ بَعَثَتْ إِلَيْهِ بِالْبَيْعَةِ»[٤]، ولذلك لا يبعد أن يكون المراد بعصائب العراق هؤلاء؛ كما ورد في رواية حذيفة «عَصَائِبُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ»، ولم يرد «عَصَائِبُ الْعِرَاقِ»[٥]، والمتيقّن من أهل المشرق أهل خراسان، بل هم الظاهر عند الإطلاق.
وأمّا نصرة أهل اليمن للمهديّ فغير مذكورة في حديث صحيح، إلّا أنّه قد جاء في أثر قديم جدًّا أنّهم ينصرون المنصور الهاشميّ الذي يخرج من خراسان برايات سود، وعلى مقدّمته شعيب بن صالح؛ كما قال ابن هشام (ت٢١٣هـ) في «التيجان» أنّ عمران بن عامر كان ملكًا متوّجًا من ملوك اليمن، وكان بيده علم من بقايا دعاة سليمان عليه السلام، وكان له حظّ عظيم من ذلك، وكانت العرب لا تعدل بعلم عمران بديلًا، فلمّا حضره الموت دعا بأخيه عمرو وقال له: إنّ هذه البلاد ستخرب، يعني بلاد اليمن، وإنّ للّه عليها رحمتين وسخطتين: فالسخطة الأولى هدم سدّ مأرب وخراب البلاد بسببه، والسخطة الثانية غلبة الحبشة على أرض اليمن، والرّحمة الأولى بعثة نبيّ من تهامة اسمه محمّد، يرسل بالرّحمة ويغلب أهل الشرك، والرّحمة الثانية إذا خرب بيت اللّه يبعث اللّه رجلًا يقال له شعيب بن صالح، فيهلك من خرّبه ويخرجهم، حتى لا يكون بالدّنيا إيمان إلا بأرض اليمن[٦]، وقد ذكر ابن حجر (ت٨٥٢هـ) هذا الأثر في «فتح الباري»، وقال: «يُعْرَفُ مِنْهُ -إِنْ ثَبَتَ- اسْمُ الْقَحْطَانِيِّ وَسِيرَتُهُ وَزَمَانُهُ»[٧]، فاستدرك عليه البرزنجيّ (ت١١٠٣هـ) في «الإشاعة لأشراط الساعة» وقال: «لَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقَحْطَانِيُّ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شُعَيْبَ بْنَ صَالِحٍ التَّمِيمِيَّ الْقَادِمَ بِالرَّايَاتِ السُّودِ إِلَى الْمَهْدِيِّ؟ وَيُؤَيِّدُهُ كَوْنُ لَقَبِهِ: الْمَنْصُورَ، وَكَوْنُهُ رَحْمَةً لِأَهْلِ الْيَمَنِ لَا يُلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَيَكْفِي فِي كَوْنِهِ رَحْمَةً لَهُمْ كَوْنُهُ يَدْفَعُ الْحَبَشَةَ عَنْهُمْ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى إِيمَانٌ إِلَّا بِالْيَمَنِ»[٨]، وقد أصاب البرزنجيّ في قوله، إلّا أنّ المنصور ليس شعيب بن صالح التميميّ، بل هو الهاشميّ صاحب الرايات السود[٩]، وسيبعث شعيبًا على مقدّمته كما جاء في غير واحد من الأحاديث[١٠]، وفي الأثر دلالة على أنّه سيبعثه إلى اليمن أيضًا، فينصره أهلها، وفي نصرتهم له نصرة للمهديّ بلا شكّ؛ لأنّه يمهّد لظهوره، ولعلّ هذه هي العلّة لعدم ذكرهم في الحديث على حدة؛ لأنّهم يلحقون بالرايات السود التي تخرج من خراسان إلى المهديّ، فيكونون من «عَصَائِبِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ»، إن كان الأثر صحيحًا وكان المراد قبل ظهور المهديّ، وقد ورد في بعض الأحاديث أنّهم ينصرون المهديّ بعد حين من ظهوره أيضًا؛ كما ورد في حديث مقاتلة المهديّ للروم: «يَبْعَثُ إِمَامُهُمْ إِلَى الْيَمَنِ: أَعِينُونِي، فَيُقْبِلُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْيَمَنِ عَلَى قَلَائِصِ عَدَنَ، حَمَائِلُ سُيُوفِهُمُ الْمَسَدُ، يَقُولُونَ نَحْنُ عِبَادُ اللَّهِ حَقًّا حَقًّا، لَا نُرِيدُ عَطَاءً وَلَا رِزْقًا، حَتَّى يَأْتُوا الْمَهْدِيَّ بِعُمْقِ أَنْطَاكِيَّةَ، فَيَقْتَتِلُ الرُّومُ وَالْمُسْلِمُونَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَيُسْتَشْهَدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثُونَ أَلْفًا»[١١]، ولعلّهم المشار إليهم في حديث «يَخْرُجُ مِنْ عَدَنِ أَبْيَنَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»[١٢] إن كان له أصل، واللّه أعلم.