في زمن النبيّ وخلفائه، كان كثير من الناس يعيشون في بلاد بعيدة، ولم يكونوا متمكّنين من الوصول إليهم ليتعلّموا منهم دينهم ويسألوهم عن عقائده وأحكامه. لهذا السبب، كان النبيّ وخلفاؤه ينصّبون في تلك البلاد رجالًا كنوّاب لهم، ليرجع إليهم أهلها ويأخذوا منهم دينهم. السؤال هو هل كان هؤلاء النوّاب معصومين؟ ألم يكن من الممكن أن يخطئوا في تعليم الناس وإجابة أسئلتهم؟ فكيف كان الناس لا يضلّون في دينهم؟
ادّعاء أنّ النّبيّ وخلفاءه كانوا ينصّبون في البلاد رجالًا ليأخذ الناس منهم دينهم غير صحيح؛ لأنّهم لم يكونوا ينصّبون رجالًا لهذا الغرض، وإنّما كانوا ينصّبون رجالًا لإقامة الصلاة، وجمع الزكاة، وأخذ الخراج، ودفع العدوّ، وتنفيذ الأوامر، ولذلك لم يكن بعضهم علماء بالدّين، وربما كانوا يختانون، فيعاتَبون أو يُعزلون، وكان على الناس أن يطيعوهم في الشؤون المدنيّة والعسكريّة، ولا يسمعوا لهم في غير المعروف؛ كما روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بعث سريّة، واستعمل عليهم رجلًا من الأنصار، فأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه في شيء، فقال: «اجْمَعُوا لِي حَطَبًا»، فجمعوا له حطبًا، قال: «أَوْقِدُوا نَارًا»، فأوقدوا نارًا، قال: «أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَسْمَعُوا لِي وَتُطِيعُوا؟» قالوا: «بَلَى»، قال: «فَادْخُلُوهَا»، فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: «إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّارِ»، فبينما هم كذلك إذ سكن غضبه وطفئت النار، فلمّا قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ذكروا ذلك له، فقال: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ»[١]، ولذلك ما كان للنّوّاب قوّة على إضلال الناس؛ لا سيّما بالنظر إلى أنّهم كانوا يعملون تحت إشراف النّبيّ وخلفائه، وكان النّبيّ وخلفاؤه يراقبونهم سرًّا وعلانية لكي لا يميلوا عن الحقّ، وكانوا يصلحون أخطاءهم ويتداركونها بأسرع ما يمكن؛ كما روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بعث خالد بن الوليد إلى بني جُذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: «أَسْلَمْنَا»، فجعلوا يقولون: «صَبَأْنَا، صَبَأْنَا»، فجعل خالد يقتل ويأسر، فلمّا بلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم رفع يديه فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ»، مرّتين أو ثلاثًا[٢]، ثمّ بعث عليّ بن أبي طالب ليصلح ما أفسد خالد، وقال له: «اُخْرُجْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَانْظُرْ فِي أَمْرِهِمْ»، فخرج عليّ حتّى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فودى لهم الدّماء وما أصيب لهم من الأموال، حتّى إنّه ليدي لهم ميلغة الكلب[٣]، حتّى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلّا وداه، بقيت معه بقيّة من المال، فقال لهم عليّ حين فرغ منهم: «هَلْ بَقِيَ لَكُمْ بَقِيَّةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ لَمْ يُودَ لَكُمْ؟» قالوا: «لَا»، قال: «فَإِنِّي أُعْطِيكُمْ هَذِهِ الْبَقِيَّةَ مِنْ هَذَا الْمَالِ، احْتِيَاطًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، مِمَّا لَا يَعْلَمُ وَلَا تَعْلَمُونَ»، ففعل، ثمّ رجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فأخبره الخبر، فقال: «أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ»[٤]، وبعث خالدًا إلى اليمن يدعوهم إلى الإسلام، فأقام عليهم تسعة أشهر لا يجيبونه إلى شيء، فبعث عليًّا في أثره، وأمره أن يقفل خالدًا ومن معه، ففعل ذلك عليّ، ثمّ تقدّم إلى القوم، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فأسلمت همدان كلّها في يوم واحد، فكتب عليّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يخبره بذلك، فلمّا قرأ كتابه كبّر جالسًا، ثمّ سجد فقال: «السَّلَامُ عَلَى هَمْدَانَ» ثلاثًا، فتتابع أهل اليمن على الإسلام[٥]، وروي أنّ عليًّا كتب إلى مصقلة بن هبيرة الشيبانيّ، وهو عامله على أردشيرخرّة: «بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلَهَكَ وَعَصَيْتَ إِمَامَكَ، أَنَّكَ تَقْسِمُ فَيْءَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي حَازَتْهُ رِمَاحُهُمْ وَخُيُولُهُمْ وَأُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُمْ فِيمَنِ اعْتَامَكَ مِنْ أَعْرَابِ قَوْمِكَ، فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لَتَجِدَنَّ لَكَ عَلَيَّ هَوَانًا وَلَتَخِفَّنَّ عِنْدِي مِيزَانًا، فَلَا تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّكَ، وَلَا تُصْلِحْ دُنْيَاكَ بِمَحْقِ دِينِكَ، فَتَكُونَ مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا»[٦]، وكتب إلى المنذر بن الجارود العبديّ، وهو عامله على إصطخر: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ صَلَاحَ أَبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ، وَظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَهُ وَتَسْلُكُ سَبِيلَهُ، فَإِذَا أَنْتَ فِيمَا رُقِّيَ إِلَيَّ عَنْكَ لَا تَدَعُ لِهَوَاكَ انْقِيَادًا وَلَا تُبْقِي لِآخِرَتِكَ عَتَادًا، تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بِخَرَابِ آخِرَتِكَ، وَتَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ، وَلَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقًّا، لَجَمَلُ أَهْلِكَ وَشِسْعُ نَعْلِكَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَمَنْ كَانَ بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَدَّ بِهِ ثَغْرٌ أَوْ يُنْفَذَ بِهِ أَمْرٌ أَوْ يُعْلَى لَهُ قَدْرٌ أَوْ يُشْرَكَ فِي أَمَانَةٍ أَوْ يُؤْمَنَ عَلَى جِبَايَةٍ، فَأَقْبِلْ إِلَيَّ حِينَ يَصِلُ إِلَيْكَ كِتَابِي هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ»[٧]، وكتب إلى عبد اللّه بن عبّاس، وهو عامله على البصرة: «قَدْ بَلَغَنِي تَنَمُّرُكَ لِبَنِي تَمِيمٍ وَغِلْظَتُكَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ بَنِي تَمِيمٍ لَمْ يَغِبْ لَهُمْ نَجْمٌ إِلَّا طَلَعَ لَهُمْ آخَرُ، وَإِنَّهُمْ لَمْ يُسْبَقُوا بِوَغْمٍ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَإِنَّ لَهُمْ بِنَا رَحِمًا مَاسَّةً وَقَرَابَةً خَاصَّةً نَحْنُ مَأْجُورُونَ عَلَى صِلَتِهَا وَمَأْزُورُونَ عَلَى قَطِيعَتِهَا، فَارْبَعْ أَبَا الْعَبَّاسِ رَحِمَكَ اللَّهُ فِيمَا جَرَى عَلَى لِسَانِكَ وَيَدِكَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَإِنَّا شَرِيكَانِ فِي ذَلِكَ، وَكُنْ عِنْدَ صَالِحِ ظَنِّي بِكَ، وَلَا يَفِيلَنَّ رَأْيِي فِيكَ، وَالسَّلَامُ»[٨]، وكتب إلى زياد بن أبيه، وهو خليفة عامله عبد اللّه بن عبّاس على البصرة: «إِنِّي أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَمًا صَادِقًا، لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، لَأَشُدَّنَّ عَلَيْكَ شَدَّةً تَدَعُكَ قَلِيلَ الْوَفْرِ ثَقِيلَ الظَّهْرِ ضَئِيلَ الْأَمْرِ، وَالسَّلَامُ»[٩]، وكتب إلى عثمان بن حنيف الأنصاريّ، وهو عامله على البصرة، وقد بلغه أنّه دُعي إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها: «أَمَّا بَعْدُ، يَا ابْنَ حُنَيْفٍ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ، فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا، تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ، وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ، فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَامًا يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ، أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ، أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ»[١٠]، وكتب إلى كميل بن زياد النخعيّ، وهو عامله على هيت، ينكر عليه تركه دفع من يجتاز به من جيش العدوّ طالبًا الغارة: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ تَضْيِيعَ الْمَرْءِ مَا وُلِّيَ وَتَكَلُّفَهُ مَا كُفِيَ لَعَجْزٌ حَاضِرٌ وَرَأْيٌ مُتَبَّرٌ، وَإِنَّ تَعَاطِيَكَ الْغَارَةَ عَلَى أَهْلِ قِرْقِيسِيَا وَتَعْطِيلَكَ مَسَالِحَكَ الَّتِي وَلَّيْنَاكَ، لَيْسَ بِهَا مَنْ يَمْنَعُهَا وَلَا يَرُدُّ الْجَيْشَ عَنْهَا، لَرَأْيٌ شَعَاعٌ، فَقَدْ صِرْتَ جِسْرًا لِمَنْ أَرَادَ الْغَارَةَ مِنْ أَعْدَائِكَ عَلَى أَوْلِيَائِكَ، غَيْرَ شَدِيدِ الْمَنْكِبِ، وَلَا مَهِيبِ الْجَانِبِ، وَلَا سَادٍّ ثُغْرَةً، وَلَا كَاسِرٍ لِعَدُوٍّ شَوْكَةً، وَلَا مُغْنٍ عَنْ أَهْلِ مِصْرِهِ، وَلَا مُجْزٍ عَنْ أَمِيرِهِ»[١١]، وكتب إلى بعض عمّاله: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ دَهَاقِينَ أَهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وَقَسْوَةً وَاحْتِقَارًا وَجَفْوَةً، وَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلًا لِأَنْ يُدْنَوْا لِشِرْكِهِمْ، وَلَا أَنْ يُقْصَوْا وَيُجْفَوْا لِعَهْدِهِمْ، فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَابًا مِنَ اللِّينِ تَشُوبُهُ بِطَرَفٍ مِنَ الشِّدَّةِ، وَدَاوِلْ لَهُمْ بَيْنَ الْقَسْوَةِ وَالرَّأْفَةِ، وَامْزُجْ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْرِيبِ وَالْإِدْنَاءِ وَالْإِبْعَادِ وَالْإِقْصَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»[١٢]، وغير ذلك ممّا يدلّ على شدّة اهتمام النّبيّ وخلفائه بمراقبة نوّابهم وإصلاح أخطائهم وعزلهم عند الضرورة.
نعم، قد كان الأئمّة من أهل البيت يُرجعون من لا يستطيع الوصول إليهم من الناس إلى العلماء من أصحابهم ليسألوهم ويتعلّموا منهم الدّين؛ كما روي عن عبد اللّه بن أبي يعفور، قال: «قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ لَيْسَ كُلَّ سَاعَةٍ أَلْقَاكَ، وَلَا يُمْكِنُ الْقُدُومُ، وَيَجِيءُ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِنَا فَيَسْأَلُنِي وَلَيْسَ عِنْدِي كُلُّ مَا يَسْأَلُنِي عَنْهُ، فَقَالَ: مَا يَمْنَعُكَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الثَّقَفِيِّ؟ فَإِنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْ أَبِي، وَكَانَ عِنْدَهُ وَجِيهًا»[١٣]، وعن شعيب العقرقوفيّ، قال: «قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رُبَّمَا احْتَجْنَا أَنْ نَسْأَلَ عَنِ الشَّيْءِ، فَمَنْ نَسْأَلُ؟ قَالَ: عَلَيْكَ بِالْأَسَدِيِّ، يَعْنِي أَبَا بَصِيرٍ»[١٤]، وعن عبد العزيز بن المهتدي، قال: «سَأَلْتُ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى لِقَائِكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَعَمَّنْ آخُذُ مَعَالِمَ دِينِي؟ فَقَالَ: خُذْ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ»[١٥]، وعن الحسن بن عليّ بن يقطين، قال: «قُلْتُ لِلرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا أَكَادُ أَصِلُ إِلَيْكَ أَسْأَلُكَ عَنْ كُلِّ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَعَالِمِ دِينِي، أَفَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثِقَةٌ، آخُذُ عَنْهُ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَعَالِمِ دِينِي؟ فَقَالَ: نَعَمْ»[١٦]، وعن عليّ بن المسيّب الهمدانيّ، قال: «قُلْتُ لِلرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ: شَقَّتِي بَعِيدَةٌ، وَلَسْتُ أَصِلُ إِلَيْكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَمِمَّنْ آخُذُ مَعَالِمَ دِينِي؟ قَالَ: مِنْ زَكَرِيَّا ابْنِ آدَمَ الْقَمِّيِّ الْمَأْمُونِ عَلَى الدِّينِ وَالدُّنْيَا»[١٧]، لكن من الواضح أنّ هؤلاء لم يكونوا مراجع الناس للتقليد، وإنّما كانوا رواة الأحاديث، يحدّثون الناس بما رأوه أو سمعوه من الأئمّة، وكان على الناس أن يأخذوا برواياتهم فيما وافقت كتاب اللّه والمعلوم من السنّة، ولا يأخذوا بآراءهم في الدّين؛ كما روي أن أبا عبد اللّه عليه السلام قال لأبان بن عثمان وسليم بن أبي حيّة: «ائْتِ أَبَانَ بْنَ تَغْلِبَ، فَإِنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنِّي حَدِيثًا كَثِيرًا، فَمَا رَوَاهُ لَكَ فَارْوِهِ عَنِّي»[١٨]، وقال للفيض بن المختار: «إِذَا أَرَدْتَ حَدِيثَنَا فَعَلَيْكَ بِهَذَا الْجَالِسِ»، وأومأ إلى رجل من أصحابه يعني زرارة بن أعين[١٩]، وعن أحمد بن إسحاق، قال: «سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ -يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقُلْتُ: مَنْ أُعَامِلُ؟ وَعَمَّنْ آخُذُ؟ وَقَوْلُ مَنْ أَقْبَلُ؟ فَقَالَ: الْعَمْرِيُّ ثِقَتِي، فَمَا أَدَّى إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّي، وَمَا قَالَ لَكَ عَنِّي فَعَنِّي يَقُولُ»، يعني عثمان بن سعيد، فسُئل العمريّ عن مسألة، فقال: «مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُوا عَنْ ذَلِكَ، وَلَا أَقُولُ هَذَا مِنْ عِنْدِي، فَلَيْسَ لِي أَنْ أُحَلِّلَ وَلَا أُحَرِّمَ، وَلَكِنْ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ»[٢٠]، وعن الحسين بن روح أنّ أبا محمّد الحسن بن عليّ بن محمّد عليهم السلام سئل عن كتب بني فضال، فقال: «خُذُوا بِمَا رَوَوْا، وَذَرُوا مَا رَأَوْا»[٢١]، وهذا صريح في أنّهم أرادوا الأخذ بروايات هؤلاء دون آرائهم، ومن المعلوم أنّ ذلك لم يكن يؤدّي إلى ضلالة الناس، لصدق هؤلاء وحفظهم، واعتبار التوافق مع القرآن والسنّة الثابتة في رواياتهم.
ثمّ الواجب على أهل البلاد البعيدة أن يهاجروا إلى النّبيّ وخلفائه لمعرفة الدّين إن استطاعوا؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾[٢٢]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[٢٣]، وإن لم يستطيعوا الهجرة إلى النّبيّ وخلفائه، فعليهم أن يبعثوا إليهم طائفة من ثقاتهم وعقلائهم ليسألوهم ويتعلّموا منهم، ثمّ يرجعوا إليهم فيخبروهم بما رأوا وسمعوا منهم، لا سيّما عند الشبهة والنزاع؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾[٢٤]، وقال: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[٢٥]، وقال: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾[٢٦]، فليس لهم ترك الأمرين جميعًا، والإكتفاء بما يقول لهم النائب في كلّ حال، حتّى يمكنه إضلالهم، كما أضلّ معاوية أهل الشام، إذ انقطعوا إليه، فأصبحوا بغاة قاسطين، وأضلّ أبو الخطّاب محمّد بن مقلاص الأسديّ كثيرًا من أهل الكوفة، إذ اغترّوا بما قال فيه أبو عبد اللّه عليه السلام يومًا ولم يتبيّنوا عندما تغيّر، فأصبحوا غلاة مفتونين، وقد روي أن رجلًا سأل الرضا عليه السلام فقال: «كَيْفَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَبِي الْخَطَّابِ مَا قَالَ، ثُمَّ جَاءَتِ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ؟!»، فقال له: «أَكَانَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ؟!»[٢٧]