هل حديث الجسّاسة صحيح عند السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى؟
روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم جمع الناس يومًا، فقال: «إِنِّي وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ، وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ لِأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا، فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ، وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ، حَدَّثَنِي أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ رَكِبُوا الْبَحْرَ، فَقَذَفَتْهُمُ الرِّيحُ إِلَى جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ، لَا يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ، فَقَالُوا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟! فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، قَالُوا: أَخْبِرِينَا، قَالَتْ: مَا أَنَا بِمُخْبِرَتِكُمْ، وَلَا مُسْتَخْبِرَتِكُمْ، وَلَكِنْ هَاهُنَا فِي هَذَا الدَّيْرِ مَنْ هُوَ فَقِيرٌ إِلَى أَنْ يُخْبِرَكُمْ، وَإِلَى أَنْ يَسْتَخْبِرَكُمْ، فَأَتَوُا الدَّيْرَ، فَإِذَا هُمْ بِرَجُلٍ مُصَفَّدٍ فِي الْحَدِيدِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ: هَلْ بُعِثَ النَّبِيُّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلِ اتَّبَعَهُ الْعَرَبُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ، هَلْ يُثْمِرُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لَا تُثْمِرَ، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ، هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قَالُوا: هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، قَالَ: أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الدَّجَّالُ، وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَأَخْرُجَ، فَأَسِيرَ فِي الْأَرْضِ، فَلَا أَدَعَ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ، فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا، كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا يَصُدُّنِي عَنْهَا، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَائِكَةً يَحْرُسُونَهَا»[١].
هذا حديث الجسّاسة، وهو كما ترى يشبه الأساطير والخرافات، ولا يشبه حديث النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وذلك لأنّ الدجّال بشر كما يظهر من الأحاديث، وليس من المعقول أن يكون بشر مصفّدًا في الحديد منذ ما قبل بعثة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى آخر الزمان، وأيّ مصلحة في حفظه على تلك الحال لتتعلّق به قدرة اللّه تعالى؟! وقد صحّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «أُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ الْيَوْمَ يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ حَيَّةٌ»[٢]، وقال: «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ»[٣]، وقد قال ذلك «فِي آخِرِ حَيَاتِهِ»[٤]، «قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ»[٥]، وكان إسلام تميم الداريّ قبل ذلك بعام أو أكثر، وفي الحديث أنّه حدّث النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بقصّة الجسّاسة عندما «جَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ»[٦]، فلو كان الحديث صحيحًا لم يقل النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ما قال في موت من على ظهر الأرض قبل أن يأتي عليه مائة سنة! أضف إلى ذلك أنّ الدجّال كافر باللّه ونبيّه؛ كما تواتر عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ»[٧]؛ فكيف يمكن أن يقول بأنّ اتّباع النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم خير للناس؟! بل هو الذي يقول: «أَنَا رَبُّكُمْ»[٨]؛ فكيف يمكن أن يقول: «إِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَأَخْرُجَ»، يعني إذن اللّه تعالى؟! أضف إلى ذلك أنّه لا توجد في الدنيا جسّاسة، وليس لك أن تقول: لعلّها دابّة لم تُكتشف حتّى الآن لاعتزالها في جزيرة مجهولة نائية؛ فإنّما قالوا لها «جسّاسة» لأنّها «تَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ، وَتَأْتِي بِهَا الدَّجَّالَ» في زعمهم[٩]؛ فلا بدّ لها من أن تدخل البلاد وتكلّم الناس، ولذلك قال بعض أهل العلم: «يُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ شَيْطَانَةً»[١٠]، وقال عبد الحقّ الدّهلويّ: «هَذَا أَوْلَى وَأَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ كَيْفَ تَتَجَسَّسُ لَهُ أَخْبَارَ الْعَالَمِ؟!»[١١] مع أنّ أمرها ليس بأعجب من أمر الرّجل المصفّد، وهو أحقّ بأن يكون شيطانًا؛ لا سيّما بالنظر إلى قول اللّه تعالى في الشياطين: ﴿وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ﴾[١٢].
بهذا يظهر لك أنّ الحديث مخالف للعقل السليم والنقل الصحيح في فقرات كثيرة، وهو موضوع أو محرّف لا محالة، وقد تفرّدت بروايته فاطمة ابنة قيس، وإن زعم بعض من لا رسوخ له في العلم أنّ له طرقًا أخرى، وذلك لأنّ الوليد بن عبد اللّه بن جميع رواه عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن عن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ، ولكنّه وهم في إسناده؛ فإنّه كان يهم كما قال ابن حجر[١٣]، وكان ينفرد عن الأثبات بما لا يشبه حديث الثقات، فلمّا فحش ذلك منه بطل الإحتجاج به كما قال ابن حبان[١٤]، وأنكر عليه ابن أبي سلمة حديثه هذا فقال: «إِنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَيْئًا مَا حَفِظْتُهُ، فَقَدْ شَهِدَ جَابِرٌ أَنَّهُ هُوَ ابْنُ صَيَّادٍ»[١٥]! يعني أنّه كيف يمكن أن يحدّث به جابر، وهو يرى أنّ الدجّال ابن صيّاد؟! والصحيح أنّ جابرًا لم يحدّث به، وإنّما رواه أبو سلمة عن فاطمة ابنة قيس؛ كما قال الترمذيّ: «سَأَلْتُ مُحَمَّدًا -يَعْنِي الْبُخَارِيَّ- عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: يَرْوِيهِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ»[١٦]، وقال الدارقطنيّ: «يَرْوِيهِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، وَخَالَفَهُ الزُّهْرِيُّ، رَوَاهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ»[١٧]، وكذلك رواه مجالد بن سعيد، عن الشعبيّ، عن فاطمة بنت قيس، إلّا أنّه زاد في آخره: «قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَلَقِيتُ الْمُحَرَّرَ بْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي، أَنَّهُ حَدَّثَنِي كَمَا حَدَّثَتْكَ فَاطِمَةُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ مِنْ نَحْوِ الْمَشْرِقِ، وَمَا هُوَ مِنْ نَحْوِ الْمَشْرِقِ، ثُمَّ لَقِيتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، فَذَكَرْتُ لَهُ حَدِيثَ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى عَائِشَةَ، أَنَّهَا حَدَّثَتْنِي كَمَا حَدَّثَتْكَ فَاطِمَةُ، غَيْرَ أَنَّهَا قَالَتْ: الْحَرَمَانِ عَلَيْهِ حَرَامٌ: مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ»[١٨]، فزعم بعض المتساهلين أنّه يُعتبر طريقين آخرين للحديث، وليس كذلك؛ لأنّه زيادة في الإسناد تفرّد بها مجالد بن سعيد على الأظهر، وهو مشهور بالزيادة في الإسناد وهمًا أو كذبًا؛ كما قال فيه أحمد بن حنبل: «يَزِيدُ فِي الْإِسْنَادِ»[١٩]، وقال ابن أبي خيثمة: «قُلْتُ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: لِمَ يَزِيدُ؟ قَالَ: لِضَعْفِهِ»[٢٠]، وقال ابن حبّان: «كَانَ رَدِيءَ الْحِفْظِ، يُقَلِّبُ الْأَسَانِيدَ، وَيَرْفَعُ الْمَرَاسِيلَ، لَا يَجُوزُ الْإِحْتِجَاجُ بِهِ»[٢١]، وروى ابن شاهين أنّ جرير بن حازم قال: «كَانَ كَذَّابًا»[٢٢]، وفي كتاب الأثرم: «ضَعَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ- أَمْرَهُ فِي أَمَانَةِ الْإِسْنَادِ»[٢٣]، وكان أحمد يقول: «كَمْ مِنْ أُعْجُوبَةٍ لِمُجَالِدٍ»[٢٤]، ويقول: «أَحَادِيثُهُ كَأَنَّهَا حُلْمٌ»[٢٥]، ويقول: «كَانَ يُكْثِرُ وَيَضْطَرِبُ»[٢٦]، ولذلك لا يُعتبر بزيادته على الشعبيّ، وقد روى الحديث عن الشعبيّ جماعة من الثقات، ولم يذكروا عنه هذه الزيادة مع أهمّيّتها، وفي ذلك دلالة على أنّها من أحلام مجالد. نعم، وقع مثلها في حديث الشيبانيّ عن الشعبيّ[٢٧]، ولكنّ الأقرب أنّه وهم؛ لأنّما رواه أسباط بن محمّد، وعثمان بن أبي شيبة، وكان أسباط «رُبَّمَا يَهِمُ فِي شَيْءٍ»[٢٨]، وكان عثمان معروفًا بالتوهّم؛ كما قال أحمد بن حنبل: «نَرَاهُ يَتَوَهَّمُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ»[٢٩]، فمن القريب جدًّا أن يكونا قد وهما في حديث مجالد، فجعلاه من حديث الشيبانيّ؛ كما جعلا عبد اللّه بن أبي بكر وعبد الرّحمن بن أبي بكر مكان القاسم بن محمّد، وعلى تقدير صحّة الزيادة فلا يبعد أن يكون المراد أنّ أبا هريرة وعائشة صدّقا حديث فاطمة في أنّ الدجّال لا يدخل المدينة، إلّا أنّ عائشة قالت: «لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ»، وأنّ أبا هريرة قال: «إِنَّهُ مِنْ نَحْوِ الْمَشْرِقِ، وَمَا هُوَ مِنْ نَحْوِ الْمَشْرِقِ». نعم، روى أبو عاصم سعد بن زياد، قال: «حَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَايَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ اسْتَوَى عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ: حَدَّثَنِي تَمِيمٌ الدَّارِيُّ، فَرَأَى تَمِيمًا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: قُمْ يَا تَمِيمُ فَحَدِّثِ النَّاسَ بِمَا حَدَّثْتَنِي، فَقَالَ: كُنَّا فِي جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ، فَإِذَا نَحْنُ بِدَابَّةٍ، وَذَكَرَ حَدِيثَ الْجَسَّاسَةِ»[٣٠]، ولكنّه لا يصحّ؛ كما قال ابن كثير: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَبُو عَاصِمٍ هَذَا لَيْسَ بِالْمَتِينِ»[٣١]، وقال صالح بن محمّد: «هُوَ شَيْخٌ بَصْرِيٌّ ضَعِيفٌ»[٣٢]، ولا يُعرف مولاه نافع، ويقال إنّه مولى حمنة بنت شجاع، ولكنّه مجهول أيضًا، ولم يوثّقه أحد غير ابن حبّان، وهو معروف بالتساهل في التوثيق، وإنّما وثّقه لظنّه أنّه نافع بن أبي نافع البزاز؛ كما قال: «نَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِعٍ الْبَزَّازُ مَوْلَى أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ أَخِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَقَدْ قِيلَ: مَوْلَى حَمْنَةَ بِنْتِ شُجَاعٍ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ ثِقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ»[٣٣]، وقال ابن المدينيّ: نافع بن أبى نافع البزاز مجهول أيضًا[٣٤]، وعلى تقدير أنّه ثقة فلم يثبت أنّه هو، بل الأظهر تغايرهما؛ كما فرّق بينهما البخاريّ وابن أبي حاتم، وذلك لأنّ أحدهما ابن أبي رافع مولى أبي أحمد بن جحش، وقد روى عنه ابن أبي ذئب، والآخر لا يُعرف اسم أبيه، وهو مولى حمنة بنت شجاع، وقد روى عنه سعد بن زياد.
وكيفما كان، فإنّ الحديث ليس له طريق معتبر به إلّا عن فاطمة ابنة قيس، وهي التي ردّ روايتها عمر بن الخطاب فقال: «لَا نَدَعُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا نَسِيَتْ أَوْ شُبِّهَ لَهَا»[٣٥]، وترك حديثها فقهاء السلف؛ كما قال أبو إسحاق السبيعيّ: «كُنْتُ مَعَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَمَعَنَا الشَّعْبِيُّ، فَحَدَّثَ الشَّعْبِيُّ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، فَأَخَذَ الْأَسْوَدُ كَفًّا مِنْ حَصًى فَحَصَبَهُ بِهِ، فَقَالَ: وَيْلَكَ تُحَدِّثُ بِمِثْلِ هَذَا؟! قَالَ عُمَرُ: لَا نَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي حَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ»[٣٦]، وقال مغيرة بن مقسم: «ذَكَرْتُ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، فَقَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَا نَدَعُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ»[٣٧]، وكذلك يقول السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
كُنْتُ عِنْدَ الْمَنْصُورِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَقَالَ: أَلَيْسَ الدَّجَّالُ مُصَفَّدًا فِي جَزِيرَةٍ؟! قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَنْ كَانَ الَّذِي رَآهُ أَصْحَابُ تَمِيمٍ؟! قَالَ: لَعَلَّهُ كَانَ شَيْطَانًا قَرَّنَهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَصْفَادِ، قَالَ: أَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ أَنَّهُ الدَّجَّالُ؟! قَالَ: كُلُّ شَيْطَانٍ دَجَّالٌ، قَالَ: أَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ أَنَّهُ يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَلَا يَدْخُلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ؟! قَالَ: لَعَلَّهُ كَانَ شَيْطَانَ الدَّجَّالِ، فَإِنَّ لَهُ شَيْطَانًا يُضِلُّهُ وَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، قَالَ: لِمَاذَا تَقُولُ: لَعَلَّ؟! فَغَضِبَ وَقَالَ: إِنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ قَيْسٍ لَمْ تَكُنْ تَحْفَظُ الْحَدِيثَ، أَلَيْسَتْ هِيَ الَّتِي قَالَ فِيهَا عُمَرُ: «لَا نَدَعُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا نَسِيَتْ أَوْ شُبِّهَ لَهَا»؟! فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ قَالَ لِيَ الْمَنْصُورُ: كَفَى بِالْمَرْءِ سَفَهًا أَنْ يَأْخُذَ فِي دِينِهِ بِخَبَرِ وَاحِدٍ لَا يَدْرِي أَصَدَقَ أَمْ كَذَبَ!
الحاصل أنّ حديث الجسّاسة غير ثابت عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ولا يبعد أن يكون له أصل لم تحفظه ابنة قيس، أو نسيته لطول الأمد وبلوغ الكِبَر، وهو أنّ القوم لقوا في الجزيرة شيطانًا مصفّدًا، فأخبرهم بأنّ الدجّال يخرج في آخر الزمان، فيسير في الأرض كلّها غير مكّة والمدينة، كما أخبرهم بأنّ نخل بيسان يوشك أن لا تثمر، وأنّ بحيرة طبريّة يوشك أن يذهب ماؤها، ولمثل هذا لا ينبغي الإعتماد على خبر واحد، إلّا أن تكون له قرائن مثبتة[٣٨]، واللّه الموفّق للصواب.
هذا حديث رواه عليّ بن زيد بن جدعان، عن الحسن البصريّ، عن عمران بن حصين، وعليّ بن زيد ضعيف عندهم[١]، والحسن لم يثبت سماعه من عمران[٢]، ولذلك ظنّ محمّد بن عبّاد أنّه رواه عن عبد اللّه بن مغفّل[٣]، لسماعه منه، وكان محمّد بن عبّاد يهم[٤]، فلا تقبل مخالفته لسائر الرواة، وعلى تقدير أنّه أصاب، فإنّ الحسن مدلّس[٥]، وقد عنعن؛ فلا ندري هل سمع الحديث من ابن مغفّل أم لا، وقد ألحقه الدانيّ بحديث هشام بن عامر[٦]، وهو تخليط؛ لأنّ حديث هشام قد رواه غير واحد من الحفّاظ، ولم يذكروا فيه ذلك[٧]، وعلى تقدير صحّته، فإنّه لا يصدّق حديث الجسّاسة، بل هو إلى أن يكذّبه أقرب؛ لأنّ حديث الجسّاسة يقول أنّ الدجّال مصفّد في جزيرة مهجورة، وهذا يقول أنّه يمشي في الأسواق! نعم، روى عطيّة بن سعد، عن أبي سعيد الخدريّ، أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقول: «إِنَّهُ يَوْمَهُ هَذَا قَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ»[٨]، ولم يذكر مشيه في الأسواق، لكنّ الأقرب أنّه سقط؛ فإنّ عطيّة كان يخطئ[٩]، وعلى تقدير صحّته، فإنّه غير صريح أيضًا، لاحتمال أن يكون المراد ابن صيّاد أو مسيلمة الكذّاب أو دجّالًا آخر كان في ذلك الزمان؛ فقد روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجَّالًا»[١٠]، وفي رواية أخرى: «يَكُونُ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ نَيِّفٌ وَسَبْعُونَ دَجَّالًا»[١١]، وعلى تقدير أنّ المراد هو الدجّال الأكبر، فمن المحتمل جدًّا أن يكون غلطًا من الراوي، بل هو الظاهر؛ فقد روي عن عليّ عليه السلام أنّه قال: «إِنَّ الدَّجَّالَ يَطْعَمُ الطَّعَامَ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ، وَاللَّهُ لَا يَطْعَمُ، وَلَا يَزُولُ»[١٢]، وهو في معنى قول النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «إِنَّ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ»[١٣]، والظاهر أنّه كان أصل الحديث، فحرّفه بعض الرواة؛ كما رواه محمّد بن عليّ بن بابويه بإسناده عن ابن عمر عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم[١٤]، وهذا ما قال به السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
ذُكِرَ عِنْدَهُ أَمْرُ الدَّجَّالِ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ يَرْوُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّهُ قَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ وَمَشَى فِي الْأَسْوَاقِ، فَقَالَ: لَيْسَ هَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إِنَّه يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ، يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ بِرَبِّكُمْ.
ولمثل هذا لا ينبغي الإعتماد على خبر واحد؛ لأنّه قد يخطئ، وذلك شائع جدًّا؛ كما روي أنّ عائشة سمعت بحديث عمر وابنه أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ»، فأنكرت ذلك، وقالت: «إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونِي عَنْ غَيْرِ كَاذِبَيْنِ وَلَا مُكَذَّبَيْنِ، وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ»[١٥]، وفي رواية أخرى، قالت: «يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ -يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ- أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ، إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا، فَقَالَ: إِنَّكُمْ لَتَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا»[١٦]، وسمعت بحديث أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «الطَّيْرَةُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ، وَالدَّارِ»، فغضبت غضبًا شديدًا، وقالت: «وَاللَّهِ مَا هَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا قَالَ: أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقُولُونَ: الطَّيْرَةُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ، وَالدَّارِ»[١٧]، والأمثلة على ذلك كثيرة، والأقرب أنّ حديث الجسّاسة منها، وإن كان هناك احتمال آخر ذكره بعض المحقّقين، وهو أنّ الحديث صحيح، ولكنّه من قول تميم الداريّ، وإنّما حكاه النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم للناس من دون تصديق ولا تكذيب؛ كما قال محمّد رشيد رضا: «إِنَّ رِوَايَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَهُ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ -إِنْ سَلِمَ سَنَدُهَا مِنَ الْعِلَلِ- هَلْ تَجْعَلُ الْحَدِيثَ مُلْحَقًا بِمَا حَدَّثَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، فَيُجْزَمُ بِصِدْقِ أَصْلِهِ، قِيَاسًا عَلَى إِجَازَتِهِ أَوْ تَقْرِيرِهِ لِلْعَمَلِ، إِذْ يَدُلُّ عَلَى حِلِّهِ وَجَوَازِهِ؟ الظَّاهِرُ لَنَا أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ لَا مَحَلَّ لَهُ هُنَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَهُوَ كَسَائِرِ الْبَشَرِ، يَحْمِلُ كَلَامَ النَّاسِ عَلَى الصِّدْقِ إِذَا لَمْ تَحِفَّ بِهِ شُبْهَةٌ، وَكَثِيرًا مَا صَدَّقَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارَ فِي أَحَادِيثِهِمْ، وَحَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ وَأَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ يَعْرِفُ كَذِبَ بَعْضِ الْكَاذِبِينَ بِالْوَحْيِ، أَوْ بِبَعْضِ طُرُقِ الْإِخْتِبَارِ، أَوْ إِخْبَارِ الثِّقَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ طُرُقِ الْعِلْمِ الْبَشَرِيِّ، وَإِنَّمَا يَمْتَازُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى غَيْرِهِمْ بِالْوَحْيِ، وَالْعِصْمَةِ مِنَ الْكَذِبِ، وَمَا كَانَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ إِلَّا فِي أَمْرِ الدِّينِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِدَعْوَتِهِ وَحِفْظِهِ وَحِفْظِ مَنْ جَاءَ بِهِ، وَتَصْدِيقُ الْكَاذِبِ لَيْسَ كَذِبًا، وَحَسْبُكَ أَنْ تَتَأَمَّلَ فِي هَذَا الْبَابِ عِتَابَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ، إِذْ أَذِنَ لِبَعْضِ الْمُعْتَذِرِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَمَا عَلَّلَهُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ﴾[١٨]»[١٩]، انتهى قوله، وقد أراد أنّ تميمًا الداريّ كان كاذبًا في حديث الجسّاسة، ولكن لم يتبيّن كذبه للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ولذلك حكاه للناس، وهذا غير بعيد؛ لأنّه كان من المحتمل عند النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أن يخرج الدجّال في زمانه أو قبل مائة سنة، فكان الحديث محتملًا للصدق بالنسبة له، حتّى مضى مائة سنة ولم يخرج الدجّال، فعند ذلك تبيّن أنّ الحديث كان كذبًا، ولكنّ الأقرب من هذا أنّ الحديث كان صدقًا، وإنّما أخطأت فيه فاطمة ابنة قيس، فحرّفته عن مواضعه، واللّه تعالى أعلم.