ما هو محلّ خروج الدجّال؟
الأحاديث الواردة في محلّ خروج الدجّال مختلفة؛ فمنها ما يدلّ على أنّه يخرج من المشرق؛ كما روي عن أبي هريرة، قال: «حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَشْرِقِ»[١]، وعن عبد اللّه بن مغنم رجل من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «إِنَّ الدَّجَّالَ لَيْسَ بِهِ خَفَاءٌ، يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ»[٢]، وعن عثمان بن أبي العاص، قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أَعْرَاضِ جَيْشٍ يَنْهَزِمُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ»[٣]، وعن فاطمة بنت قيس، قالت: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: يَجِيئُكُمْ مِنْ هَا هُنَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ»[٤]، ولا يخفى أنّ المتبادر من المشرق خراسان، ولكن جاء في رواية أخرى أنّه قال: «يَخْرُجُ مِنْ بَحْرِ الْمَشْرِقِ»[٥]، ولذلك قال ابن حبان (ت٣٥٤هـ): «قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ: ”وَأَشَارَ نَحْوَ الْمَشْرِقِ“، أَرَادَ بِهِ الْبَحْرَيْنِ، لِأَنَّ الْبَحْرَيْنِ مَشْرِقُ الْمَدِينَةِ، وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ يَكُونُ مِنْ جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِهَا، لَا مِنْ خُرَاسَانَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّهُ مُوثَقٌ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، عَلَى مَا أَخْبَرَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ، وَلَيْسَ بِخُرَاسَانَ بَحْرٌ وَلَا جَزِيرَةٌ»[٦]، ولكنّ خبر تميم الداريّ غير ثابت[٧]، ويقال أنّ البحريّين كانوا يعتقدون أنّ الدجّال في جزيرة برطايل، ومنها يخرج، وهي جزيرة من جزائر الصين[٨]، ومنها ما يدلّ على أنّه يخرج من خراسان؛ كما روي عن أبي بكر، قال: «حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا: خُرَاسَانُ، يَتْبَعُهُ أَقْوَامٌ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ»[٩]، والظاهر أنّه وهم؛ لأنّ هذه صفة يأجوج ومأجوج، وهم المغول[١٠]، إلّا أن يكون المراد دجّالًا آخر، دون الدجّال الأكبر؛ إذ ليس بغريب أن يقال لهم دجّال بالنظر إلى إفسادهم في الأرض، ويؤيّد هذا ما روي عن أبي هريرة، قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَيَنْزِلَنَّ الدَّجَّالُ خُوزَ وَكِرْمَانَ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا، يَنْتَعِلُونَ الشَّعْرَ، وَيَلْبَسُونَ الطَّيَالِسَةَ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ»[١١]، فقد جاء تأويله في القرن السابع، إذ غلب المغول على كرمان وخوزستان، وقال أبو بكر الكلاباذيّ (ت٣٨٠هـ): «إِنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الدَّجَّالِ يَكُونُ مِنْ قِبَلِ التُّرْكِ»[١٢]، فكأنّه أراد هاتين الروايتين، ومنها ما يدلّ على أنّه يخرج من سجستان؛ كما روي عن ابن عبّاس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «الدَّجَّالُ يَخْرُجُ بِالْمَشْرِقِ مِنْ سَجِسْتَانَ»[١٣]، ومنها ما يدلّ على أنّه يخرج من أصبهان؛ كما روي عن عمران بن حصين، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنْ قِبَلِ أَصْبَهَانَ»[١٤]، وعن فاطمة بنت قيس، قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «يَخْرُجُ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا: أَصْبَهَانُ، مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا يُقَالُ لَهَا: رُسْتُقْبَادُ»[١٥]، وعن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «يَخْرُجُ مِنْ بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا: إِصْفَهَانُ، مِنْ قَرْيَةٍ تُعْرَفُ بِالْيَهُودِيَّةِ»[١٦]، وروي مثله عن عليّ، وعائشة، وابن عبّاس، وروي عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنْ يَهُودِيَّةِ أَصْبَهَانَ، مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْيَهُودِ، عَلَيْهِمُ السِّيجَانُ»[١٧]، وأخرجه مسلم في «صحيحه»، إلّا أنّه قال: «يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا، عَلَيْهِمُ الطَّيَالِسَةُ»[١٨]، ولكنّه مشكل؛ لأنّ أصبهان ليس فيها هذا العدد من اليهود، وآخر عدد عُلم منهم في الإحصاء ألفان وثلاثمائة، ولا يزالون يقلّون؛ لأنّهم يهاجرون إلى المغرب، إلّا أن يكون المراد أنّهم من أعقابهم المهاجرين؛ كما يحتمل أن يكون الدجّال من أعقابهم المهاجرين أيضًا، ومنها ما يدلّ على أنّه يخرج من العراق؛ كما روي عن الهيثم بن الأسود، قال: «خَرَجْتُ وَافِدًا فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ، فَإِذَا مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ رَجُلٌ أَحْمَرُ كَثِيرُ غُصُونِ الْوَجْهِ، فَقَالَ لِي مُعَاوِيَةُ: تَدْرِي مَنْ هَذَا؟ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ أَرْضًا قِبَلَكُمْ كَثِيرَ السِّبَاخِ يُقَالُ لَهَا كُوْثَى، قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْهَا يَخْرُجُ الدَّجَّالُ»[١٩]، وعن أبي هريرة، قال: «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ بِالْعِرَاقِ»[٢٠]، وعن طاووس، قال: «أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَسْكُنَ الْعِرَاقَ، فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ فِيهَا الدَّجَّالَ»[٢١]، وعن أسود العدويّ، قال: «قَالَ عُمَرُ: أُرِيدُ أَنْ آتِيَ الْبَصْرَةَ، فَأُقِيمَ فِيهَا شَهْرًا، فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: لَا تَأْتِهَا، فَإِنَّ بِهَا تِسْعَةَ أَعْشَارِ الشَّرِّ، وَالدَّاءَ الْعُضَالَ، وَبِهَا تَكُونُ الْفِتَنُ، وَفِيهَا يَخْرُجُ الدَّجَّالُ»[٢٢]، وعن ابن شوذب، قال: «أَوَّلُ مِنْبَرٍ يَصْعَدُهُ الدَّجَّالُ مِنْبَرُ الْبَصْرَةِ»[٢٣]، وعن عبد اللّه بن مسعود، قال: «أَوَّلُ أَهْلِ أَبْيَاتٍ يَقْرَعُهُمُ الدَّجَّالُ أَهْلُ الْكُوفَةِ»[٢٤]، ومنها ما يدلّ على أنّه يخرج من محلّة بين الشام والعراق؛ كما روي عن أبي أمامة والنوّاس بن سمعان، قالا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنْ مَحِلَّةٍ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ»[٢٥].
بهذا يظهر أنّ الأحاديث الواردة في محلّ خروج الدجّال متعارضة جدًّا، وقد يوجد التعارض في حديث واحد؛ كما يوجد في حديث فاطمة بنت قيس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ؟ إِنَّهُ فِي نَحْوِ الشَّامِ، ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً، ثُمَّ ارْتَجَّ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: بَلْ هُوَ فِي الْيَمَنِ، ثَلَاثًا، ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً، وَارْتَجَّ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: بَلْ هُوَ فِي نَحْوِ الْعِرَاقِ، ثَلَاثًا»[٢٦]، ولا يصحّ هذا قطعًا؛ لأنّ وحي اللّه لا يختلف، وخبره لا يُنسخ، وفي رواية أخرى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «إِنَّهُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ»[٢٧]، وظاهره النفي بعد الإثبات، وقد تأوّله قوم بأنّ «ما» زائدة وليست نافية، ولكنّه غير ظاهر؛ كما قال عبد اللّه بن عمرو بن ميسرة (ت٢٢٤هـ): «سَأَلْتُ عَبْدَ الْوَارِثِ بْنَ سَعِيدٍ عَنْ قَوْلِهِ: ”مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ“، فَقُلْتُ لَهُ: لَعَلَّهُ مِثْلُ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي حَدِيثِ الْأَعْمَاقِ: ”مَا أَنَا نَسِيتُهَا“، وَإِنَّمَا يُرِيدُ: ”أَنَا نَسِيتُهَا“، وَقَوْلُهُ: ”مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ“، إِنَّمَا يُرِيدُ هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي»[٢٨]؛ إذ لعلّ المراد أنّ الدجّال يخرج من قبل المشرق، وما هو من قبل المشرق، وإنّما يجيء إليه من قبل المغرب، فأصله من المغرب، ومخرجه المشرق؛ كما روي عن كعب أنّه قال: «إِنَّ الدَّجَّالَ يُولَدُ فِي قَرْيَةٍ بِمِصْرَ يُقَالُ لَهَا: قُوصُ، يَكُونُ بَيْنَ مَوْلِدِهِ وَمَخْرَجِهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يَأْتِي الْمَشْرِقَ»[٢٩]، وعكس ذلك محتمل أيضًا، وكيفما كان فإنّه لا يمكن الجزم بمحلّ خروج الدجّال لاختلاف الأحاديث وإجمالها، وهذا يعني إمكان خروجه من أيّ مكان في الأرض.
نعم، قال السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى: «إِنَّ الدَّجَّالَ يَأْتِيكُمْ مِنَ الْمَغْرِبِ»[٣٠]، ولكنّه قال ذلك وهو في أقصى المشرق من خراسان، فلا ينافي قوله شيئًا من الأحاديث الواردة؛ لأنّ جميع البلاد المذكورة فيها تقع على الغرب منه، وإن كان المتبادر من المغرب الشام، وهي شاملة لإسرائيل، ويُحتمل أنّه قد أرادها؛ كما قال في مقال آخر أنّ الدجّال «يَنْزِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ»[٣١]، والحقّ أنّه أقرب الإحتمالات إلى الواقع؛ لأنّ الدجّال يتسمّى بالمسيح، ويناقض الإسلام، وأكثر أتباعه اليهود، وهذا لا يلائم خروجه في أفغانستان أو إيران أو العراق أو سوريا أو لبنان أو الأردن؛ لأنّها بلاد إسلاميّة، ولا يوجد فيها كثير من اليهود، بل أولى البلاد بأن يكون مخرج الدجّال إسرائيل؛ لأنّها مجمع اليهود، وقد اجتمعوا إليها من أطراف الأرض منتظرين للمسيح، وهم قوم قد يتّخذون العجل إلهًا، فضلًا عن الدجّال؛ فليس من المعقول أن يترك الكافر هذه البلدة المناسبة له، ويخرج من أفغانستان أو إيران أو العراق أو سوريا أو لبنان أو الأردن، واللّه تعالى أعلم.