السلام على العلماء الكرام في مكتب السيد المنصور الهاشمي الخراساني حفظه اللّه تعالى. لديّ سؤال بخصوص الآية ٤٤ من سورة المائدة، وهي قول اللّه تعالى: «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ». هل تدلّ هذه الآية على أنّه يجوز لغير خلفاء اللّه أن يحكموا للناس بكتاب ربّهم؟
السلام على كلّ مؤمن يعبد اللّه ولا يشرك به شيئًا. لا شكّ في أنّ الحكم للّه وحده؛ كما قال بصراحة: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾[١]، وقال: ﴿مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾[٢]، فليس لأحد أن يحكم بين الناس إلّا أن يكون خليفة له في الأرض؛ كما قال لداود عليه السلام مثلًا: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾[٣]، وهذا يعني أنّ من حكم بين الناس ولم يجعله اللّه خليفة في الأرض فقد حكم بينهم بالباطل، وإن كان ظاهر حكمه حقًّا؛ كما أُخبرنا أنّ بعض القضاة قال لبعض أصحابنا وهو يجادله: «إِنِّي أَحْكُمُ عَلَى الْقَاتِلِ بِالْقِصَاصِ، وَعَلَى السَّارِقِ بِالْقَطْعِ، وَعَلَى الزَّانِي الَّذِي لَمْ يُحْصَنْ بِالْجَلْدِ، وَعَلَى الزَّانِي الَّذِي أُحْصِنَ بِالرَّجْمِ، أَفَلَا أَحْكُمُ بِالْحَقِّ؟!» فقال: «دَعْ عَنْكَ هَذَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ يَقُولُ: مَنْ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَإِنَّمَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾»، وممّا يدلّ على هذا ما روي عن جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام أنّه ذكر السلطان وقضاته، فقال: «مَنْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِمْ فِي حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ فَإِنَّمَا تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَمَا يَحْكُمُ لَهُ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ سُحْتًا وَإِنْ كَانَ حَقًّا ثَابِتًا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُكْفَرَ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾[٤]»[٥].
بناء على هذا، فلا يجوز أن يحكم بين الناس إلّا من جعله اللّه خليفة في الأرض كما جعل داود عليه السلام، وكلّ حاكم من دونه طاغوت يُعبد من دون اللّه عزّ وجلّ، وهذه قاعدة عظيمة في الإسلام لا يتطرّق إليها الشكّ؛ لأنّها معنى التوحيد وحقيقته، والجاحد بها كافر، والجاهل بها في ضلال بعيد، كما بيّن ذلك المنصور حفظه اللّه تعالى في كتاب «العودة إلى الإسلام»، وفي بعض أقواله الطيّبة[٦]، وأمّا قول اللّه تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾[٧] فلا يناقض هذه القاعدة؛ لأنّ خلافة اللّه في الأرض أعمّ من النبوّة، وقد تتحقّق لغير النبيّين من علماء أهل بيتهم وأصحابهم، وهم المراد بالربانيّين والأحبار في هذه الآية؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾، فَقَالَ: الرَّبَّانِيُّونَ الْأَوْصِيَاءُ، وَالْأَحْبَارُ نُوَّابُهُمْ، أَلَمْ يَبْلُغْكَ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِشُرَيْحٍ: قَدْ جَلَسْتَ مَجْلِسًا لَا يَجْلِسُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ؟
فصرّح حفظه اللّه تعالى بأنّ المراد بالربانيّين في هذه الآية أوصياء النبيّين، والمراد بالأحبار فيها رجال ذوو علم وعدل يجعلهم النبيّون أو أوصياؤهم ولاة أو قضاة بين الناس، والدليل على هذا مثل الدليل على أنّ المراد بأولي الأمر في قول اللّه تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[٨] ليسوا جميع الحكّام، بل هم الأئمّة المطهّرون، وذلك أنّ طاعة من يعصي اللّه والرسول تنافي طاعة اللّه والرسول، وهذا يؤدّي إلى التناقض في الآية، وهو محال، وكذلك لا يمكن أن يكون المراد بالربانيّين والأحبار في قول اللّه تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾ جميع الربانيّين والأحبار؛ لأنّ حكمهم قد يخالف حكم النبيّين؛ كما ذمّهم اللّه تعالى في كتابه، فقال: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾[٩]، وهذا أيضًا يؤدّي إلى التناقض في الآية، وهو محال؛ كما قال اللّه: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾[١٠].
بناء على هذا، لا بدّ من حمل الربانيّين والأحبار في الآية على طائفة منهم لا يصدر منهم مخالفة للنبيّين، وهم أوصياء النبيّين ونوّابهم الذين يحكمون تحت إشرافهم، ولذلك روي أنّ عليًّا كان ربّاني هذه الأمّة[١١]، وأنّ الآية نزلت في أهل البيت[١٢]، أي أنّهم مصداق الربانيّين في هذه الأمّة؛ كما أنّ الذين يقلّدونهم الإمارة والقضاء من أصحابهم هم مصداق الأحبار في هذه الأمّة، وذلك مثل قولهم: «نَحْنُ الْعُلَمَاءُ، وَشِيعَتُنَا الْمُتَعَلِّمُونَ، وَسَائِرُ النَّاسِ غُثَاءٌ»[١٣]، ويؤيّد ذلك قول اللّه تعالى في وصفهم أنّهم يحكمون ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾؛ لأنّه يدلّ على أنّهم رجال استحفظهم اللّه كتابه، أي ائتمنهم عليه وسألهم أن يحفظوه، وهذا يتحقّق فيمن عنده علم الكتاب، وائتمنه عليه النبيّ وسأله أن يحفظه من بعده، ومن هذه صفته يقال له وصيّ النبيّ؛ كما أنّ الشاهد عليه مَن علمه بالشهود، وهو الأخذ من النبيّ مباشرةً بغير واسطة ظنّيّة، لعدم جواز الشهادة بالظنّ، وهذا أيضًا يتحقّق في أهل بيت النبيّ وأصحابه الذين سمعوا منه، دون الذين يجتهدون بآرائهم ويستمسكون بالقياس وخبر الواحد؛ لأنّهم لم يكونوا شهداء، ولا تُقبل شهادتهم، وهذا مراد جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام إذ فسّر قول اللّه تعالى، فقال: «إِنَّهُ قَالَ: ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾، وَلَمْ يَقُلْ بِمَا حَمَلُوا مِنْهُ»[١٤]، وقد سئل المنصور حفظه اللّه تعالى عن قول اللّه تعالى: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾[١٥]، فقال: «شَهَادَةُ اللَّهِ كِتَابُهُ، وَإِنَّ بَيْنَ الرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ شَهِيدَيْنِ: كِتَابَ اللَّهِ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ، وَهُوَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِيهِمْ بَعْدَ الرَّسُولِ، وَلَا تَعْدِمُهُمَا أُمَّتُهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»[١٦].