ما الدليل على الصلوات الخمس؟ وهل النبيّ وأهل بيته كانوا يفرّقون بين صلاتي الظهر والعصر وبين صلاتي المغرب والعشاء أم يجمعون؟
لا خلاف بين المسلمين في وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة، وهو من ضروريّات الإسلام التي لا ينكرها مسلم، والدليل عليه الكتاب والسنة. أمّا الكتاب فقد أمر بالصلاة في كثير من الآيات، وسمّاها ﴿كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾[١]، أي مفروضة في أوقات معلومة، وقد ذكر أوقاتها، فقال: ﴿صَلَاةِ الْفَجْرِ﴾[٢]، وقال: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾[٣]، وهو زوالها، يعني صلاة الظهر، وقال: ﴿وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾[٤]، وهو صلاة العصر، وقال: ﴿وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾[٥]، وهو صلاة المغرب؛ لأنّ الزَّلْفَةَ هي الطائفة من أوّل الليل، وقال: ﴿صَلَاةِ الْعِشَاءِ﴾[٦]، وقد روي: «أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ تَجِدُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ مُسَمَّيَاتٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾[٧]، فَهَذِهِ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، ﴿وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾[٨]، فَهَذِهِ صَلَاةُ الْفَجْرِ، ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا﴾[٩]، هَذِهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ﴿وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾[١٠]، هَذِهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَقَالَ: ﴿وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ﴾[١١]، فَهَذِهِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ»[١٢]، وروى زرارة بن أعين، قال: «سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ -يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَقُلْتُ: فَهَلْ سَمَّاهُنَّ وَبَيَّنَهُنَّ فِي كِتَابِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾، وَدُلُوكُهَا زَوَالُهَا، فَفِيمَا بَيْنَ دُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ سَمَّاهُنَّ اللَّهُ وَبَيَّنَهُنَّ وَوَقَّتَهُنَّ، وَغَسَقُ اللَّيْلِ هُوَ انْتِصَافُهُ، ثُمَّ قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾[١٣]، فَهَذِهِ الْخَامِسَةُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾[١٤]، وَطَرَفَاهُ الْمَغْرِبُ وَالْغَدَاةُ[١٥]، ﴿وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾، وَهِيَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ[١٦]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾[١٧]، وَهِيَ صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَهِيَ أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ وَسَطُ النَّهَارِ، وَوَسَطُ الصَّلَاتَيْنِ بِالنَّهَارِ صَلَاةِ الْغَدَاةِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى -صَلَاةِ الْعَصْرِ- وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾، قَالَ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرِهِ، فَقَنَتَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَهَا عَلَى حَالِهَا فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَأَضَافَ لِلْمُقِيمِ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنَّمَا وُضِعَتِ الرَّكْعَتَانِ اللَّتَانِ أَضَافَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلْمُقِيمِ لِمَكَانِ الْخُطْبَتَيْنِ مَعَ الْإِمَامِ، فَمَنْ صَلَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي غَيْرِ جَمَاعَةٍ فَلْيُصَلِّهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَصَلَاةِ الظُّهْرِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ»[١٨]، وأمّا السنّة فهي روايات متواترة؛ منها ما روى أبو سعيد الخدريّ وغيره، قالوا: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَرَضَ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسِينَ صَلَاةً -يَعْنِي فِي الْمِعْرَاجِ- فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ عَلَيْكَ رَبُّكَ؟ فَقُلْتُ: فَرَضَ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسِينَ صَلَاةً، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يَقُومُونَ بِهَذَا، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَسَأَلْتُهُ، فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي إِذَا مَرَرْتُ بِمُوسَى حَتَّى فَرَضَ عَلَيَّ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فَقَالَ لِي مُوسَى: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَقُلْتُ: لَقَدْ رَجَعْتُ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، أَوْ قَالَ: قُلْتُ: مَا أَنَا بِرَاجِعٍ، قَالَ: فَقِيلَ لِي: إِنَّ لَكَ بِهَذِهِ الْخَمْسِ صَلَوَاتٍ خَمْسِينَ صَلَاةً، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا»[١٩]، ومنها ما روى عبادة بن الصامت، قال: «أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَتَانِي جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: إِنِّي قَدْ فَرَضْتُ عَلَى أُمَّتِكَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، مَنْ وَافَى بِهِنَّ عَلَى وُضُوئِهِنَّ وَمَوَاقِيتِهِنَّ وَرُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدِي عَهْدًا أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ»[٢٠]، ومنها ما روى أبو قتادة بن ربعيّ، قال: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: افْتَرَضْتُ عَلَى أُمَّتِكَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، وَعَهِدْتُ عِنْدِي عَهْدًا، أَنَّهُ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ لِوَقْتِهِنَّ أَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ فَلَا عَهْدَ لَهُ عِنْدِي»[٢١]، ومنها ما روى حنظلة الكاتب، قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ: رُكُوعِهِنَّ، وَسُجُودِهِنَّ، وَوُضُوئِهِنَّ، وَمَوَاقِيتِهِنَّ، وَعَلِمَ أَنَّهُنَّ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ»[٢٢]، ومنها ما روى أبو مسعود الأنصاريّ، قال: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَمَّنِي، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ نَزَلَ فَأَمَّنِي، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ نَزَلَ فَأَمَّنِي، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ، حَتَّى عَدَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ»[٢٣]، ومنها ما روى أنس بن مالك وأبو هريرة وغيرهما، قالوا: «قَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ مَسْأَلَتِي، أَسْأَلُكَ بِرَبِّ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، وَبِرَبِّ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَسْأَلُكَ بِذَلِكَ، أَهُوَ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ؟ قَالَ: نَعَمْ»[٢٤]، وفي رواية أخرى: «قَالَ الْأَعْرَابِيُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: زَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا، قَالَ: صَدَقَ، قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَخَلَقَ الْأَرْضَ، وَنَصَبَ الْجِبَالَ، آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ»[٢٥]، ومنها ما روى طلحة بن عبيد اللّه، قال: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ فَقَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ»[٢٦]، ومنها ما روى معاذ بن جبل، قال: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ»[٢٧]، ومنها ما روى جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ وغيره، قالوا: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كَمَثَلِ نَهْرٍ جَارٍ عَلَى بَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَمَا يُبْقِي ذَلِكَ مِنَ الدَّرَنِ»[٢٨]، والروايات في هذا أكثر من أن يحصى.
أمّا شرعيّة التفريق بين صلاتي الظهر والعصر وبين صلاتي المغرب والعشاء فمن المتسالم عليه بين المسلمين، لدلالة الكتاب والسنّة عليها، وإنّما اختلفوا في جواز الجمع. فقال الإماميّة بجوازه مطلقًا، وقال الجمهور بجوازه في السفر والمطر في الجملة، وقال الحنفيّة بعدم جوازه مطلقًا، واستدلّوا بأنّ الجمع بين الصلاتين من الكبائر، فلا يباح بعذر السفر والمطر كسائر الكبائر، ودليلهم على أنّه من الكبائر ما روي عن ابن عباس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «مَنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنَ الْكَبَائِرِ»، ولأنّ هذه الصلوات عُرفت مؤقّتة بأوقاتها بالدلائل المقطوع بها من الكتاب والسنة المتواترة والإجماع، فلا يجوز تغييرها عن أوقاتها بضرب من الإستدلال أو بخبر الواحد[٢٩]، وفيه أنّ الرواية ضعيفة الإسناد تفرّد بها حسين بن قيس الرحبي المعروف بحنش، وليس هكذا لفظها، بل هو «مَنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنَ الْكَبَائِرِ»[٣٠]، ولا شكّ أنّ السفر والمطر عذر. ثمّ يعارضها ما روي عن ابن عباس أنّه قال: «جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ، فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ قَالَ: كَيْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ»[٣١]، وإسناده صحيح. نعم، لا يجوز تغيير الصلاة عن أوقاتها بخبر الواحد، ولكنّ الكتاب يدلّ على وجود الوقت المشترك بين صلاتي الظهر والعصر وبين صلاتي المغرب والعشاء؛ إذ يقول: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾[٣٢]، والظاهر منه امتداد الوقت من زوال الشمس إلى انتصاف الليل. فإن قيل: هذا يقتضي أن يمتدّ وقت صلاة الظهر إلى انتصاف الليل، قلنا: يمنع ذلك ما يدلّ على انتهاء وقت صلاة العصر إلى الغروب، وهو قول اللّه تعالى: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾[٣٣]؛ لأنّ من ترك صلاة العصر إلى الغروب لم يسبّح قبله، ولا شكّ أنّ صلاة الظهر قبل صلاة العصر، ولا يمكن امتداد وقت صلاة الظهر بعد انتهاء وقت صلاة العصر، وعليه فيمتدّ وقت صلاة الظهر والعصر من زوال الشمس إلى الغروب، ويمتدّ وقت صلاة المغرب والعشاء من الغروب إلى انتصاف الليل، وروي عن معمر بن راشد أنّه قال: «سَمِعْتُ أَنَّ الصَّلَاةَ جُمِعَتْ لِقَوْلِهِ: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾، فَغَسَقُ اللَّيْلِ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ»[٣٤]، وما قلناه أظهر؛ لأنّ غسق الليل شدّة ظلمته، وهي عند انتصافه، ولعلّ القائل أراد هذا، ويزيد ذلك بيانًا ما روي عن النبيّ وأهل بيته عليه وعليهم السلام؛ لأنّه ليس بخبر الواحد، بل هو بالغ التواتر، إلا أنّ أكثره يدلّ على جواز الجمع في السفر والمطر؛ كرواية جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ، قال: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي السَّفَرِ»[٣٥]، ورواية ابن عباس[٣٦]، وعبد اللّه بن مسعود[٣٧]، وعبد اللّه بن عمرو السهمي[٣٨]، قالوا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ»، ورواية معاذ بن جبل، قال: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي السَّفَرِ»[٣٩]، ورواية أبي هريرة، قال: «جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي غَزْوَتِهِ إِلَى تَبُوكَ»[٤٠]، ورواية أنس بن مالك قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي السَّفَرِ»[٤١]، وروايته الأخرى، قال: «أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَجِلَ عَلَيْهِ السَّفَرُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إِلَى أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ»[٤٢]، ورواية ابن عمر، قال: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ»[٤٣]، وروايته الأخرى، قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَجَّلَتْ بِهِ حَاجَةٌ جَمَعَ بَيْنَهُمَا»[٤٤]، ورواية علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ، فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا»[٤٥]، ورواية عليّ بن الحسين عليهما السلام، قال: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ يَوْمًا جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَإِذَا أَرَادَ السَّفَرَ لَيْلَةً جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ»[٤٦]، ورواية محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام، قال: «رَأَيْتُ أَبِي وَجَدِّي الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَجْمَعَانِ مَعَ الْأَئِمَّةِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ، وَلَا يُصَلِّيَانِ بَيْنَهُمَا شَيْئًا»[٤٧]، وروايته الأخرى، قال: «إِذَا كُنْتَ مُسَافِرًا لَمْ تُبَالِ أَنْ تُؤَخِّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْعَصْرِ، فَتُصَلِّيَ الظُّهْرَ ثُمَّ تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ الْآخِرَةُ، تُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى تُصَلِّيَهَا فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، ثُمَّ تُصَلِّي الْعِشَاءَ»[٤٨]، وروايته الأخرى، قال: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ يُؤَخِّرُ مِنَ الْمَغْرِبِ وَيُعَجِّلُ الْعِشَاءَ، فَيُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا، وَيَقُولُ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ»[٤٩]، ورواية جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ أَوْ عَجَّلَتْ بِهِ حَاجَةٌ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُعَجِّلَ عِشَاءَ الْآخِرَةِ فِي السَّفَرِ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ»[٥٠]، وروايته الأخرى، قال: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي السَّفَرِ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مُسْتَعْجِلًا، وَتَفْرِيقُهُمَا أَفْضَلُ»[٥١]، وروايته الأخرى: «أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي السَّفَرِ وَفِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَةِ فِي الْحَضَرِ إِذَا كَانَ عُذْرٌ مِنْ مَطَرٍ أَوْ بَرْدٍ أَوْ رِيحٍ أَوْ ظُلْمَةٍ، يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ»[٥٢]، والروايات عن النبيّ وأهل بيته عليه وعليهم السلام في جواز الجمع بينهما من غير علّة أيضًا متواترة، ولكنّها تدلّ على صدوره عنهم في بعض الأيّام بالندرة.
بناء على هذا، فلا بأس بالجمع بين صلاتي الظهر والعصر وبين صلاتي المغرب والعشاء مطلقًا، ولكنّ الأفضل التفريق بينهما، لا سيّما في الحضر إذا لم يكن عذر، ويكره الإعتياد على الجمع قطعًا؛ لأنّه خلاف السنّة، بل الظاهر أنّه بدعة، والبدعة حرام، ولذلك قال المنصور حفظه اللّه تعالى لجماعة من الإماميّة جاؤوه ليناظروه في شيء: «أَتَرَوْنَ أَنِّي لَا أَعْرِفُ عُلَمَاءَكُمْ مِنْ جُهَّالِكُمْ؟! مَنِ اعْتَادَ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَهُوَ مِنْ جُهَّالِكُمْ»[٥٣].
لديّ عدّة أسئلة:
١ . إن كان اللّه تعالى لم يفرّط في كتابه من شيء وفيه تبيان لكلّ شيء، فهل مضمون الكتاب يكفي لغرض هداية الناس من حيث العلم والعمل، أم أنّ الهداية تحتاج لمضمون آخر؟
٢ . بخصوص الصلاة قد ذكر اللّه تعالى ثلاث صلوات: صلاة الفجر والعشاء والوسطى اسمًا ولم يذكر صلاة أخرى من حيث التسمية. فهل هو تعالى عمد في عدم ذكر بقية الصلوات تسمية أم الصلوات المذكورة اسمًا هي المقصودة فقط؟
٣ . في قوله تعالى: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ» (البقرة/ ٢٣٨)، هل لفظ «الصلوات» يشمل الصلاة الوسطى أم لا يشملها؟ ففي الحالة الأولى، فإنّ احتمالية عدد الصلوات تبدأ من ثلاثة صلوات، وفي الحالة الثانية (عدم الشمول) تبدأ من خمسة صلوات. أرجوا الإجابة مع ذكر الدليل.
٤ . في قوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» (سبأ/ ٤٦)، هل كلمتا «مَثْنَى وَفُرَادَى» تعدّان وصفين للقيام «أن تقوم+وا»، أم لواو الجماعة؟ ففي الحالة الأولى، فإنّ القيام أي ما يسمّى بالركعة يكون إمّا مثنى أو فرادى، بمعنى اثنتين اثنتين وفرد فرد من حيث الركعات، وفي الحالة الثانية لا يجوز قيام الصلاة بحسب عدد الأفراد إمّا فرادى أو اثنين اثنين، أي أنّ جماعة أكثر من اثنين أي ثلاثة أفراد لا تجوز.
وكذلك لديّ أسألة أخرى سأوكلها إلى ما بعد إجابتكم، ولكم جزيل الشكر والتقدير.
يرجى التنبّه لما يلي:
١ . إنّ كتاب اللّه يكفي لهداية الناس دون أدنى شكّ، لكنّه يأمر بطاعة النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾[١]، وعليه فإنّ كفاية كتاب اللّه لا تعني عدم الإحتياج إلى السنّة؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا قال: «سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ الْهَاشِمِيَّ الْخُرَاسَانِيَّ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾[٢]، فَقَالَ: أَطِيعُوا اللَّهَ بِإِطَاعَةِ كِتَابِهِ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ بِإِطَاعَةِ سُنَّتِهِ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُطِيعُ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا يُطِيعُ سُنَّةَ الرَّسُولِ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا يُطِيعُ كِتَابَ اللَّهِ حَتَّى يُطِيعَ سُنَّةَ الرَّسُولِ، وَإِنْ جُدِعَ أَنْفُهُ»[٣]. هذا ما يتغافل عنه القرآنيّون الذين ينادون: «حسبنا كتاب اللّه»!
٢ . لقد بيّنا في جواب السؤال أعلاه أنّ الكتاب والسنّة يدلّان على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة، وقلنا بأنّ هذا من ضروريّات الإسلام التي لا ينكرها مسلم، فراجع.
٣ . من الواضح أنّ «الصلوات» في قول اللّه تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾[٤] شاملة للصلاة الوسطى؛ إذ لا يصحّ أن يقال لها وسطى إلا باعتبار أنّها خير الصلوات، أو واقعة في وسطهنّ وهي منهنّ؛ لأنّ وسط الشيء ما بين طرفيه وهو منه، وهذا من باب ذكر الخاصّ بعد العامّ معطوفًا عليه بالواو للتنبيه على فضله، حتّى كأنّه ليس من جنس العامّ، تنزيلًا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات؛ كقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾[٥]؛ إذ لا شكّ أنّ جبريل وميكال من ملائكته، وإنّما خصّهما بالذكر بعد التعميم للتنبيه على فضلهما، ولا عبرة بابتداء احتمالية عدد الصلوات من ثلاث صلوات؛ لأنّه كالأصل، والأصل دليل حيث لا دليل، وهناك دليل قاطع على أنّ الصلوات خمس كما بيّناه في جواب السؤال أعلاه، ومن الواضح أنّ لفظ الصلوات يصدق على خمس صلوات كما يصدق على ثلاث صلوات على وجه سواء.
٤ . إنّ قول اللّه تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ۖ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾[٦] نزل في مكّة خطابًا للكافرين الذين نسبوا النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى الجنون، ولا تعلّق له بكيفيّة الصلاة أو كمّيّتها أصلًا، ومعناه: ﴿قُلْ﴾ يا محمّد للكافرين الذين ﴿يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾[٧]: ﴿إِنَّمَا أَعِظُكُمْ﴾ أي أوصيكم ﴿بِوَاحِدَةٍ﴾ أي بخصلة واحدة، وقيل: بكلمة واحدة، وهي كلمة التوحيد، ومن قال بالأول قال: إنّه فسّر الواحدة بما بعده، فقال: ﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ﴾ أي تنهضوا لوجه اللّه، لا للأغراض الفاسدة، ولا للذين اتّخذتموهم أربابًا من دون اللّه؛ فإنّ النيّة إذا حسنت وخلصت أدّت إلى الخير، وليس المراد بالقيام هنا القيام على الأرجل، وإنّما المراد به القصد للإصلاح والإقبال على معرفة الحقّ ﴿مَثْنَى وَفُرَادَى﴾ أي اثنين اثنين وواحدًا واحدًا، وهذه دعوة الكافرين إلى التفرّق وتجنّب الغوغاء والجهّال؛ لأنّ الغوغاء لا خير في صحبتهم، والجهّال إذا اجتمعوا كثر جهلهم وأضلّ بعضهم بعضًا، وإذا خلوا رجعوا إلى أنفسهم، ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ تفكّرًا صحيحًا مستندًا إلى الدليل، ﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ أي ليس بمحمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم جنون؛ لأنّكم صاحبتموه لفترة طويلة، ولم تروا من منشئه إلى مبعثه وصمة تنافي النبوّة من كذب أو سفاهة أو طيش، ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ﴾ أي مخوّف من معاصي اللّه ﴿بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ يعني عذاب الآخرة. هذا هو ظاهر الآية، وأمّا حملها على عدد ركعات الصلاة أو عدد أفراد الجماعة فتكلّف ظاهر وتفسير بالرأي.
نعيذك باللّه -يا أخانا- من اتّباع أهواء القرآنيّين؛ فإنّهم يفسّرون القرآن بآرائهم، ولا علم لهم بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه ودقائق معانيه ودلالاته، ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾[٨].
أشكركم جزيل الشكر والتقدير بخصوص الإجابة.
بخصوص جواب السؤال الأول:
أولًا إنّ الكفاية بحدّ ذاتها تعني عدم الحاجة للغير؛ لأنّ الكافي يسدّ جميع الحاجات وإلا فهو غير كاف. فإن قلنا أن مضمون الكتاب يكفي لهداية الناس كما في قولكم: «إنّ كتاب اللّه يكفي لهداية الناس دون أدنى شكّ» ذلك يعني أننا لا نحتاج لمضمون آخر وإلا فهو غير كاف. فقولكم من جهة كونه كافيًا مع كوننا نحتاج لغيره يلزم منه التناقض.
ثانيًا من حيث كتاب اللّه فإنّه لم يأمرنا ولو في مكان واحد بوجوب طاعة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وإنّما أمرنا بطاعة الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وفي ذلك دلالات كثيرة منها اختلاف العنوانين من حيث النتائج والصفات وإن قلتم أنّ شخص النبيّ هو ذات شخص الرّسول، فوجوب طاعة الرّسول يلزم منه وجوب طاعة شخصه في جميع حالاته كالنبوة، سأقول: وإن سلّمنا بذلك جدلًا ولا نسلّم إلا مع ردّ جميع اشكالات الموضوع، فإنّ الآية لا يستفاد منها حجّيّة مطلق السنة (القول والفعل والتقرير)، بل يستفاد منها حجّيّة ما ترجع إليه الطاعة أي الأمر فقطّ والأمر بعض الأقوال، فليس كلّ أقوال الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أوامر حتى يجب طاعة جميع أقواله، وكذلك أنّ القرآن يبيّن لنا بخصوص أفعاله بعض ما لا يريده اللّه تعالى؛ كقوله تعالى: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ» (التّوبة/ ٤٣) وآيات أخرى معروفة في الموضوع وما لا يريده اللّه تعالى لا حجّيّة فيه أساسًا. ففعله ليس حجّة مطلقًا والتقرير أوهن ذكرًا ونقاشًا. فلذلك أنّ السنّة المطلقة (القول والفعل والتقرير) لا حجّيّة فيها أساسًا إلا بعض حصصها (الأوامر الرّسولية) فقط ومن حيث العقل والوجدان فإن كنا مكلّفين بالسنة من قبل اللّه تعالى (القول والفعل والتقرير) و«لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» وما لا يمكن إثباته فهو خارج عن وسع الإنسان والسنة متلاعب فيها وليس لها حدود معلومة حتى يمكن القول من خلال حدودها عدم نقص مضمونها، فيلزم من واقع السنة عدم ارادة اللّه تعالى تكليفها؛ لأنّ التكليف من قبله تعالى يلزم منه إرادته في إيصال مضمون التكليف بتمامه إلى المكلّفين وإلا فهو إله ضعيف متناقض، ليس بكلّ شيء محيط وليس على كلّ شيء قدير والعياذ باللّه.
و بخصوص جواب السؤال الثاني:
لم أجد جوابًا للسؤال فلذا سأعيده لجنابكم: ان اللّه تعالى قد سمّى ثلاث صلوات في كتابه الكريم: صلاة الفجر، الصلاة الوسطى وصلاة العشاء وإن كان اللّه تعالى لم يفرّط في كتابه من شيء فلماذا فرّط في ذكر أسماء الصلوات الأخرى؟ فإمّا أنّ هذه المقولة أي «لم يفرّط اللّه في كتابه من شيء» مقولة كاذبة والعياذ باللّه إذ هو فرّط في عدم ذكر أسماء بقية الصلوات وذكر ثلاثة فقطّ وإمّا هو لم يفرّط والصلوات هي ثلاثة فقطّ. فهل لديكم حلّ ثالث لهذا الإشكال؟
و بخصوص جواب السؤال الثالث:
فإنّ جوابكم «لا خلاف بين المسلمين في وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة وهو من ضروريّات الإسلام التي لا ينكرها مسلم والدليل عليه الكتاب والسنة» يوجد فيه عدّة دعاوى:
١ . دعوى الإجماع ولا يمكن إثبات ذلك لجميع المسلمين من زمن الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لزمننا هذا إلا أن يكون لديكم جواب يدلّ على ثبوت الدعوى.
٢ . دعوى وجود الدليل في الكتاب ولم تذكروا منه شيئًا في المنشور.
٣ . دعوى حجّيّة ما يسمّى الآن بالسنّة وكما بيّنا لكم عدم حجّيّتها في الردّ السابق إلا أن تبيّنوا لنا خلاف ذلك بالأدلّة.
٤ . دعوى ثبوت «دلوك الشمس» لوقت الظهر وهو من الموادّ المختلف فيها عند اللغويين، فمنهم من يقول أنّه وقت الظهر لأجل ما يسمّى بصلاة الظهر ومنهم من يقول أنّه عند غروب الشمس، إلا أن يكون لديكم ما يجعل الترجيح قطعيًا ولا يتعارض ما هو مذكور في القرآن بخصوص أوقات التسبيح والصلوات في عشرات مرات.
و سأضيف للأسألة سؤالين:
السؤال الأول: قال اللّه تعالى: «وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ» (هود/ ١١٤). فإن كان الطرف الأول للنهار هو بداية ظهوره لحين معيّن وكذلك الطرف الثاني له يبدأ من بداية نهاية النهار لحين اختفاء ضوءه وهناك أمر في الآية بخصوص وجوب أداء الصلاة عند الطرف الثاني للنهار، فما هي اسم الصلاة التي يجب أداؤها في هذا الوقت بالذات أي عند نهاية النهار؟ فإن قلتم أنّها المغرب فإنّها بعد نهاية النهار ولا يوجد قيد بعد أو قبل في الآية فهي تعني عند الطرفين.
السؤال الثاني: قال اللّه تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ۚ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ۚ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ۚ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ۚ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (النّور/ ٥٨)؛ حيث ذكر تعالى أهمّ ما يمكن ذكره عند الفجر والعشاء وأمّا عند الظهيرة فلم يذكر سوى مسألة وضع الثياب؛ فإما أن يكون هذا الأمر أي وضع الثياب قبل صلاة الظهر بمدّة أو بعدها بمدّة وذلك كالقبل والبعد المذكور للفجر والعشاء، فلماذا لم يذكر صلاة الظهر بقوله قبل صلاة الظهر أو بعدها، بل ذكر وضع الثياب؟ فهل وضع الثياب أهمّ ما يمكن ذكره عند الظهيرة أي أهمّ من صلاة الظهر إن كانت موجودة أساسًا؟! أم أنّ صلاة الظهر أساسًا غير موجودة فلهذا أنّ اللّه تعالى لم يذكرها؟
و بخصوص جواب السؤال الرابع:
قولكم: «إذ لا يصحّ أن يقال لها وسطى إلا باعتبار أنها واقعة في وسطهنّ وهي منهنّ، حيث أنّ وسط الشيء ما بين طرفيه وهو منه». بخصوص قولكم: «حيث أنّ وسط الشيء» أقول: نحن لا نتكلّم عن شيء واحد ليكون وسطه بعضه وإنما نتكلّم عن أشياء (الصلوات) إن صحّ التعبير. فقولي أنّ الصلاة الوسطى تتوسّط صلوات أخرى لا يجعل الصلاة الوسطى بعض الصلوات وإنما هي غيرهن وكذلك قولي أنّ الصلاة الوسطى تتوسط الصلوات، يحتمل فيه احتمالين: التبعيض والغيرية، أي أنّ الصلاة الوسطى يمكن أن تكون إحدى الصلوات أو أن تكون غير الصلوات والمثال المستخدم «وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ» يشير إلى وجود حالة ذكر الخاصّ بعد العامّ معطوفًا عليه ولا يدلّ بالضرورة على حتميّة انطباق هذا المثال على آية حفظ الصلوات وبخصوص قولكم: «لا عبرة بابتداء احتمالية عدد الصلوات من ثلاثة» أقول: إنّ الجمع بحدّ ذاته يبدأ من ثلاثة أفراد وبما أننا لدينا صلاة وسطى فمجموع الصلوات يجب أن يكون عددًا فرديًا ليتوسّطه صلاة وسطى. فإن قلنا أنّ الصلاة الوسطى هي أحد أفراد كلمة «الصلوات» يكون رقم ٣ في الآية أقلّ عدد فرديّ محتمل، أي ستبدأ الإحتمالات كالتالي: ٣، ٥، ٧، ٩ ... وأمّا إذا كانت الصلاة ليست أحد أفراد كلمة «الصلوات» سيكون لدينا رقم ٥ أقلّ عدد فرديّ محتمل، أي تبدأ الإحتمالات كالتالي: ٥، ٧، ٩، ١١ ... أي إذا ثبت أنّ كلمة «الصلاة الوسطى» ليست أحد أفراد كلمة «الصلوات»، سيكون لدينا إشكالية مفادها:
إنّ المقولات التالية: أنّ اللّه تعالى لم يفرّط في كتابه من شيء وفيه تبيان لكلّ شيء وكتابه نور يهدي إلى الرشد وقد تبيّن الرشد من الغي، فالقرآن يهدي إلى الدين ... هي مقولات كاذبة؛ لأننا في حالة كون الصلاة الوسطى ليست إحدى الصلوات في الآية ستبدأ احتمالية عدد الصلوات من الرقم ٥، ٧، ٩ ... وذلك يخالف واقع ذكر اسم ثلاث صلوات فقطّ في القرآن، أي أنّ اللّه تعالى فرّط ذكر بقيّة الصلوات وكذلك يخالف واقع ذكر ثلاثة أوقات ضمن عدد من الآيات في حالة ترجيح معنى قريب لغروب الشمس لكلمة «دلوك الشمس»، أي أنّ اللّه تعالى فرّط في كتابه ذكر بقيّة الأوقات وكذلك يخالف واقع الحقائق الرقميّة الموجودة في تصاريف جذر «صلاة» ضمن تمام القرآن ولذلك أنّ القول الأصحّ لما بيّنت لكم سابقًا أنّها أحد أفراد كلمة «الصلوات» ليبدأ الإحتمال من رقم ٣ فما فوق.
يرجى التنبّه لما يلي:
١ . لم يكن في قولنا تناقض، ولكنّك لم تدقّق فيه. إنّما يكفي القرآن الذي أمر بطاعة الرّسول، فهو كاف باعتبار أمره بها. فلو أسقطت منه أمره بها فهو غير كاف، كما لو أسقطت أمرًا من سائر أوامره. ثمّ إنّه ليس من الواجب أن يكفي القرآن في كلّ شيء بشكل مباشر؛ كيف؟! وهو مستحيل؛ لعدم انحصار الأشياء، بل يجوز أن يكفي في بعض الأشياء بشكل غير مباشر، بمعنى أن يضع القواعد والوسائل اللازمة لمعرفة الحقّ فيها مهما تكثّرت وتجدّدت وتغيّرت إلى يوم القيامة. ألا ترى أنّه يقول: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾[١]؟ أتزعم أنّ هذا تفريط من اللّه سبحانه حيث أرجع المسلمين ﴿إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ في بعض الأشياء، ولم يبيّنها لهم بشكل مباشر؟! كلّا، بل بيّن لهم الأشياء كلّها، منها ما بيّنه بشكل مباشر، ومنها ما بيّنه بشكل غير مباشر، ليعلم ﴿مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾[٢].
٢ . إنّ التفريق بين النبيّ والرّسول تلاعب بالألفاظ، ولا يرجع إلى معنى محصّل. إنّ اللّه تعالى يقول: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ﴾[٣]، ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[٤]، ويقول: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾[٥]، ويقول: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾[٦]، ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾[٧]، بل يحكي أوامر الأنبياء بطاعة أعيانهم من دون ذكر واحد من العنوانين، فيقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾[٨]، ويقول: ﴿فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾[٩]، ويقول: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾[١٠]، ويقول: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾[١١]، ويقول: ﴿إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾[١٢]، ويقول: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[١٣]، ويقول: ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾[١٤]، ويقول: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[١٥].
٣ . دع عنك هذه التقسيمات الشاذّة والتبعيضات الباردة التي لا أساس لها. إنّ سنّة محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حجّة كلّها؛ للإطلاق في قول اللّه تعالى: ﴿أَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾[١٦]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾[١٧]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾[١٨]؛ كما أنّ أقواله حجّة كلّها لقول اللّه تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾[١٩]، وأنّ أفعاله حجّة كلّها لقول اللّه تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[٢٠]، ولا يعني هذا أنّ كلّ ما قاله أو فعله واجب على المسلمين، لكنّه جائز، والجائز أعمّ من المباح والمستحبّ والواجب، ولا يعتبر واجبًا إلّا إذا كان موافقًا لكتاب اللّه غير مخصّص ولا معمّم، وكان ممّا أمر به أو داوم عليه، وأمّا قول اللّه تعالى: ﴿لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾[٢١] فلا يدلّ على عدم حجّيّة إذن الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؛ كيف؟! وقد قال اللّه له: ﴿فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾[٢٢]، ولكنّه يدلّ على أنّه لو كان لم يأذن لهم حتّى يتبيّن له الذين صدقوا ويعلم الكاذبين لكان أولى، وهذا تسديد من اللّه تعالى لرسوله، وباعتبار هذا التسديد أمر بطاعته؛ لأنّه إذا سها أو ترك الأولى أوحى إليه وسدّده قبل أن يفوت وقت الحاجة أو بعد ذلك إذا أمكن التدارك؛ كما قال له: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾[٢٣].
٤ . ليست السنّة عندنا ما يسمّى عند الناس بـ«الحديث»؛ لأنّه خبر عن السنّة، والخبر محتمل للكذب والخطأ، وغاية ما يفيده الظنّ، ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾[٢٤]، إلا إذا كان متواترًا، والمتواتر ما يرويه عدد كثير لا يمكن تواطؤهم على الكذب ولا اجتماعهم على الخطإ، وهو من اليقينيّات العقليّة التي لا ينكرها إلا أهل السفسطة، وهو يفيد العلم، وهو أحد الركنين لحجّيّة القرآن. فمن علم شيئًا من أمر الرسول أو نهيه فلا بدّ له من طاعته، وإنّما يعلمه بإحدى الطريقتين: سماعه من الرّسول نفسه إذا كان شاهدًا عنده، أو سماع خبره من عدد كثير لا يمكن تواطؤهم على الكذب أو اجتماعهم على الخطإ عقلًا، وهذا ما يدلّ عليه قول اللّه تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾[٢٥]؛ بالنظر إلى أنّ حجّيّة الخبر المتواتر عنه قضيّة قلبيّة أي عقليّة، وحجّيّة السماع تتعلّق بمن يستمع إليه وهو شاهد. مع ذلك، ينبغي الإنتباه إلى أنّ قول اللّه تعالى هذا هو إرشاد إلى حكم عقليّ؛ لأنّ حجّيّة الخبر المتواتر، لها طبيعة عقليّة؛ بمعنى أنّ العقل عندما يلتفت إلى كثرة رواته وتوافقهم، لا يعطي احتمال أن يكون كذبًا أو خطأ، بل يقطع بصحّته؛ كما يفعل ذلك فيما يتعلّق بألفاظ القرآن؛ فإنّه يقطع بأصالتها مع الإلتفات إلى روايتها عن الرّسول بشكل متواتر. بهذا يسقط تعلّقك بقول اللّه تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾[٢٦]؛ لأنّ المسلمين يسعهم العلم ببعض السنّة عن طريق الأخبار المتواترة، وهناك طريق آخر منّ اللّه به عليهم للعلم بكلّها، وهو الرجوع إلى أهل الذكر وأولي الأمر من أهل بيت الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرًا، وجعلهم لا يفارقون القرآن إلى يوم القيامة، كما في حديث الثقلين[٢٧].
٥ . لم يكن من الواجب عقلًا ولا شرعًا أن يسمّي اللّه تعالى كلّ صلاة باسم معيّن؛ لأنّه لا يوجد أيّ فرق بين أن يقول: «أقيموا صلاة الفجر»، وبين أن يقول: «أقيموا الصلاة عند الفجر»! هذا وهم عجيب منكم أسّستم عليه بنيانكم، كـ﴿مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾[٢٨]. إنّ اللّه تعالى يقول: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾[٢٩]، يعني زوالها، فلك أن تسمّي هذه الصلاة إن شئت، فتقول لها: «صلاة دلوك الشمس»، وإنّه يقول: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾[٣٠]، وقبل الغروب هو العصر، فلك أن تسمّي هذه الصلاة إن شئت، فتقول لها: «صلاة قبل الغروب»! فإن قلت: ما باله سمّى الثلاث، ولم يسمّ الإثنتين؟! قلنا: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾[٣١]، ولعلّ ذلك لاشتراك وقت الظهر والعصر، ووقت المغرب والعشاء؛ لأنّ أوقات الصلوات عنده ثلاثة: صلاة في الصبح، وصلاتان بعد الظهر إلى الغروب، وصلاتان بعد الغروب إلى غسق الليل يعني نصفه، وهذا قريب جدًّا، فخذه، ولا تكن من الغافلين.
٦ . نحن لا ننكر وجود منكر للصلوات الخمس، وكيف ننكر وجود من نراه؟! لكنّا نعتقد بأنّه ليس بمسلم؛ لأنّه ينكر المعلوم من الدّين بالضرورة، وهذا معنى قولنا: «لا خلاف بين المسلمين»، وقد صحّ عن حذيفة بن اليمان أنّه قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْخُشُوعُ، وَآخِرَ مَا تَفْقِدُونَ مِنْهُ الصَّلَاةُ، وَلَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، وَلَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، لَا تُخْطِئُونَ طَرِيقَهُمْ وَلَا يُخْطَأُ بِكُمْ، وَلَيَجِيئَنَّ قَوْمٌ يَقُولُونَ: مَا بَالُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؟! لَقَدْ ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾، لَا تُصَلُّوا إِلَّا ثَلَاثًا، وَلَيَجِيئَنَّ قَوْمٌ يُصَلِّي نِسَاؤُهُمْ وَهُنَّ حُيَّضٌ، وَلَيَجِيئَنَّ قَوْمٌ يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ، حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَحْشُرَهُمْ مَعَ الدَّجَّالِ»[٣٢]، وهذا يدلّ على أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان قد أخبر عن ظهور المنكرين للصلوات الخمس في آخر الزمان، وكان أوّل من أنكرها مسيلمة الكذاب؛ فإنّه قلّص الصلوات الخمس، فجعلها ثلاث صلوات في اليوم والليلة[٣٣]، ولا شكّ أنّ من رغب عن سنّة الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى سنّة مسيلمة الكذاب فقد ضلّ ضلالًا بعيدًا، واستحقّ الحشر مع الدّجّالين!
٧ . قال الأزهريّ (ت٣٧٠هـ) في «تهذيب اللغة»: «الدُّلُوكُ: الزَّوَالُ، وَلذَلِكَ قِيلَ لِلشَّمْسِ إِذَا زَالَتْ نِصْفَ النَّهَارِ: دَالِكَةٌ»[٣٤]، وبهذا قال أهل البيت، وابن عبّاس، وابن عمر، والحسن، ومجاهد، ومقاتل، وقتادة، والضحاك، وعمر بن عبد العزيز، وكثير من أهل العلم، بل قال يحيى بن سلام (ت٢٠٠هـ): «هُوَ قَوْلُ الْعَامَّةِ»[٣٥]، وهو الحقّ؛ لأنّ دلوك الشمس ميلها للغروب، وهو يبدأ من الزّوال، ولأنّ كلمة الحكيم البليغ إذا أمكن حملها على التأسيس والإفادة لم تُحمل على التكرار والإعادة، وأنتم مقرّون بوجود هذا المعنى في اللغة، إلا أنّكم تقولون بأنّه يحتمل معنى آخر، وهو الغروب، وهذا بمعنى إجمال قوله تعالى عندكم واختلافكم معنا فيه، وهو يوجب عليكم الرجوع إلى الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ليبيّن لكم؛ لقول اللّه تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾[٣٦]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾[٣٧]، ولا شكّ أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان يأمر بخمس صلوات، ويداوم عليها، والأخبار بذلك متواترة مشهورة كما بيّنّا، ولم يرد خبر واحد بخلاف ذلك؛ فالواجب عليكم القول بخمس صلوات، أخذًا بما يحتمله القرآن، ويدلّ عليه السنّة؛ مضافًا إلى حكم العقل بالإحتياط؛ إلّا أن تقولوا أنّكم أعلم بالقرآن من الذي أُنزل عليه، وهذا قول لا نظنّ أن تقولوا به، وإن كان ما تقولون به يستلزمه ويؤول إليه! لذلك نقول لكم: إذا كان أحد معاني دلوك الشمس في اللغة زوالها، وجاء عن الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم متواترًا بأنّه هو المراد، فبأيّ جرأة تنكرون وجوب صلاة الزوال؟! فهل هذا إلا التلاعب بالدّين والقمار بالآخرة؟! ﴿أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾[٣٨].
٨ . اسم الصلاة التي يجب أداؤها عند نهاية النهار هو صلاة العصر؛ كما قال الشريف المرتضى (ت٤٣٦ه): «قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ يَعْنِي الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ، وَطَرَفُ الشَّيْءِ مَا يَقْرُبُ مِنْ نِهَايَتِهِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ لَيْسَ هُوَ فِي طَرَفِ النَّهَارِ، وَإِنَّمَا هُوَ طَرَفُ اللَّيْلِ، بِدَلَالَةِ أَنَّ الصَّائِمَ يَحِلُّ لَهُ الْإِفْطَارُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْإِفْطَارُ لَا يَحِلُّ فِي بَقِيَّةِ النَّهَارِ»[٣٩].
٩ . إنّ وضع الثياب عند الظهيرة ليس بأهمّ من صلاة الظهر، ولكنّه علّة الحكم بوجوب الإستئذان، ولذلك ذكره، وإنّما لم يذكره في الوقتين الآخرين لظهور العلّة فيهما.
١٠ . إنّ «الصلوات» شيء واحد من حيث الجنس، ولا يمكن أن يكون وسطهنّ خارجًا منهنّ. بعبارة أخرى، إنّ لفظ «الصلوات» عامّ، وشموله للصلاة الوسطى هو بسبب شمول العامّ لجميع أفراده؛ كما يقال: «أكرم العلماء والعالم الأوسط». هذا واضح جدًّا لولا التعنّت وشهوة الجدال. ثمّ العجب كلّ العجب أنّكم تأخذون بأوّل ما يحتمله لفظ «الصلوات»، مع أنّه مخالف لسنّة الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ولا تأخذون بأوّل ما يحتمله لفظ «دلوك الشمس»، مع أنّه موافق لسنّة الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم! كأنّكم تتعمّدون معصية الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وتحرصون عليها!
من هذا يعلم أنّ قولكم في لزوم التفريط وكذب المقولات التي قالها اللّه تعالى في كتابه إذا كان كيت وكيت، كلّه تحكّم لا أساس له ولا معنى، وكذلك قولكم في لزوم مخالفة واقع الحقائق الرقميّة الموجودة في تصاريف جذر «صلاة» ضمن تمام القرآن، وسائر ما تكلّفتم بأوهامكم وظنونكم لتبرّروا شقاق الرّسول واتّباع غير سبيل المؤمنين، ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[٤٠].