هل يجوز الصلاة بغسل الجمعة وسائر الأغسال الواجبة والمندوبة؟ ما حكم الوضوء بعد غسل الجنابة والأغسال التي تجزئ عن الوضوء؟ هل يعتبر لغوًا؟
الحقّ أنّ غسل الجنابة يكفي للصلاة، ولا حاجة بعده إلى الوضوء، وهذا يرجع إلى قول اللّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾[١]؛ نظرًا لأنّه جعل الإغتسال غاية لحرمة الإقتراب من الصلاة في حال الجنابة، ومفهوم ذلك جواز الإقتراب من الصلاة بعد الإغتسال من الجنابة، وعليه فلا يجب الوضوء للصلاة بعد غسل الجنابة، بل يعتبر ذلك تحصيلًا للحاصل.
لكن هل يكفي للصلاة الإغتسال من غير الجنابة؟ الحقّ أنّه يكفي؛ لأنّ الحدث الناشئ عن الجنابة هو أكبر من الحدث الناشئ عن غيره، وإذا كان الإغتسال منه كافيًا للصلاة فإنّ الإغتسال من غيره كافٍ من باب أولى، وهذا قول أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وقول كثير من الصحابة والتابعين، وقول المنصور الهاشمي الخراساني؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ الْهَاشِمِيَّ الْخُرَاسَانِيَّ يَقُولُ: الْغُسْلُ الْوُضُوءُ الْأَكْبَرُ، قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا يُجْزِي عَنِ الْوُضُوءِ إِلَّا الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ! قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَيُجْزِي الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَلَا يُجْزِي الْغُسْلُ مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ؟! أَفَلَا يَعْقِلُونَ؟![٢]
لذلك، فإنّ الوضوء بعد الغسل لا طائل تحته، بل يعتبر الإلتزام به بدعة ووسواسًا؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَمِعْتُ الْعَالِمَ يَقُولُ: الْوُضُوءُ بَعْدَ الْغُسْلِ بِدْعَةُ الْمُتَكَلِّفِينَ.[٣]
نعم، لا بأس بالوضوء قبل الغسل؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
كُنْتُ أَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ لِمَا أَجِدُ فِي نَفْسِي، فَأَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَهُ فَنَسِيتُ، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ قَالَ لِي: لَعَلَّكَ تَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ! قُلْتُ: نَعَمْ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ فَنَسِيتُ! قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، فَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلَ، فَتَوَضَّأْ قَبْلَ الْغُسْلِ لَا بَعْدَهُ، فَإِنَّ الْوُضُوءَ بَعْدَ الْغُسْلِ إِسْرَافٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.[٤]
بل الحقّ أنّ الوضوء قبل كلّ غسل مستحبّ، إلا غسل الجنابة، وهذا مراد الروايات التي تقول: «كُلُّ غُسْلٍ قَبْلَهُ وُضُوءٌ إِلَّا غُسْلُ الْجَنَابَةِ»[٥]؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
أَتَيْتُ الْمَنْصُورَ قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِأُصَاحِبَهُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ لِي: تَرَبَّصْ سَاعَةً حَتَّى أَغْتَسِلَ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَلَمْ أَزَلْ مَشْغُولًا مُنْذُ أَصْبَحْتُ، فَذَهَبَ إِلَى الْمُتَوَضَّئِ فَتَوَضَّأَ وُضُوءَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى الْمُغْتَسَلِ، فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَغُسْلٌ بَعْدَ الْوُضُوءِ؟! قَالَ: وَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ؟! هَلْ هُوَ إِلَّا نُورٌ عَلَى نُورٍ؟! ثُمَّ دَخَلَ الْمُغْتَسَلَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ، فَنَادَانِي مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ: إِلَّا غُسْلَ الْجَنَابَةِ! إِلَّا غُسْلَ الْجَنَابَةِ![٦]
يرجى بيان المزيد عن إجزاء الغسل عن الوضوء. هل الصلاة بكلّ غسل صحيحة؟ أي يمكننا أن ننوي الغسل كلّما استحممنا ونصلّي بذلك دون أن نتوضّأ؟
لقد جاءت روايات كثيرة في إجزاء الغسل عن الوضوء؛ كرواية عائشة فيها: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ»[١]، وروايتها الأخرى فيها: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ وَيُصَلِّي الْغَدَاةَ وَلَا أَرَاهُ يُحْدِثُ وُضُوءًا بَعْدَ الْغُسْلِ»[٢]، ورواية أنس وابن عبّاس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَوَضَّأَ بَعْدَ الْغُسْلِ»[٣]، ورواية ابن عمر فيها: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْوُضُوءِ بَعْدَ الْغُسْلِ، فَقَالَ: وَأَيُّ وُضُوءٍ أَفْضَلُ مِنَ الْغُسْلِ؟!»[٤]، ورواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام أنّه قال: «الْغُسْلُ يُجْزِي عَنِ الْوُضُوءِ، وَأَيُّ وُضُوءٍ أَطْهَرُ مِنَ الْغُسْلِ؟!»[٥]، ورواية عمّار الساباطي فيها: «سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الرَّجُلِ إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ جَنَابَتِهِ، أَوْ يَوْمَ جُمُعَةٍ، أَوْ يَوْمَ عِيدٍ، هَلْ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ؟ فَقَالَ: لَا، لَيْسَ عَلَيْهِ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، قَدْ أَجْزَأَهُ الْغُسْلُ، وَالْمَرْأَةُ مِثْلُ ذَلِكَ إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ حَيْضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ عَلَيْهَا الْوُضُوءُ لَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، قَدْ أَجْزَأَهَا الْغُسْلُ»[٦]، ورواية سليمان بن خالد عن أبي جعفر ورواية عبد اللّه بن سليمان عن أبي عبد اللّه عليهما السلام أنّهما قالا: «الْوُضُوءُ بَعْدَ الْغُسْلِ بِدْعَةٌ»[٧]، وهذا قول كثير من الصحابة والتابعين[٨]، ويُقبل لتوافقه مع كتاب اللّه؛ لأنّ كتاب اللّه اعتبر الغسل رافعًا للحدث الأكبر، وعليه فإنّ الغسل يرفع الحدث الأصغر من باب أولى، وهذا على سبيل قياس الأولويّة، وهو حكم عقليّ؛ بالنظر إلى أنّ الغرض من الوضوء هو «التطهّر قربة إلى اللّه»؛ كما قال سبحانه: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾[٩]، وهذا الغرض يتحصّل من خلال الغسل بشكل أحسن؛ كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾[١٠] يعني اغتسلوا، بل قد يكون ذلك من باب ظهور اللفظ في المفهوم الموافق؛ لأنّ اعتبار غسل الجنابة مجزئًا عن الوضوء يفيد معنى أنّ الغسل يجزئ عن الوضوء؛ بمعنى أنّه يرفع الحدثين كليهما؛ لا سيّما بالنظر إلى أن غسل الجنابة لا يختلف عن سائر الأغسال؛ لأنّ كيفيّة كلّها واحدة، وفي كلّها قصد القربة.
نعم، الأغسال التي ليس لها سبب شرعيّ لا تخلو من اختلاف؛ إذ لم يرد أمر وجوبيّ أو استحبابيّ بها، وبالتالي لا يعتبر إتيانها عبادة للّه ولا تأسّيًا بالنبيّ أو خلفائه الراشدين المهديّين؛ بغضّ النظر عن أنّه ليس من البعيد أن تكون لفظة «الغسل» في الشرع منصرفة إلى الأغسال الشرعيّة المعهودة والمعروفة. لذلك، يجب الوضوء قبل الأغسال التي لم يرد لها سبب في الشرع ولو على سبيل الإحتياط؛ بخلاف الأغسال التي اعتبرها الشرع واجبة أو مندوبة، وهي كما يلي:
١ . غسل الجنابة
٢ . غسل الحيض
٣ . غسل النفاس
٤ . غسل الإستحاضة
٥ . غسل مسّ الميّت
٦ . غسل يوم الجمعة
٧ . غسل يوم الفطر
٨ . غسل يوم الأضحى
٩ . غسل الإحرام لحجّ أو عمرة
١٠ . غسل التوبة من الكفر
١١ . غسل ليلة تسعة عشرة وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين من شهر رمضان
١٢ . غسل يوم عرفة
١٣ . غسل دخول مكّة والمدينة
١٤ . غسل دخول المسجد الحرام ومسجد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم
١٥ . غسل الكسوف والخسوف لأداء صلاة الآيات أو قضائها
١٦ . غسل الإستسقاء
١٧ . غسل الإفاقة من الإغماء
هذه أغسال وردت فيها روايات معتبرة ومشهورة في مصادر الفريقين من المسلمين، ولذلك يمكن اعتبارها واجبة أو مندوبة والإستغناء بها عن الوضوء، وإن كانت هناك أغسال أخرى لا بأس بإتيانها رجاء المطلوبيّة؛ كغسل أوّل ليلة من شهر رمضان وليلة سبعة عشرة منه، وغسل اليوم الثامن من ذي الحجّة، وغسل الإستخارة، وغسل المباهلة، وغسل صلاة الحاجة، لكنّ الوضوء قبلها أحسن؛ كما أنّ الإحتياط الواجب هو الوضوء قبل الأغسال التي لم يرد فيها رواية، ولا يتمّ إتيانها بنيّة الإمتثال أو التأسّي.