الحديث ٢
هل يجوز تأخير البيعة؟
رَوَى الْبُخَارِيُّ [ت٢٥٦هـ] فِي «صَحِيحِهِ»[١]، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ:
بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَ عَلَيْنَا: ﴿أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا﴾[٢]، وَنَهَانَا عَنِ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ يَدَهَا، فَقَالَتْ: أَسْعَدَتْنِي فُلَانَةُ، أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا، فَمَا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَانْطَلَقَتْ وَرَجَعَتْ، فَبَايَعَهَا.
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَلْفَاظُهُ مُضْطَرِبَةٌ؛ فَقَدْ وَرَدَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ لِلْمَرْأَةِ شَيْئًا، كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، وَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَذِنَ لَهَا:
الشاهد ١
كَمَا رَوَى النَّسَائِيُّ [ت٣٠٣هـ] فِي «سُنَنِهِ»[٣]، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: لَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أُبَايِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَةً أَسْعَدَتْنِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَذْهَبُ فَأُسْعِدُهَا، ثُمَّ أَجِيئُكَ فَأُبَايِعُكَ، قَالَ: «اذْهَبِي فَأَسْعِدِيهَا»، قَالَتْ: فَذَهَبْتُ فَسَاعَدْتُهَا، ثُمَّ جِئْتُ فَبَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
الشاهد ٢
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ [ت٢٣٠هـ] فِي «الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى»[٤]، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ فَرُّوخَ، أَخْبَرَنَا مُصْعَبُ بْنُ نُوحٍ، قَالَ: أَدْرَكْتُ عَجُوزًا لَنَا مِمَّنْ بَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَتْهُ تُبَايِعُهُ، قَالَتْ: فَأَخَذَ عَلَيْنَا فِيمَا أَخَذَ أَنْ لَا نَنُوحَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ نَاسًا أَسْعَدُونِي عَلَى مُصَابَةٍ أَصَابَتْنِي، وَإِنَّهُمْ أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُسْعِدَهُمْ، قَالَ: «انْطَلِقِي فَأَسْعِدِيهِمْ»، فَانْطَلَقْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَبَايَعْتُهُ.
الشاهد ٣
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ [ت٣٦٠هـ] فِي «الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ»[٥]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، حَدَّثَنَا الْمُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ ثَابِتٍ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا بَايَعَ النِّسَاءُ أَنْ لَا يَتَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَاكَ تَشْتَرِطُ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَتَبَرَّجَ، وَإِنَّ فُلَانَةَ قَدْ أَسْعَدَتْنِي، وَقَدْ مَاتَ أَخُوهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبِي فَأَسْعِدِيهَا، ثُمَّ تَعَالَيْ فَبَايِعِينِي».
الشاهد ٤
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ [ت٢٤١هـ] فِي «مُسْنَدِهِ»[٦]، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: بَايَعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَأَخَذَ عَلَيْنَا فِيمَا أَخَذَ أَنْ لَا نَنُوحَ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: إِنَّ آلَ فُلَانٍ أَسْعَدُونِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِيهِمْ مَأْتَمٌ، فَلَا أُبَايِعُكَ حَتَّى أُسْعِدَهُمْ كَمَا أَسْعَدُونِي، فَكَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَافَقَهَا عَلَى ذَلِكَ، فَذَهَبَتْ فَأَسْعَدَتْهُمْ، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَبَايَعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
الشاهد ٥
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ [ت٢٧٩هـ] فِي «سُنَنِهِ»[٧]، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ شَهْرَ بْنَ حَوْشَبٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنَا أُمُّ سَلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّةُ، قَالَتْ: قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسْوَةِ: مَا هَذَا الْمَعْرُوفُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعْصِيَكَ فِيهِ؟ قَالَ: «لَا تَنُحْنَ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَنِي فُلَانٍ قَدْ أَسْعَدُونِي عَلَى عَمِّي، وَلَا بُدَّ لِي مِنْ قَضَائِهِمْ، فَأَبَى عَلَيَّ، فَعَاتَبْتُهُ مِرَارًا، فَأَذِنَ لِي فِي قَضَائِهِنَّ، فَلَمْ أَنُحْ بَعْدَ قَضَائِهِنَّ وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى السَّاعَةَ.
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِلْمَرْأَةِ، فَأَخَّرَتْ بَيْعَتَهُ، وَقَدْ رُوِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهَا:
الشاهد ٦
كَمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ [ت٢٢٧هـ] فِي «سُنَنِهِ»[٨]، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ تُبَايِعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا شَرَطَ عَلَيْهَا: ﴿أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ﴾ أَقَرَّتْ، فَلَمَّا قَالَ: ﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾ قَالَ:«أَلَّا تَنُوحِي»، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانَةَ أَسْعَدَتْنِي، فَأُسْعِدُهَا، ثُمَّ لَا أَعُودُ؟ فَأَمْسَكَ يَدَهُ، ثُمَّ عَادَ، فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، فَرَدَّ عَلَيْهَا مِثْلَ قَوْلِهِ، ثُمَّ مَسَحَتْ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهَا فِيهِ.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ [ت٢٣٠هـ][٩]: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تُبَايِعُهُ، فَقَرَأَ عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةَ، فَلَمَّا قَالَ: ﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾ قَالَ: «لَا تَنُوحِي»، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَةً أَسْعَدَتْنِي، أَفَأُسْعِدُهَا؟ فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى قَالَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُرَخِّصْ لَهَا، ثُمَّ أَقَرَّتْ، فَبَايَعَهَا.
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِلْمَرْأَةِ بِالنِّيَاحَةِ بَعْدَ الْبَيْعَةِ، فَلَمْ تَتَأَخَّرِ الْبَيْعَةُ:
الشاهد ٧
كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ [ت٢٦١هـ] فِي «صَحِيحِهِ»[١٠]، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ... وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾، قَالَتْ: كَانَ مِنْهُ النِّيَاحَةُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا آلَ فُلَانٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَسْعَدُونِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَا بُدَّ لِي مِنْ أَنْ أُسْعِدَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا آلَ فُلَانٍ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا هُوَ الْأَوَّلُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الثَّالِثُ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ بَعْدَ النَّهْيِ إِبْقَاءٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لِيَأْذَنَ بِمَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَإِنَّمَا أَمْسَكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تَقْبَلْ شَرْطَهُ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيْعَةِ فِي اسْتِطَاعَتِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾[١١]، وَقَالَ: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾[١٢]، وَقَالَ: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾[١٣]، وَلَا يَدْرِي الْمَرْءُ مَتَى يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ، وَلَوْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً.