ما حكم جنايات الصبيّ على أموال النّاس وغيرها؟ في صغري رحت مع أمّي السوق، فسرقت شيئًا، والآن لا أدري كيف أبرئ ذمّتي؛ لأنّي نسيت المحلّ. هل يوجد حلّ آخر؟ شكرًا.
على الوالدين تعويض ما أتلفه الصبيّ عند الإطّلاع؛ لأنّه غير مكلّف، وهما مكلّفان بتعليمه ووقايته، بل هو بمنزلة جزء منهما حتّى يبلغ؛ كما بيّن ذلك السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى، فقال: «عَلَى الْوَالِدَيْنِ أَنْ يَأْخُذَا وَلَدَهُمَا إِلَيْهِمَا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْحُلُمَ، فَإِنَّ الْوَلَدَ إِذَا جَنَى أَوْ أَذْنَبَ قَبْلَ بُلُوغِهِ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى وَالِدَيْهِ، فَلْيَأْخُذَاهُ إِلَيْهِمَا، وَلْيُنْبِتَاهُ نَبَاتًا حَسَنًا»، فقيل له: أتزر وازرة وزر أخرى؟! فقال: «لَا، وَلَكِنَّهُ مِنْ وِزْرِ الْوَالِدَيْنِ إِذْ لَمْ يَقُومَا بِمَا عَلَيْهِمَا»، وقال لبعض أصحابه: «الْوَالِدُ يَغْرَمُ مَا أَتْلَفَهُ الْوَلَدُ حَتَّى يَعْقِلَ، أَتَدْرِي لِمَ ذَلِكَ؟» قال: لا، قال: «لِأَنَّهُ بِضْعَةٌ مِنْهُ». فإذا أتلف الصبيّ شيئًا من أموال النّاس أو دمائهم، فكأنّما أتلفه الوالد خطأً في قول السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى، ومقتضى ذلك أن يضمنه الوالد إذا كان مالًا، ويضمنه العاقلة إذا كان دمًا؛ لأنّ العاقلة يحملون عن الجاني دية الخطأ عند جمهور الفقهاء، وهم عصبة الجاني، وقيل: ورثته الذكور، وقيل غير ذلك، وروي عن عليّ عليه السلام أنّه قال: «لَا تُؤَدِّي الْعَاقِلَةُ مِنَ الْجِرَاحِ إِلَّا مَا فِيهِ الثُّلُثُ مِنَ الدِّيَةِ فَصَاعِدًا، وَمَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَفِي مَالِ الْجَانِي خَاصَّةً دُونَ أَوْلِيَائِهِ»[١]، وبهذا قال أحمد بن حنبل في رواية أبي طالب؛ فقد قال فيها: «مَا أَصَابَ الصَّبِيُّ مِنْ شَيْءٍ فَعَلَى الْأَبِ إِلَى قَدْرِ ثُلُثِ الدِّيَةِ، فَإِذَا جَاوَزَ ثُلُثَ الدِّيَةِ فَعَلَى الْعَاقِلَةِ»[٢]، والرواية الأخرى عن عليّ عليه السلام: «لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ إِلَّا الْمُوَضِّحَةَ وَمَا فَوْقَهَا، وَمَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي مَالِ الْجَارِحِ»[٣]، وفي الموضّحة نصف عشر الدية، والرواية الأولى أقرب إلى القاعدة؛ لأنّ الأصل براءة ذمّة العاقلة من التكليف الزائد. هذا هو الحكم عند السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى، كما كان عند أحمد بن حنبل، وأمّا سائر الفقهاء فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال:
الأوّل أنّ ما أتلفه الصبيّ فهو هدر، مالًا كان أو دمًا، وبهذا قال محمّد بن الموّاز، حيث قال: «إِذَا كَانَ صَغِيرًا فَجَنَى، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ عَقْلٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَكَانَ كَالْبَهِيمَةِ وَالْحَجَرِ»[٤]، وإلى هذا يرجع قول ابن ماجشون، إذ قال في الصبيّ يرجع عن شهادته: «لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي رَجْعَتِهِ إِنْ رَجَعَ عَنْهَا بَعْدَ بُلُوغِهِ فَقَالَ: كُنْتُ شَهِدْتُ بِزُورٍ»[٥]، وكذلك قول سحنون، إذ قال: «لَوْ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ وَقَدْ حُكِمَ بِهَا لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي حَالٍ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا أَدَبَ»[٦].
الثاني أنّ ما أتلفه الصبيّ إذا كان مالًا فهو هدر، وإذا كان دمًا فهو على عاقلته في الجملة، وبهذا قال ابن القاسم، حيث قال: «كُلُّ مَا أَصَابَ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مِنْ فَسَادِ أَمْوَالِ النَّاسِ فَهُوَ هَدْرٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَلَا يُتْبَعُ بِهِ فِي ذِمَّتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، وَمَا أَصَابَهُ مِنْ قَتْلٍ أَوْ جَرْحٍ يَبْلُغُ الثُّلُثَ فَصَاعِدًا فَهُوَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَدْنَى مِنَ الثُّلُثِ فَهُوَ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلَّا أُتْبِعَ بِهِ دَيْنًا»[٧].
الثالث أنّ ما أتلفه الصبيّ إذا كان مالًا فهو في ماله أو ذمّته، وإذا كان دمًا فهو على عاقلته في الجملة، وبهذا قال أكثر الفقهاء، واختاره مالك على تردّد؛ فإنّه قال في الصبيّ يسرق الشيء فيستهلكه: «أَشْبَهَ ذَلِكَ أَنْ يُتَبَعَ بِهِ، وَمَا هُوَ بِالْبَيِّنِ، وَمِنَ الْأُمُورِ مَا لَا يَتَبَيَّنُ أَبَدًا»[٨]، فرأى أنّ في إغرامه إشكالًا.
وعلى قول السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى، إن ترك الوالد تعويض ما أتلفه الصبيّ، فهل على الصبيّ التعويض بعد بلوغه؟ الظاهر لا؛ لأنّ السّبب، وهو الإتلاف، قد حصل قبل البلوغ، فلا يتأخّر عنه المسبّب، وهو وجوب التعويض، وقد تعلّق وجوب التعويض بذمّة الوالد، والأصل بقاؤه عليها، ولا يُسأل الولد عمّا ترك والده من الواجبات؛ لقول اللّه تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۚ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾[٩]. نعم، يستحبّ للولد أن يؤدّي عن والده من باب الإحسان، بل لا يبعد وجوبه عليه من هذا الباب إذا كان الوالد فقيرًا أو قد مات؛ لأنّ اللّه قد وصّى الإنسان بوالديه إحسانًا، وروي «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: اقْضِ عَنْهَا»[١٠]، وروي «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَبِي كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَحُجَّ حَتَّى مَاتَ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ، أَمَا كَانَ يُجْزِئُ عَنْهُ؟»[١١]، وروي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال في الوالدين: «مَنْ بَرَّ قَسَمَهُمَا، وَقَضَى دَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَسْتَسِبَّ لَهُمَا كُتِبَ بَارًّا، وَإِنْ كَانَ عَاقًّا فِي حَيَاتِهِمَا، وَمَنْ لَمْ يَبَرَّ قَسَمَهُمَا، وَلَمْ يَقْضِ دَيْنَهُمَا، وَاسْتَسَبَّ لَهُمَا كُتِبَ عَاقًّا، وَإِنْ كَانَ بَارًّا فِي حَيَاتِهِمَا»[١٢].
أمّا إذا لم يعرف صاحب الدّين أو لم يجده ولا وارثه بالفحص عنه حتّى يئس، فلا بدّ له من أن يتصدّق عنه، فإن عرفه أو وجده بعد ذلك أخبره بالتصدّق، فإن لم يرض به أدّى إليه حقّه، في قول أكثر أهل العلم؛ كما روي عن ابن مسعود وابن عبّاس «أَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ أَنْ يُتَصَدَّقَ بِالْمَالِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهُ»[١٣]، وكان ابن مسعود إذا يتصدّق به عنه يقول: «اللَّهُمَّ عَنْ صَاحِبِهِ، فَإِنْ أَبَى فَعَنِّي، وَعَلَيَّ الثَّمَنُ»[١٤]، وروي عن ابن عمر «فِي رَجُلٍ هَلَكَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَعْرِفُ صَاحِبَ الدَّيْنِ، فَأَمَرَ أَنْ يُتَصَدَّقَ عَنْهُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ»[١٥]، وروي عن إبراهيم النخعيّ، قال: «إِنْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ لِرَجُلٍ فَلَمْ تَدْرِ أَيْنَ هُوَ، وَأَيْنَ وَارِثُهُ، فَتَصَدَّقْ بِهِ عَنْهُ، فَإِنْ جَاءَ فَخَيِّرْهُ»[١٦]، وروي عن الحسن البصريّ، قال: «إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ وَارِثُهُ، فَلْيَجْعَلْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»[١٧]، وقال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل: «سَمِعْتُ أَبِي سُئِلَ عَمَّنْ كَانَ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَمْوَالِ الْحَرَامِ، قَالَ: فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْفِذَهُ إِلَى مَنْ هُوَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهُ فَإِنَّ سَبِيلَهُ الصَّدَقَةُ عَنْ صَاحِبِهِ، فَإِنْ جَاءَ يَوْمًا ضَمِنَ ذَلِكَ»[١٨]، وهذه إحدى الروايتين عن أهل البيت؛ كما روي عن جعفر بن محمّد الصادق أنّه قال لرجل من كتّاب بني أميّة أراد التوبة والإصلاح: «اخْرُجْ مِنْ جَمِيعِ مَا اكْتَسَبْتَ فِي دِيوَانِهِمْ، فَمَنْ عَرَفْتَ مِنْهُمْ رَدَدْتَ عَلَيْهِ مَالَهُ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ تَصَدَّقْتَ بِهِ، وَأَنَا أَضْمَنُ لَكَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْجَنَّةَ»[١٩]، والرواية الأخرى عنهم ترك المال على حاله حتّى يوجد صاحبه؛ كما روى معاوية بن وهب، عن جعفر بن محمّد الصادق، «فِي رَجُلٍ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ، فَفَقَدَهُ، وَلَا يَدْرِي أَيْنَ يَطْلُبُهُ، وَلَا يَدْرِي أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ، وَلَا يَعْرِفُ لَهُ وَارِثًا، وَلَا نَسَبًا، وَلَا بَلَدًا، قَالَ: اطْلُبْهُ، قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ قَدْ طَالَ، فَأَتَصَدَّقُ بِهِ؟ قَالَ: اطْلُبْهُ»[٢٠]، وروى روح صاحب الخوان، قال: «كَتَبْتُ إِلَى مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنِّي أَتَقَبَّلُ الْفَنَادِقَ، فَيَنْزِلُ عِنْدِيَ الرَّجُلُ، فَيَمُوتُ فَجْأَةً، لَا أَعْرِفُهُ، وَلَا أَعْرِفُ بِلَادَهُ، وَلَا وَرَثَتَهُ، فَيَبْقَى الْمَالُ عِنْدِي، كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِ؟ وَلِمَنْ ذَلِكَ الْمَالُ؟ فَكَتَبَ: اتْرُكْهُ عَلَى حَالِهِ»[٢١]، وبهذا قال الشافعيّ؛ فقد روي أنّه قال: «لَا أَرَى لِلصَّدَقَةِ بِهِ وَجْهًا، إِنَّهُ إِنْ كَانَ مَالَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ الصَّدَقَةُ بِمَالِ غَيْرِهِ»[٢٢]، والرواية الأولى أقرب إلى القاعدة؛ لأنّ القاعدة عدم جواز كنز المال وإضاعته؛ نظرًا لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[٢٣]، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾[٢٤]، وقول النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ إِضَاعَةَ الْمَالِ»[٢٥]، ولذلك قام ابن عبد البرّ بتأويل كلام الشافعيّ، فقال: «هَذَا عِنْدِي مَعْنَاهُ فِيمَا يُمْكِنُ وُجُودُ صَاحِبِهِ وَالْوُصُولُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يُمْكِنُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَكْرَهُ الصَّدَقَةَ بِهِ حِينَئِذٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»[٢٦]، ويمكن أن يقال مثله في الرواية الثانية عن أهل البيت جمعًا بينها وبين الرواية الأولى، وقد روي عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين «أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، لَا يَقْدِرُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَا عَلَى وَلِيٍّ لَهُ، وَلَا يَدْرِي بِأَيِّ أَرْضٍ هُوَ، فَقَالَ: لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّ نِيَّتَهُ الْأَدَاءُ»[٢٧]، فكأنّه أراد جواز الأمرين لمن يريد الأداء؛ لأنّ إرادته موجودة فيهما، ولكن إن كان كذلك أيضًا فلا شكّ في أنّ الصدقة أحسن من ترك المال على حاله، ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[٢٨].