ما حدّ التواتر عند السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى؟ وما رأيه في التواتر المعنويّ؟
المراد بتواتر الخبر روايته بواسطة عدد من الرواة لا يُحتمل اجتماعهم على كذب أو غلط، بالنظر إلى كثرتهم وصفاتهم، ولذلك يفيد العلم بصحّة الخبر، وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل العلم، وإنّما الخلاف بينهم في أمرين:
الأوّل؛ هل العلم الذي يفيده التواتر هو نظريّ أم ضروريّ؟
فقال أبو القاسم الكعبيّ (ت٣١٩هـ)، وأبو عبد اللّه المفيد (ت٤١٣هـ)، وأبو الحسين البصريّ (ت٤٣٦هـ) أنّه نظريّ، ومال إليه أبو المعالي الجوينيّ (ت٤٧٨هـ)، وأبو حامد الغزاليّ (ت٥٠٥هـ)، وهو الحقّ، وقال الجمهور أنّه ضروريّ، مع اعترافهم بأنّه حاصل من النظر إلى كثرة رواته وصفاتهم، ومع خوضهم في بيان شروطه نفيًا وإثباتًا، وهذا تناقض فاحش منهم؛ لأنّه لا معنى للعلم النظريّ إلّا العلم الحاصل من النظر إلى مثل هذه الحالات والشروط، وتوقّف في ذلك الشريف المرتضى (ت٤٣٦هـ)، وأبو جعفر الطوسيّ (ت٤٦٠هـ)، وسيف الدّين الآمديّ (ت٦٣١هـ)، فقالوا: لا ندري أهو نظريّ أم ضروريّ، وشبهة القوم أنّ العلم بصحّة الخبر المتواتر يحصل لمن ليس من أهل النظر كالنساء والصبيان، وهذه شبهة ضعيفة جدًّا؛ لأنّ من ليس من أهل النظر ليس من أهل العلم، وإنّما يعتقد بصحّة الخبر المتواتر تقليدًا، وقد نبّه السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى على أنّ الخبر المتواتر «مَا يَسْتَيْقِنُ بِهِ عُقَلَاءُ النَّاسِ»[١]، دون سفهائهم، ومن ليس من أهل النظر فهو من سفهائهم، ولا عبرة بيقينه أصلًا.
الثاني؛ ما حدّ التواتر؟
فقال الجمهور: ليس له حدّ معلوم، وقالت طائفة: هو أن يرويه سبعون رجلًا عدد من اختار موسى عليه السلام من قومه، وقالت طائفة: هو أن يرويه خمسون رجلًا عدد القسامة، وقالت طائفة: هو أن يرويه عشرون رجلًا عدد الصابرين في القتال، وقالت طائفة: هو أن يرويه اثنا عشر رجلًا عدد نقباء بني إسرائيل، وقالت طائفة: هو أن يرويه عشرة رجال عدد جمع الكثرة، وقالت طائفة: هو أن يرويه خمسة رجال، وقالت طائفة: هو أن يرويه أربعة رجال، وقال ابن بابويه (ت٣٨١هـ): «إِنَّ الَّذِي نُسَمِّيهِ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ هُوَ الَّذِي يَرْوِيهِ ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ فَمَا فَوْقَهُمْ»[٢]، وليس لأحد من هذه الأقوال حجّة إلّا القول بأنّه ما يرويه أربعة رجال، وذلك لأنّ اللّه تعالى قال في كتابه: ﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾[٣]، فجعل خبر الأقلّ من الأربعة فيما يتعلّق بأمر خطير بمنزلة الكذب، ولا شكّ أنّ العقائد والأحكام الشرعيّة أكبر خطورة، فلا يؤخذ فيها بخبر الأقلّ من الأربعة من باب أولى، وإنّما يؤخذ فيها بخبر الأربعة إذا كانوا عدولًا؛ لأنّ اللّه تعالى قد سمّاهم ﴿بِالشُّهَدَاءِ﴾، واعتبر في الشهداء أن يكونوا عدولًا، ولا يخفى أنّ خبر أربعة من العدول يفيد العلم غالبًا؛ لأنّه من البعيد جدًّا اجتماعهم على كذب أو غلط مع كثرتهم وعدالتهم، بل لا يُحتمل ذلك إذا لم يكن لهم جامع مريب، وهذا ما ذهب إليه السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
قُلْتُ: وَمَا حَدُّ التَّوَاتُرِ؟ قَالَ: مَا يَسْتَيْقِنُ بِهِ عُقَلَاءُ النَّاسِ، قُلْتُ: وَكَمْ ذَا؟ قَالَ: أَرْبَعَةُ رِجَالٍ ذَوِي عَدْلٍ إِذَا لَمْ يَخْتَلِفُوا، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾، قُلْتُ: رُبَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَلْفَاظِهِمْ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يَكُونَ بَعْضُهُمْ قُرَنَاءَ بَعْضٍ فَيُتَّهَمُوا فِي رِوَايَتِهِمْ.[٤]
نعم، إذا زاد عدد الرواة عن الأربعة سقط شرط عدالتهم، ما لم يكن من المحتمل تواطؤهم، لاختلاف مواطنهم ومذاهبهم؛ لأنّ كثرتهم واختلاف مواطنهم ومذاهبهم يفيد العلم بأنّهم لم يكذبوا ولم يغلطوا وإن كانوا غير عدول، وإنّما نكفّ عن هذا القول في الأربعة لما يُدّعى من الإجماع على أنّ الأربعة لا يؤخذ بشهادتهم إلّا إذا كانوا عدولًا، والظاهر أنّ هذا ما أراده القائلون بأنّ المتواتر ما يرويه خمسة رجال فصاعدًا، وهو محكيّ عن أبي بكر الباقلانيّ (ت٤٠٣هـ).
فالمتحصّل من هذا أنّ الخبر لا يكون متواترًا حتّى يكون له أربعة شروط:
الأوّل أن يكون قد رواه أربعة رجال فصاعدًا.
الثاني أن يكون رواته عدولًا إذا كانوا أربعة رجال، فإذا كانوا أكثر من ذلك فلا تشترط عدالتهم.
الثالث أن يكون رواته متّفقين في المعنى، وإن اختلفت ألفاظهم، وهذا ما يقال له «التواتر المعنويّ».
الرابع أن يكون رواته ممّن لا يجمعهم جامع مريب، وهو ما يمكّنهم من التواطئ ويدعوهم إليه.
وقد جاء في دروس السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى شرط خامس، وهو أن يكون الخبر غير معارَض بمثله، فإذا كان معارَضًا بمثله فهما من أخبار الآحاد، وإن رواهما خمسة رجال أو أكثر، ولا يضرّه أن يكون معارَضًا بما رواه أقلّ من أربعة رجال ذوي عدل؛ لأنّه متواتر، والمعارض له خبر واحد، وقد جاء في دروس السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى أيضًا أنّ الخبر لا يؤخذ به إذا كان مخالفًا لكتاب اللّه أو سنّة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أو العقل، وإن رواه جمع غفير، ولكنّه ليس من شروط التواتر على الأظهر؛ لأنّ الخبر المتواتر إذا كان مخالفًا لبعض ذلك تمّ تأويله ولم يُحكم ببطلانه؛ كخبر نزول اللّه إلى السماء الدّنيا، وخبر رؤيته يوم القيامة، ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾[٥].