اختلف المسلمون في تعيين ليلة القدر، فأيّ ليلة هي عند السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى؟
لا خلاف بين المسلمين في أنّ ليلة القدر هي في شهر رمضان، وذلك لقول اللّه تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾[١]، يعني القرآن، وقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾[٢]، وما روي عن عبادة بن الصامت، قال: «أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: هِيَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ»[٣]، وعن أبي ذرّ، قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، أَفِي رَمَضَانَ هِيَ، أَوْ فِي غَيْرِهِ؟ قَالَ: بَلْ هِيَ فِي رَمَضَانَ»[٤]، وعن أبي هريرة، قال: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ: قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فِيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ»[٥]. نعم، قد شذّ أبو بكر الجصّاص (ت٣٧٠هـ)، فقال: «إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ غَيْرُ مَخْصُوصَةٍ بِشَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ، وَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي سَائِرِ السَّنَةِ»[٦]، وزعم قاضي خان (ت٥٩٢ق) أنّه المشهور عن أبي حنيفة[٧]، ونسبا ذلك إلى عبد اللّه بن مسعود؛ لأنّه كان يقول: «مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْهَا»، ولكنّ الحقّ أنّه لم يرد ذلك؛ كما روي عن زرّ بن حبيش، قال: «قُلْتُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَإِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْهَا، قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! لَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، وَلَكِنَّهُ عَمَّى عَلَى النَّاسِ لِئَلَّا يَتَّكِلُوا، وَالَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ»[٨]، والصحيح عن أبي حنيفة أيضًا أنّها في رمضان تتقدّم وتتأخّر[٩]، كما يظهر ذلك من كلام الطحاويّ (ت٣٢١هـ) في «شرح معاني الآثار»[١٠]، وعلى هذا فلا خلاف بين أهل العلم في ذلك إن شاء اللّه، وإنّما اختلفوا في أنّها أيّ ليلة من لياليه، وذلك لاختلاف الأحاديث؛ فمنها ما يدلّ على أنّها ليلة سبع عشرة؛ كما روي عن عبد اللّه بن مسعود، قال: «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَإِنَّهَا صَبِيحَةُ بَدْرٍ، يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ»[١١]، وروي عن زيد بن أرقم أنّه سئل عن ليلة القدر، فقال: «هِيَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَا شَكَّ فِيهَا، لَيْلَةُ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ»[١٢]، وروي عن قرة بن خالد، قال: «سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ قَاسِمٍ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يُعَظِّمُ سَابِعَةَ عَشَرَ، وَيَقُولُ: هِيَ وَقْعَةُ بَدْرٍ»[١٣]، ومنها ما يدلّ على أنّها ليلة تسع عشرة؛ كما روي عن عبد اللّه بن مسعود من وجه آخر، قال: «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنَّهَا لَيْلَةُ بَدْرٍ»[١٤]، وفي رواية أخرى، قال: «تَحَرَّوْهَا لِإِحْدَى عَشْرَةَ تَبْقَى صَبِيحَةَ بَدْرٍ، فَإِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ كُلَّ يَوْمٍ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، إِلَّا صَبِيحَةَ بَدْرٍ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْضَاءَ لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ»[١٥]، وروي عن زيد بن أرقم من وجه آخر، قال: «هِيَ لَيْلَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ، لَيْلَةُ الْفُرْقَانِ لَيْلَةَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ»[١٦]، وروي عن زيد بن ثابت «أَنَّهُ كَانَ لَا يُحْيِي لَيْلَةً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا يُحْيِي لَيْلَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَيُصْبِحُ وَجْهَهُ مُصْفَرًّا مِنْ أَثَرِ السَّهَرِ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَّقَ فِي صَبِيحَتِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ»[١٧]، ومنها ما يدلّ على أنّها ليلة إحدى وعشرين؛ كما روي عن أبي سعيد الخدريّ، قال: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ: إِنِّي أُرِيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ كَأَنِّي أُرَانِي أَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، قَالَ: فَأُمْطِرَتِ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ، فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ»[١٨]، ومنها ما يدلّ على أنّها ليلة ثلاث وعشرين؛ كما روي عن عبد اللّه بن أنيس الجهنيّ، قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْتَمِسُوهَا اللَّيْلَةَ، وَتِلْكَ اللَّيْلَةُ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ»[١٩]، وفي رواية أخرى: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَجُلٌ شَاسِعُ الدَّارِ، فَمُرْنِي لَيْلَةً أَنْزِلُ لَهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ»[٢٠]، قال الواقديّ (ت٢٠٧ق): «فَسَمَّى النَّاسُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الَّتِي يَنْزِلُ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ لَيْلَةَ الْجُهَنِيِّ، وَرَغِبُوا فِي إِحْيَاءِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَيَرَوْنَ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ»[٢١]، ومنها ما يدلّ على أنّها ليلة أربع وعشرين؛ كما روي عن بلال، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ»[٢٢]، وروي عن ابن عبّاس، قال: «أُتِيتُ فِي مَنَامِي فِي رَمَضَانَ وَأَنَا نَائِمٌ، فَقِيلَ لِي: اللَّيْلَةُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، فَاسْتَيْقَظْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، فَأَخَذْتُ بِطُنْبِ الْفُسْطَاطِ، فَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ صَبِيحَتَهَا، فَإِذَا لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ»[٢٣]، ومنها ما يدلّ على أنّها ليلة سبع وعشرين؛ كما روي عن معاوية، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ»[٢٤]، وروي عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا، فَلْيَتَحَرَّهَا فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ»[٢٥]، وروي أنّ أبي بن كعب كان يحلف ولا يستثني أنّها ليلة سبع وعشرين، ويقول: «نَعْلَمُ ذَلِكَ بِالْآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ صَبِيحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَا شُعَاعَ لَهَا»[٢٦]، وروي عن زرّ بن حبيش، قال: «كَانَ عُمَرُ، وَحُذَيْفَةُ، وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَا يَشُكُّونَ أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ»[٢٧]، ومنها ما يدلّ على أنّها آخر ليلة من رمضان؛ كما روي عن معاوية من وجه آخر، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ آخِرَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ»[٢٨]، وفي رواية أبي بكرة، وعبادة بن الصامت: «أَوْ آخِرَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ»[٢٩].
هذه هي الروايات، وقد اختلفت اختلافًا كثيرًا، وسبب اختلافها -بغضّ النظر عن وهم الرواة في بعضها- أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم يعيّن للناس ليلة القدر، بل أبهمها عليهم؛ إمّا لأنّه لم يكن يعلمها، أو كان يعلمها، فنسيها، أو كان يعلمها ويذكرها، ولكن رأى أن يبهمها على الناس ليجتهدوا في أكثر من ليلة، وروي عن زينب ابنة أمّ سلمة أنّها قالت: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُهَا»[٣٠]، وروي عن أبي قلابة أنّه قال: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ يَنْتَقِلُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي وَتْرٍ»[٣١]، وفي رواية أخرى: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَجُولُ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ كُلِّهَا»[٣٢]، واستحبّ قوله كثير من أهل العلم، ومعنى ذلك أنّها غير معيّنة، ولهذا لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يعلمها، وأكثر الروايات تدلّ على أنّه كان يعلمها فنسيها؛ كما روي عن أبي سعيد الخدريّ، قال: «جَاوَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الْعَشْرَ الْوَسَطَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ مِنْ عِشْرِينَ رَجَعَ وَرَجَعْنَا مَعَهُ، فَنَامَ، فَأُرِيَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَأُنْسِيهَا، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أُرِيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَأُنْسِيتُهَا، فَابْتَغُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الْوِتْرِ مِنْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ»[٣٣]، وعن كعب بن مالك الأنصاريّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على المنبر: «إِنِّي خَرَجْتُ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَأُنْسِيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي الْوِتْرِ»[٣٤]، وعن الفلتان بن عاصم، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «إِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَأُنْسِيتُهَا، فَاطْلُبُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وِتْرًا»[٣٥]، وعن ابن عبّاس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أقبل إليهم مسرعًا حتّى أفزعهم من سرعته، فلمّا انتهى إليهم قال: «جِئْتُ مُسْرِعًا أُخْبِرُكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَأُنْسِيتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَلَكِنِ الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ»[٣٦]، وعن جابر بن سمرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فِي وِتْرٍ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُهَا فَنُسِّيتُهَا، هِيَ لَيْلَةُ مَطَرٍ وَرِيحٍ»[٣٧]، وعن عبد اللّه بن أنيس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَأُرَانِي صَبِيحَتَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ»[٣٨]، وعن عبد اللّه بن مسعود، قال: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: كُنْتُ عَلِمْتُهَا ثُمَّ اخْتُلِسَتْ مِنِّي، فَأَرَى أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، فَاطْلُبُوهَا فِي تِسْعٍ بَقِينَ، أَوْ سَبْعٍ بَقِينَ، أَوْ ثَلَاثٍ بَقِينَ، وَآيَةُ ذَلِكَ الشَّمْسُ لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ»[٣٩]، وفي سبب نسيانها ثلاث روايات: الأولى رواية أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي فَنَسِيتُهَا، وَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ»[٤٠]، والثانية رواية عبد اللّه بن مسعود، قال: «تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَتَذْكُرُونَ لَيْلَةً كُنَّا بِقَاعِ كَذَا وَكَذَا، لَيْلَةً كَانَ الْقَمَرُ كَفَلْقَةِ الصَّحْفَةِ؟ قَالَ: فَتَذَاكَرْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمْ نُثْبِتْهَا»[٤١]، وهذا يعني أنّ النسيان كان لمرور الزمن، والثالثة رواية عبادة بن الصامت وغيره، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم خرج ليخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: «إِنِّي خَرَجْتُ أُخْبِرُكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَاخْتُلِجَتْ مِنِّي، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَاطْلُبُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ»[٤٢]، وروي عن سعيد بن المسيّب، قال: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَسَكَتَ سَاعَةً، فَقَالَ: لَقَدْ قُلْتُ لَكُمْ مَا قُلْتُ آنِفًا، وَأَنَا أَعْلَمُهَا، وَإِنِّي لَأَعْلَمُهَا، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا»[٤٣]، وهذا يعني أنّ النسيان كان بغير سبب، والصحيح الذي يدلّ عليه العقل أنّه كان يعلمها، وكيف لا يعلم ليلة نزل عليه القرآن وتنزّل عليه الملائكة والروح فيها؟! لكنّه رأى أن يبهمها على الناس ليجتهدوا في أكثر من ليلة، وممّا يؤيّد هذا ما روي عن أبي ذرّ، قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ؟ قَالَ: لَوْ أُذِنَ لِي لَأَخْبَرْتُكُمْ، وَلَكِنِ الْتَمِسُوهَا فِي آخِرِ السَّبْعِ، ثُمَّ لَا تَسْأَلْنِي عَنْهَا بَعْدَ مَقَامِي أَوْ مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ أَخَذَ فِي حَدِيثٍ، فَلَمَّا انْبَسَطَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِلَّا حَدَّثْتَنِي بِهَا، قَالَ: فَغَضِبَ عَلَيَّ غَضْبَةً لَمْ يَغْضَبْ عَلَيَّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا مِثْلَهَا»[٤٤]، وهذا صريح في أنّه كان يعلمها، ولكن لم يؤذن له بالإخبار عنها، وروي أنّ الجهنيّ قال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِلَيْلَةٍ يُبْتَغَى فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ»، فقال: «لَوْلَا أَنْ يَتْرُكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ إِلَّا تِلْكَ اللَّيْلَةَ لَأَخْبَرْتُكَ»[٤٥]، وهذا أيضًا صريح في أنّه كان يعلمها، وإنّما أخفاها على الناس لكي لا يتركوا الصلاة في غيرها، وفي رواية أخرى أنّ الجهنيّ قال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي صَاحِبُ بَادِيَةٍ وَمَاشِيَةٍ، فَأَوْصِنِي بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ أَقُومُ فِيهَا»، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «أَوْ لَيْلَتَيْنِ؟» قال: «بَلْ لَيْلَةٌ»، فدعاه فسارّه، لا يدري أحد ما أمره، فقال الناس: «انْظُرُوا اللَّيْلَةَ الَّتِي يَقُومُ فِيهَا الْجُهَنِيُّ»[٤٦]، وهذا أيضًا يدلّ على أنّه كان يعلمها، وإنّما كان يكتمها من الناس لضرب من المصلحة، وكان يخبر بها من يشاء منهم سرًّا، ولا شكّ أنّ أحقّهم بذلك أهل بيته الذين أراد اللّه أن يذهب عنهم الرجس ويطهّرهم تطهيرًا، وعليه فإنّ أولى الروايات بالأخذ ما وافق قول أهل بيته، وقد روي «أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَتَحَرَّى لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ»[٤٧]، وهذا ثابت عن الأئمّة من ولده، ولذلك فهو حقيق أن يتّبع؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: لَوْ عَيَّنَهَا لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَعَيَّنْتُهَا لَكُمْ، وَلَكِنِ الْتَمِسُوهَا فِي لَيْلَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَلَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، قُلْتُ: أَلَيْسَتْ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ؟ قَالَ: نِعْمَتِ اللَّيْلَةُ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.
هذا هو الصواب، وبه قال عبد اللّه بن مسعود في رواية عنه[٤٨]، وقد روي عنه مرفوعًا[٤٩]، وفي رواية عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي لَيْلَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ»، إلّا أنّه زاد: «وَخَمْسٍ وَعِشْرِينَ»[٥٠]، وقد روي عن جعفر بن محمّد الصّادق أنّه قال: «التَّقْدِيرُ فِي لَيْلَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَالْإِبْرَامُ فِي لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَالْإِمْضَاءُ فِي لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ»[٥١]، أو قال: «فِي لَيْلَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ التَّقْدِيرُ، وَفِي لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ الْقَضَاءُ، وَفِي لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ الْإِبْرَامُ»[٥٢]، وهذا يعني أنّ كلًّا من هذه الليالي ليلة قدر، واللّه أعلم.