ما حكم بيع النقود وشرائها طلبًا للربح؟ الرجل يبيع الدولار بأكثر من قيمته السوقيّة، أو يشتريه إذا انحطّت قيمته، ثمّ يبيعه إذا ارتفعت قيمته، فيكتسب بذلك ربحًا. هل يجوز ذلك؟
لا خلاف بين المسلمين في أنّ بيع الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم مع تفاضل بينهما غير جائز؛ لأنّه ربا؛ كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى»[١]، ولكنّهم اختلفوا في بيع سائر الأثمان، هل هو جائز مع التفاضل أم لا؟ فقال أبو يوسف، والشافعيّ، بأنّه جائز؛ لأنّ الفلوس -وهي النقود المضروبة من غير الذهب والفضّة- ليست من أموال الربا، وكره ذلك يحيى بن سعيد، وربيعة بن عبد الرّحمن، وقالا: «إنَّهَا صَارَتْ سِكَّةً مِثْلَ سِكَّةِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ»[٢]، وزاد ربيعة: «كُلُّ تِبْرٍ خَلَقَهُ اللَّهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَرْضٍ مِنْ الْعُرُوضِ، مَا لَمْ يُضْرَبْ فُلُوسًا، فَإِذَا ضُرِبَ فُلُوسًا فَهُوَ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، يَجْرِي مَجْرَاهُمَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ»[٣]، وقال مالك: «لَا يَصْلُحُ فَلْسٌ بِفَلْسَيْنِ يَدًا بِيَدٍ وَلَا إلَى أَجَلٍ، وَالْفُلُوسُ فِي الْعَدَدِ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الْوَزْنِ»[٤]، وقال أحمد: «لَا يُبَاعُ فَلْسٌ بِفَلْسَيْنِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ الْمَوْزُونُ، وَكُلَّ مَا دَخَلَهُ الرِّبَا فَإِنَّهُ يَجْرِي فِي مَعْمُولِهِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ»[٥]، وقال أبو حنيفة: «إِنْ بَاعَهَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا، لَمْ يَجُزْ بَيْعُ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ»[٦]، وحاصل قوله أيضًا عدم الجواز؛ لأنّ الفلوس تباع بغير أعيانها عادةً؛ كما قال محمّد بن الحسن: «لَا يَجُوزُ ذَلِكَ يَدًا بِيَدٍ وَلَا نَسِيئَةً؛ لِأَنَّ الْفُلُوسَ ثَمَنٌ، إِنْ ضَاعَ مِنْهَا شَيْءٌ قَبْلَ الْقَبْضِ وَجَبَ عَلَى صَاحِبِهِ مَكَانَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِهِ»[٧]، وهذا هو الصواب عند المنصور حفظه اللّه تعالى؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
نَهَى الْمَنْصُورُ عَنْ بَيْعِ الْأَثْمَانِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، لَا يُزَادُ وَاحِدٌ عَلَى الْآخَرِ، وَقَالَ: الصَّيَارِفَةُ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ.
والظاهر أنّه -حفظه اللّه تعالى- أراد بـ«الأثمان» أثمان زمانه، وهي نقود ورقيّة ومعدنيّة من غير الذهب والفضّة؛ فلا يجوز عنده بيع أحدهما بالآخر مع تفاضل بينهما؛ أمّا إذا كانا من عملة واحدة كالريال والريال، فواضح؛ لأنّه أكل مال بالباطل، وقد قال اللّه تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾[٨]، ولا يبعد أن يكون من الربا أيضًا؛ لأنّ هذه النقود لا قيمة لأعيانها، وإنّما تنوب عن الذهب والفضّة، فتتّبع أحكامهما، وأمّا إذا كانا من عملتين مختلفتين، كالريال والدولار، فغير واضح، لاختلافهما عند العرف، ولكنّ التحقيق عدم جوازه أيضًا؛ لأنّ هذه العملات كلّها شيء واحد في الحقيقة، وإن اختلفت أسماؤها وأجناسها؛ إذ ليس المقصود أعيانها، ولكن قيمتها، وهي شيء واحد؛ فتكون معاوضتهما كمعاوضة نقدين من عملة واحدة؛ ثمّ ليست هذه العملات ممّا يباع بالعدد؛ إذ لا تجد أحدًا يقول: «أبيعك ورقين من الدولار بعشر أوراق من الريال» مثلًا؛ لأنّ المعتبر قيمتهما المرقومة، بغضّ النظر عن عددهما؛ فلا وجه لإلحاق هذه العملات بالمعدودات، بل هي مصنوعة من ورق أو حديد، وهما يباعان بالوزن، فالأوجه إلحاقها بالموزونات اعتبارًا لجنسها، مع أنّ الظاهر من بعض الروايات جريان الربا في المعدودات أيضًا؛ كما روى محمّد بن مسلم، قال: «سَأَلْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الثَّوْبَيْنِ الرَّدِيئَيْنِ بِالثَّوْبِ الْمُرْتَفِعِ، وَالْبَعِيرِ بِالْبَعِيرَيْنِ، وَالدَّابَّةِ بِالدَّابَّتَيْنِ، فَقَالَ: كَرِهَ ذَلِكَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَنَحْنُ نَكْرَهُهُ، إِلَّا أَنْ يَخْتَلِفَ الصِّنْفَانِ»[٩]، وفي رواية أخرى أنّه قال: «لَمْ يَكُنْ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَكْرَهُ الْحَلَالَ»[١٠]، ومن الواضح أنّه لا يصحّ قياس الدولار والريال بالدينار والدرهم اللذين يجوز التفاضل بينهما في ظاهر الروايات؛ لأنّ الفرق بينهما ظاهر، مع أنّا لا نسلّم بجواز ذلك أيضًا، لاحتمال أن يكون المراد جواز التفاضل بين الدينار والدرهم في الوزن والعدد، دون القيمة؛ فيجوز بيع دينار واحد وزنه مثقال، بعشرة دراهم وزنها مثاقيل مثلًا، إذا كانت قيمتهما سواء، ولا يجوز معاوضة أحدهما بغير عدله من الآخر؛ لأنّهما من الأثمان، ومن الضرر والضرار معاوضة الأثمان بغير عدلها، «وَلَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»، وهي تدخل في أكل المال بالباطل؛ لأنّ الأثمان لا يُنتفع بأعيانها، ومنفعتها هي الشراء بها، وكلّها في ذلك سواء؛ فلا داعي لمعاوضتها مع تفاضل في القيمة، ولذلك يُنهى عن بيع الدينار بالدرهم نسيئة، ولو لم يكن التعادل بينهما معتبرًا لم يكن للنهي عن ذلك وجه، كما هي الحال في بيع سائر الأشياء، بل يقال لمعاوضة الأثمان «الصرف»، وهو المبادلة، وفي ذلك تنبيه على أنّه لا مرابحة فيها، بخلاف البيع؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ يَقُولُ: إِنَّ الْأَثْمَانَ لَا تُبَاعُ، وَلَكِنْ تُصْرَفُ، وَلَيْسَ الصَّرْفُ كَالْبَيْعِ، قُلْتُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: الصَّرْفُ مِثْلٌ بِمِثْلٍ فِي الْقِيمَةِ، وَالْبَيْعُ يَتَفَاضَلُ، قُلْتُ: فَمَاذَا يَأْكُلُ الصَّيَارِفَةُ؟! قَالَ: النَّارَ!
أراد -حفظه اللّه تعالى- أنّ الصرف الذي لا بأس به هو مبادلة الأثمان بغير تفاضل في القيمة، فإذا كان مع تفاضل فيها فهو ربا أو في حكمه، فيستوجب النار، وقد غلب ذلك على الصرف، ولذلك نُهي عنه بالإطلاق في كثير من الروايات؛ كما روي عن أبي بكرة «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الصَّرْفِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرَيْنِ»[١١]، وروي عن جابر بن عبد اللّه، وأبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة، أنّهم نهوا عن الصرف، ورفعه رجلان منهم إلى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم[١٢]، وقال ابن سيرين: «نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ»[١٣]، يعني الصرف، وقال سعيد بن المسيّب: «إِنَّ عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، نَهَيَا عَنِ الصَّرْفِ»[١٤]، وقال أبو عبد اللّه: «سَأَلْتُ عَدَدًا -وَفِي رِوَايَةٍ[١٥]: ثَلَاثِينَ- مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّرْفِ، فَكُلُّهُمْ يَنْهَى عَنْهُ»[١٦]، وليس لنهيهم عنه على الإطلاق وجه غير أنّ بيع الثمن بالثمن متفاضلًا هو ربا أو في حكمه؛ كما روي عن أبي أمامة أنّه قال: «الصَّرْفُ رِبًا»[١٧]، وعن الحسن أنّه قال: «الصَّرْفُ وَاللَّهِ رِبًا، الصَّرْفُ وَاللَّهِ رِبًا»[١٨]، وعن عليّ أنّه قال: «ذَلِكَ الرِّبَا الْعَجْلَانُ»[١٩]، يعني إذا كان يدًا بيد مع تفاضل في القيمة؛ فليس للصيارفة إلّا الأجر، باعتبار عملهم ونفعه للناس؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ يَقُولُ: الثَّمَنُ بِالثَّمَنِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلِلصَّيْرَفِيِّ الْأُجْرَةُ.
هذه هي القاعدة في معاوضة الأثمان كلّها؛ فإن ثبت إجماع المسلمين على جواز معاوضة الدينار بالدرهم متفاضلًا في القيمة، وجب استثناؤها منها، وإلّا بقيت القاعدة على عمومها، وقد ذكر أبو عبيد ما ينفي إجماعهم، وهو أنّ منهم من يجعل الدينار والدرهم مالًا واحدًا، فيقول: «رَأَيْتُ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ ثَمَنًا لِلْأَشْيَاءِ، وَلَا تَكُونُ الْأَشْيَاءُ ثَمَنًا لَهُمَا، وَرَأَيْتُهُمَا مَعَ هَذَا لَا يَحِلُّ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ نَسْئًا، فَدَلَّنِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا نَوْعٌ وَاحِدٌ»[٢٠]، ثمّ قال أبو عبيد: «هَذِهِ حُجَّةُ الشَّعْبِيِّ -يَعْنِي فِي ضَمِّ أَقَلِّهِمَا إِلَى أَكْثَرِهِمَا فِي الزَّكَاةِ-، وَبِهِ كَانَ يَقُولُ الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَبِهِ كَانَ يَقُولُ سُفْيَانُ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ»[٢١]، وهذا يدلّ على خلاف كبير، وكيفما كان فإنّه لا يجوز بيع نقد من نقود هذا الزمان بأكثر من قيمته، وإنّما يجوز تبديله بمثله في القيمة، وللمبدّل أجره إذا كان له مؤونة؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَأَلَ الْمَنْصُورَ صَيْرَفِيٌّ عَنْ كَسْبِهِ، فَقَالَ: إِنِّي أَسْتَبْدِلُ الْكَلْدَارَ بِالْأَفْغَانِيِّ، فَآخُذُ عَلَى ذَلِكَ الْأَجْرَ، قَالَ: أَلَيْسَ النَّاسُ يَأْتُونَكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَيْسَ لَكَ مَؤُونَةٌ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلَا بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَتَقْبَلُ مِنِّي إِنْ أَوْصَيْتُكَ؟ قَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ إِنْ أَوْصَيْتَنِي بِتَرْكِ مَكْسَبِي لَتَرَكْتُهُ، قَالَ: خُذْ سَوَاءً، وَلَا تُشَارِطْ.
يعني: خذ من الناس مثل ما تعطيهم بالقيمة، ولا تشارطهم في الأجر، بل خذ كلّ ما يعطونك بطيب أنفسهم؛ فإنّ ذلك أزكى لك وأبعد من أن يدخلك النار التي أعدّت للصيارفة؛ فقد روي أنّ عبد اللّه بن أبي أوفى دخل سوق الصيارفة، فقال: «أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الصَّيَارِفة»، فتسارعوا إليه، وقالوا: «بَشَّرَكَ اللَّهُ بِالْجَنَّةِ»، فقال: «أَبْشِرُوا بِالنَّارِ»[٢٢]، وفي رواية أنّه أسنده إلى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم[٢٣]، وذلك لأنّ الغالب على الصيارفة طلب الربح بالصرف، وهو غير جائز حسب القاعدة.
نعم، يجوز للرجل أن يشتري النقد بقيمته إذا انحطّت، ثمّ يبيعه بقيمته إذا ارتفعت، ليكتسب بذلك ربحًا، ولكنّه مكروه؛ لأنّه ليس من الأعمال النافعة للمجتمع، بل يُخشى أن يضرّ به لتأثيره على القيمة، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾[٢٤].