لقد جاء في خطبة العلامة المنصور الهاشمي الخراساني في وصف أهل الجنّة أنّ المؤمن «بَعْدَ لُبْثَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا، يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَالْعَرِيسِ الدَّاخِلِ إِلَى حَجَلَةِ الْعَرُوسِ، وَتَقِرُّ عَيْنُهُ بِآفَاقِهَا. حِينَئِذٍ يَقُولُ بَعْضُ مَنْ مَعَهُ: دَعُوهُ لِيَسْتَعِيدَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ مِنَ الدُّنْيَا». فهل المقصود من هذه الجنّة الجنّة البرزخيّة أم الجنّة الأبديّة؟ وهل هذه اللبثة التي لا بدّ منها هي البرزخ؟
لم تُذكر في كتاب اللّه جنّتان مختلفتان إحداهما برزخيّة والأخرى أبديّة، وإنّما ذكرت فيه جنّة واحدة، وهي الجنّة التي تدخلها نفس المؤمن بعد الموت مستجيبة للدعوة: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾[١]، فتلبث فيها ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾[٢]، حتّى إذا طُويت السماء ﴿كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾[٣]، وبُدّلت ﴿الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ﴾[٤]، رجعت إلى جسدها للحساب التفصيليّ، ثمّ ارتقت معها إلى درجة أعلى من تلك الجنّة التي كانت فيها قبل يوم القيامة، وهي ﴿الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾[٥]، ولذلك كلّما رُزقت منها رزقًا قالت هذا الذي رزقت من قبل، وأتيت به متشابهًا؛ كما أخبر اللّه عن ذلك فقال: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا ۙ قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[٦]، وهذا تفسير من السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
سَأَلْتُ الْعَالِمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا ۙ قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾[٧]، فَقَالَ: رُزِقُوا فِي قُبُورِهِمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِهِ أَنَّهُمْ ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[٨]؟! قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ مَا رُزِقُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا! قَالَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ، وَمَا رُزِقَ أَكْثَرُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَّا الْمَاءَ الْكَدِرَ وَالطَّعَامَ الْجَشِبَ وَاللِّبَاسَ الْخَشِنَ؟! لَا وَاللَّهِ، ذَلِكَ مَا رُزِقُوا فِي الْبَرْزَخِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
من هنا يعلم أنّ جنّة المؤمن تبدأ بموته، إلا أنّها قبل يوم القيامة روحانيّة فقطّ، بمعنى أنّ روحه فقطّ تتنعّم فيها، وبعد يوم القيامة تصبح روحانيّة وجسمانيّة، بمعنى أنّ جسمه أيضًا يتنعّم فيها؛ كما أنّها قبل يوم القيامة تكون أجرًا له على إيمانه، وبعد يوم القيامة تكون أجرًا له على إيمانه وأعماله الصالحة كلّها، وعلى هذا فإنّ الجنّة البرزخيّة ليست مستقلّة ومنفصلة عن الجنّة الأبديّة، بل هي درجة منها تعلو وتتّسع يوم القيامة بالتناسب مع تجسّمه وأعماله الصالحة كاملة؛ كما قال اللّه تعالى مشيرًا إلى ذلك اليوم: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ۖ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾[٩]، وهذا ما يستفاد من قول السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى، الذي أخبرنا به بعض أصحابه، قال:
سَأَلْتُهُ عَنْ سُؤَالِ الْقَبْرِ أَحَقٌّ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَيُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَرَّةً أُخْرَى؟! قَالَ: إِنَّمَا يُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ عَنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، وَيُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، حَتَّى يُسْأَلُ عَنِ اللَّقْمَةِ وَالنَّظْرَةِ وَاللَّفْظَةِ وَالْجَلْسَةِ.
بناء على هذا، فإنّ المقصود من «لُبْثَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا» في خطبة السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى هو لبثة المؤمن في قبره للسؤال عن «تِلْكَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ»، ويحتمل أن يكون المقصود من «تِلْكَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ» أصول العقائد والأعمال، وهي ما يتحقّق به الإيمان من معرفة اللّه ورسوله وخليفته في الأرض وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحجّ البيت وصوم شهر رمضان، ويحتمل أن يكون المقصود منها أصول العقائد فقطّ، وهذا ما تؤيّده الروايات؛ كما في رواية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ، فَسَأَلَهُ: مَا كُنْتَ تَعْبُدُ؟ فَإِنِ اللَّهُ هَدَاهُ قَالَ: كُنْتُ أَعْبُدُ اللَّهَ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَمَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ غَيْرِهَا، فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى بَيْتٍ كَانَ لَهُ فِي النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا بَيْتُكَ كَانَ فِي النَّارِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَصَمَكَ وَرَحِمَكَ، فَأَبْدَلَكَ بِهِ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأُبَشِّرَ أَهْلِي، فَيُقَالُ لَهُ: اسْكُنْ»[١٠]، وقد بلغنا عن السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى ما يبيّن المقصود، ومفاده أنّ المسؤول عنه في القبر هو أصول العقائد فقطّ، ولكن لا يوفّق للجواب الصحيح إلا من كان صالحًا في أصول أعماله أيضًا؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾[١١]، فَقَالَ: يُفْتَنُونَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، قُلْتُ: أَمَّا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَقَدْ عَلِمْتُ، وَكَيْفَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ؟ قَالَ: يُسْأَلُونَ، قُلْتُ: عَنْ مَاذَا؟ قَالَ: عَنْ رَبِّهِمْ وَعَنْ نَبِيِّهِمْ، قُلْتُ: إِذًا يَنْجُو كُلُّ مُسْلِمٍ، وَإِنْ كَانَ ضَالًّا فَاسِقًا! قَالَ: لَيْسَ حَيْثُ تَذْهَبُ، إِنَّهُمْ يُسْأَلُونَ عَمَّنْ عَبَدُوهُ وَعَمَّنْ أَطَاعُوهُ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَتَّخِذُ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَيُطِيعُ الشَّيْطَانَ فَإِنَّهُ يَنْسَى مَا كَانَ يَقُولُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَيَتَعْتَعُ فِي الْجَوَابِ، أَوْ يَقُولُ مَا يُخْزِيهِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ﴾؟![١٢]
ثبّتنا اللّه وإيّاكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ووفّقنا وإيّاكم للجواب الصحيح في القبر، فإنّه غفور رحيم.
لقد قلتم في بعض إجاباتكم «أنّ جنّة المؤمن تبدأ بموته، إلا أنّها قبل يوم القيامة روحانيّة فقطّ، بمعنى أنّ روحه فقطّ تتنعّم فيها، وبعد يوم القيامة تصبح روحانيّة وجسمانيّة، بمعنى أنّ جسمه أيضًا يتنعّم فيها»، ولكنّي سمعت من أستاذي وهو عالم كبير أنّ المؤمن إذا فرغ من إجابة الأسئلة في القبر ينام نومة العروس ولا يستيقظ إلا يوم القيامة، فليست هناك جنّة برزخيّة، ولا يدخل الجنّة ولا النار أحد قبل يوم القيامة. هكذا قال أستاذي استنادًا إلى بعض الروايات.
إنّ الذي ينام في القبر بعد الإجابة عن الأسئلة هو جسم المؤمن، ولكنّ روحه المسمّاة في كتاب اللّه بـ«النّفس المطمئنّة» لا تنام، بل ترجع إلى ربّها راضية مرضيّة، فتلحق بأرواح عباده الصالحين الذين ماتوا من قبل وتدخل الجنّة؛ كما قال اللّه خطابًا لها: ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾[١]. لذلك ليس هناك شكّ في أنّ جنّة المؤمنين موجودة قبل يوم القيامة، وتدخلها أرواحهم بعد الموت، وهذا ما أخبر اللّه عنه بصراحة؛ كما قال في قصّة المؤمن المذكور في سورة يس: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾[٢]، ومن الواضح أنّ ذلك كان بعد موته وقبل يوم القيامة؛ كما أنّ النار أيضًا موجودة قبل يوم القيامة، وتدخلها أرواح الكافرين بعد الموت، وهذا ما أخبر اللّه عنه بصراحة؛ كما قال في قوم نوح عليه السلام: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾[٣]؛ فصرّح بأنّهم أُدخلوا نارًا قبل يوم القيامة، وقال في امرأة نوح عليه السلام وامرأة لوط عليه السلام: ﴿فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾[٤]، ومن الواضح أنّ ذلك كان بعد موتهما وقبل يوم القيامة، والأكثر صراحة قوله تعالى في آل فرعون: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾[٥]؛ فإنّه صريح في أنّ النار موجودة قبل يوم القيامة، وآل فرعون يعرضون عليها غدوًّا وعشيًّا، إلا أنّها ستشتدّ عليهم يوم القيامة، ولا يخفى أنّ الغدوّ والعشيّ هما من أوقات الدنيا، ومثل هذا في الدلالة قول اللّه تعالى في الذين شقوا أنّهم في النار وفي الذين سعدوا أنّهم في الجنّة ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾[٦]؛ لأنّ السماوات والأرض إنّما تدوم إلى يوم القيامة، فإذا جاء يوم القيامة ﴿تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾[٧]، وهذه قرينة واضحة على أنّ المقصود من الجنّة والنار في هذا الموضع هو البرزخ، والقرينة الأخرى قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾؛ لأنّه يدلّ على إمكان خروج بعض من كان في الجنّة والنار إذا جاء يوم القيامة، بأن يوجد في أعمالهم ما ينقلهم من الجنّة إلى النار أو من النار إلى الجنّة إذا حوسبوا حسابًا تفصيليًّا يوم القيامة، وممّا يدلّ أيضًا على وجود الجنّة والنار قبل ذلك اليوم ودخول أهلهما فيهما بعد الموت قول اللّه تعالى في أحوال المحتضر إذا بلغت نفسه الحلقوم: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾[٨]؛ لأنّه ظاهر في ورود المحتضر على هذه الأحوال الثلاثة بعد الموت، والأظهر من ذلك قول اللّه تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾[٩]؛ لأنّه صريح في أنّهم يُجزون عذاب الهون في اليوم الذي يُخرجون فيه أنفسهم، ومثل هذا في الدلالة قول اللّه تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[١٠]؛ لأنّه صريح في أنّهم يُردّون إلى اللّه تعالى ويؤاخذون إذا لاقاهم الموت.
هذا بعض ما يدلّ على ذلك من كتاب اللّه، وأمّا ما يدلّ على ذلك من أحاديث النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأهل بيته الطاهرين فأكثر من أن يُحصى؛ كأحاديث المعراج الدّالّة على أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم رأى أصنافًا من أهل النار معذّبين فيها، وصحيح أبي بصير قال: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: فِي حُجُرَاتٍ فِي الْجَنَّةِ، يَأْكُلُونَ مِنْ طَعَامِهَا وَيَشْرَبُونَ مِنْ شَرَابِهَا وَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَقِمِ السَّاعَةَ لَنَا، وَأَنْجِزْ لَنَا مَا وَعَدْتَنَا، وَأَلْحِقْ آخِرَنَا بِأَوَّلِنَا»، قال: «وَسَأَلْتُهُ عَنْ أَرْوَاحِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَا تُقِمْ لَنَا السَّاعَةَ، وَلَا تُنْجِزْ لَنَا مَا وَعَدْتَنَا، وَلَا تُلْحِقْ آخِرَنَا بِأَوَّلِنَا»[١١]، وروى مثله إبراهيم بن إسحاق الجازريّ[١٢].
من هنا يعلم أنّ أستاذك -إن كان له ما حكيت من القول- ليس عالمًا كبيرًا؛ لأنّه يقول ما يخالف كتاب اللّه والثابت من السنّة استنادًا إلى فهم خاطئ من خبر واحد، وليست هذه صفة عالم كبير. العالم الكبير هو السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى الذي يقول ما يوافق كتاب اللّه والثابت من السنّة، ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾[١٣].
لقد قلتم في تفسير قول اللّه تعالى: «خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ» أنّه يدلّ على إمكان خروج بعض من كان في الجنّة والنار إذا جاء يوم القيامة، بأن يوجد في أعمالهم ما ينقلهم من الجنّة إلى النار أو من النار إلى الجنّة إذا حوسبوا حسابًا تفصيليًّا يوم القيامة. فهل هذا الإنتقال ثابت؟ ما هذه الأعمال التي تنقل الإنسان من الجنّة إلى النار أو من النار إلى الجنّة؟ كيف يمكن أن يخرج أحد من الجنّة ويدخل النار بعد قبول عقائده و رؤوس أعماله؟ وقد قال اللّه تعالى: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا».
الإستثناء في قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾ صريح في إمكان خروج أهل النار من النار وأهل الجنّة من الجنّة بعد قيام الساعة، ولكنّ الإمكان لا يعني الوقوع، ولعلّه يقع بالنسبة لأهل النار، إذا عُذّبوا في البرزخ بما يكفّر عنهم سيّئاتهم ويؤهّلهم لدخول الجنّة بفضل اللّه تعالى، ولا يقع بالنسبة لأهل الجنّة، وقد يدلّ على هذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾[١] بعد قوله في إمكان خروج أهل النار، وقوله تعالى: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾[٢] بعد قوله في إمكان خروج أهل الجنّة؛ لأنّ قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ مشعر بأنّه يفعل ذلك، وقوله: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ مشعر بأنّه لا يفعل ذلك مع إمكانه له، وأمّا ما يمكن أن يخرج أحدًا من النار إلى الجنّة بعد قيام الساعة أو قبله فهو كفاية عذابه في البرزخ نظرًا لمقدار ذنوبه، أو قضاء ما فات عنه من العبادات بواسطة أولاده، أو أداء ديونه، أو صدقة جارية بعد موته، أو علم تركه فوقع في يد ضالّ فهداه، أو دعاء رجل صالح له عند قبره، أو شمول الشفاعة له يوم القيامة؛ كما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «لَيَخْرُجَنَّ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَتِي يُقَالُ لَهُمْ جَهَنَّمِيُّونَ»[٣]، وأمّا ما يمكن أن يخرج أحدًا من الجنّة إلى النار بعد قيام الساعة أو قبله فهو كفاية تنعّمه في البرزخ نظرًا لمقدار حسناته، أو سيّئة صغيرة عمل بها فاتُّخذت سنّة من بعده، أو تهاون في تأديب ولده فأصبح فاجرًا كفّارًا من بعده، أو بيت بناه للناس بغير إحكام فخرّ عليهم بعد موته، أو بئر حفره في طريق الناس فوقع فيه أحد بعد موته، أو لعن رجل صالح عليه، أو مداقّته في الحساب يوم القيامة؛ فقد روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ»[٤]، وروي أنّه قال: «إِنَّ الْعَبْدَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ مَا يَرَى أَنَّهُ يُنْجِيهِ، فَلَا يَزَالُ عَبْدٌ يَقُومُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ فُلَانًا ظَلَمَنِي مَظْلَمَةً، فَيُقَالُ: امْحُوا مِنْ حَسَنَاتِهِ، حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ حَسَنَةٌ»[٥]، وروي أنّه قال لأصحابه: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟» قالوا: «المُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ»، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»[٦].