معدل التضخّم مرتفع في بلدي، وقد يبلغ ٢٠%، والفائدة البنكيّة فيه أقلّ من ذلك، وقد يبلغ ١٨%، وهذا يعني أنّني إذا جعلت مالي عند البنك لم أحصل على أيّ فائدة في الحقيقة، بل خسرت ٢% في كلّ سنة. أفلا يمكن القول بإباحة الفائدة البنكيّة في هذه الحال؟ بشكل عامّ، ما حكم سداد الدّين بسعر اليوم إذا كان معدل التضخّم مرتفعًا؟ أيكون ذلك جائزًا، أم يكون من ربا القرض؟
ليس على المستودَع تعويض خسارة المودِع؛ لأنّه محسن، و﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾[١]، إلّا إذا خان أو فرّط، ومن الواضح أنّ البنك لم يخن ولم يفرّط في هذه الحالة؛ لأنّ التضخّم، بمعنى ارتفاع غير متناسب في المستوى العامّ للأسعار، ونتيجة لذلك انخفاض قيمة العملة، ليس من فعله. نعم، إذا كان مقترضًا، وجب عليه التعويض على الأظهر؛ لأنّه غير محسن، والمحسن هو المقرض، وقد قال اللّه تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾[٢]، والعبرة بقيمة العملة، دون اسمها ورقمها؛ لأنّ قيمتها هي المقصود في المعاملات، لا سيّما إذا كانت من النقود المستحدثة؛ لأنّ اسمها ورقمها اعتبار محض، ولا قيمة لجنسها، ولذلك قد تقوم الدّولة بتغيير اسمها ورقمها من خلال القانون، فتجعل الدولار مكان الريال مثلًا، أو تجعل ألف ريال مائة ريال مثلًا، ولو لا أنّ العبرة بقيمة العملة للزم الظلم والضرر في كثير من الأحيان، وقد قال اللّه تعالى: ﴿لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾[٣]، وجاء عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»[٤]، وممّا يدلّ على أنّ العبرة بقيمة العملة دون اسمها ورقمها ما رواه ابن عمر، قال: «كُنْتُ أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ مَكَانَهَا الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ فَآخُذُ مَكَانَهَا الدَّنَانِيرَ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدْتُهُ خَارِجًا مِنْ بَيْتِ حَفْصَةَ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ بِالْقِيمَةِ»[٥]، وبهذا قال جمهور الصحابة؛ كما روي «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمْ يَرَ بَأْسًا بِاقْتِضَاءِ الذَّهَبِ مِنَ الْوَرِقِ، وَالْوَرِقِ مِنَ الذَّهَبِ»[٦]، وسئل عن الرّجل يسأل الرّجل الدنانير، أيأخذ الدراهم؟ فقال: «إِذَا قَامَتْ عَلَى الثَّمَنِ، فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ بِالْقِيمَةِ»[٧]، وروي «أَنَّ امْرَأَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ بَاعَتْ جَارِيَةً لَهَا بِدَرَاهِمَ، فَأَمَرَهَا عَبْدُ اللَّهِ أَنْ تَأْخُذَ دَنَانِيرَ بِالْقِيمَةِ»[٨]، وبه قال سعيد بن جبير، وإبراهيم، وطاووس، والقاسم، والحسن، وقتادة، والزهريّ، والحكم، والثوريّ، وهو مرويّ عن أهل البيت؛ كما روى الحلبيّ، قال: «سَأَلْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الرَّجُلِ تَكُونُ عَلَيْهِ دَنَانِيرُ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَتَهَا دَرَاهِمَ»[٩]، وفي رواية أخرى، قال: «سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الدَّيْنُ دَرَاهِمُ مَعْلُومَةٌ إِلَى أَجَلٍ، فَجَاءَ الْأَجَلُ وَلَيْسَ عِنْدَ الرَّجُلِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّرَاهِمُ، فَقَالَ: خُذْ مِنِّي دَنَانِيرَ بِصَرْفِ الْيَوْمِ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ»[١٠]، وروى محمّد بن مسلم، قال: «سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَنَانِيرُ، فَأَحَالَ عَلَيْهِ رَجُلًا آخَرَ بِالدَّنَانِيرِ، أَيَأْخُذُهَا دَرَاهِمَ بِسِعْرِ الْيَوْمِ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنْ شَاءَ»[١١]، وروى منصور بن حازم، قال: «سُئِلَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رَجُلٍ أَتْبَعَ عَلَى آخَرَ بِدَنَانِيرَ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا عَلَى آخَرَ بِدَنَانِيرَ، هَلْ يَأْخُذُ مِنْهُ دَرَاهِمَ بِالْقِيمَةِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، إِنَّمَا الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ سَوَاءٌ»[١٢]، وروى عليّ بن جعفر، قال: «سَأَلْتُ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَنْ رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَنَانِيرُ، فَيَأْخُذُ بِسِعْرِهَا وَرِقًا، قَالَ: لَا بَأْسَ»[١٣]، وروى إسحاق بن عمّار، قال: «سَأَلْتُ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ لِي عَلَيْهِ الْمَالُ، فَيَقْضِي بَعْضًا دَنَانِيرَ وَبَعْضًا دَرَاهِمَ، فَإِذَا جَاءَ يُحَاسِبُنِي لِيُوَفِّيَنِي كَمَا يَكُونُ قَدْ تَغَيَّرَ سِعْرُ الدَّنَانِيرِ، أَيَّ السِّعْرَيْنِ أَحْسُبُ لَهُ؟ الَّذِي كَانَ يَوْمَ أَعْطَانِي الدَّنَانِيرَ، أَوْ سِعْرَ يَوْمِيَ الَّذِي أُحَاسِبُهُ؟ قَالَ: سِعْرَ يَوْمَ أَعْطَاكَ الدَّنَانِيرَ، لِأَنَّكَ حَبَسْتَ مَنْفَعَتَهَا عَنْهُ»[١٤]، وروى يونس بن عبد الرّحمن، قال: «كَتَبْتُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ لِي عَلَى رَجُلٍ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَكَانَتْ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ تَنْفُقُ بَيْنَ النَّاسِ تِلْكَ الْأَيَّامَ، وَلَيْسَتْ تَنْفُقُ الْيَوْمَ، فَلِي عَلَيْهِ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ بِأَعْيَانِهَا، أَوْ مَا يَنْفُقُ الْيَوْمَ بَيْنَ النَّاسِ؟ فَكَتَبَ إِلَيَّ: لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ مَا يَنْفُقُ بَيْنَ النَّاسِ، كَمَا أَعْطَيْتَهُ مَا يَنْفُقُ بَيْنَ النَّاسِ»[١٥]. هذه نصوص جليّة في أنّ العبرة بقيمة العملة دون اسمها ورقمها، وقد روي ما ظاهره خلاف ذلك؛ كما روى يونس، قال: «كَتَبْتُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّهُ كَانَ لِي عَلَى رَجُلٍ دَرَاهِمُ، وَإِنَّ السُّلْطَانَ أَسْقَطَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ، وَجَاءَ بِدَرَاهِمَ أَغْلَى مِنْ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ الْأُولَى، وَلَهَا الْيَوْمَ وَضِيعَةٌ، فَأَيُّ شَيْءٍ لِي عَلَيْهِ؟ الْأُولَى الَّتِي أَسْقَطَهَا السُّلْطَانُ، أَوِ الدَّرَاهِمُ الَّتِي أَجَازَهَا السُّلْطَانُ؟ فَكَتَبَ: الدَّرَاهِمُ الْأُولَى»[١٦]، وروى صفوان، قال: «سَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ رَجُلٍ اسْتَقْرَضَ دَرَاهِمَ مِنْ رَجُلٍ، فَسَقَطَتْ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ أَوْ تَغَيَّرَتْ، وَلَا يُبَاعُ بِهَا شَيْءٌ، لِصَاحِبِ الدَّرَاهِمِ الدَّرَاهِمُ الْأُولَى، أَوِ الْجَائِزَةُ الَّتِي تَجُوزُ بَيْنَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: لِصَاحِبِ الدَّرَاهِمِ الدَّرَاهِمُ الْأُولَى»[١٧]، وقد يُجمع بينهما بأنّ المراد بالدراهم الأولى قيمتها من الدراهم التي تجوز بين الناس، أو أنّ المراد استحباب أخذ الدراهم الأولى على سبيل التصدّق؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[١٨]، وقد ناقش في هذا قوم، فقالوا: النقود مثليّة، ولا اعتبار في المثليّات بارتفاع القيمة وانحطاطها، بل يجب ردّ مثلها وإن انحطّت القيمة، وقد أجيب عن ذلك بأنّ النقود قيميّة، لا سيّما إذا كانت اعتباريّة؛ لأنّ المقصود منها قيمتها، وقد لا يُنتفع بجنسها أصلًا، ولو سلّمنا بأنّها مثليّة، فإنّ المثليّات أيضًا إذا فُقد مثلها رُدّت بقيمتها؛ كالفواكه المغصوبة في الصيف إذا طلب المغصوب منه ردّها في الشتاء، ولا شكّ أنّ قيمة النقود من صفاتها الهامّة عند الناس، فإذا انحطّت قيمتها انحطاطًا بيّنًا لا يتسامحون به صارت من المثليّات التي فُقد مثلها، فلا بدّ من ردّها بالقيمة.
من هنا يُعلم أنّ سداد الدّين بسعر اليوم ليس من ربا القرض، لا سيّما إذا لم يكن مشروطًا؛ لأنّ ربا القرض ما يُشترط، ولا بأس بالمنفعة في القرض إذا لم تكن مشروطة، فكيف بزيادة اسميّة أو رقميّة ليست منفعة في الحقيقة؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
قُلْتُ لِلْمَنْصُورِ: اقْتَرَضْتُ مِنْ رَجُلٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَكَانَتْ عِنْدِي حَتَّى سَقَطَتْ قِيمَتُهَا، وَصَارَتْ أَلْفُ دِرْهَمٍ كَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَلْ أُعْطِيهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، أَمْ أُعْطِيهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: أَعْطِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَـ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾[١٩]، قُلْتُ: أَلَيْسَ هَذَا مِنَ الرِّبَا؟ قَالَ: إِنَّمَا الرِّبَا زِيَادَةٌ مَشْرُوطَةٌ، وَلَيْسَ فِي هَذَا زِيَادَةٌ وَلَا شَرْطٌ.
وأخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ رَجُلٍ كَانَ لَهُ عَلَيَّ خَمْسُ مِائَةِ أَلْفِ تُومَانَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقْضِيَهُ بَعْدَ سَنَتَيْنِ، فَقَالَ لِي: اقْضِنِي بِسِعْرِ الْيَوْمِ، وَقَدْ غَلَا، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا كَانَ شَيْئًا مَعْلُومًا وَلَمْ يُشْتَرَطْ، فَإِنَّمَا يَجِيءُ الرِّبَا مِنْ قِبَلِ الشُّرُوطِ.