هناك آية في سورة الأعراف فيها نداء لبني آدم أنّه «إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ۙ فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». هل لفظ «إمّا» يفيد الحدوث في المستقبل، وبالتالي يدلّ على بعثة رسل بعد محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم؟ لأنّ من يقرأها على ظاهرها لا يفهم منها سوى هذا، مع أنّ المشهور عند الطائفة السنّيّة أنّه لا رسول ولا نبيّ بعده أبدًا، وربما يكفّر بعضهم من يقول بغير ذلك. فهل عميت بصائرهم عن هذه الآية؟
لا خلاف بين المسلمين في أنّه لا نبيّ بعد محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وذلك لقول اللّه تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾[١]، وما تواتر عن محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من التصريح بأنّه لا نبيّ بعده أبدًا، وهذا أمر مفروغ عنه عند جميع المسلمين من السنّة والشيعة، يعلمه صبيانهم وأعاريبهم، ولا ينكره إلّا يهوديّ أو نصرانيّ أو بهائيّ، وقد أنكره طائفة من غلاة الشيعة إذ اعتقدوا بأنّ الأئمّة من أهل البيت أنبياء، فلعنهم الأئمّة من أهل البيت وتبرّؤوا منهم؛ كما روي عن أبي العبّاس البقباق، قال: «تَدَارَأَ ابْنُ أَبِي يَعْفُورٍ وَمُعَلَّى بْنُ خُنَيْسٍ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي يَعْفُورٍ: الْأَوْصِيَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ، وَقَالَ ابْنُ خُنَيْسٍ: الْأَوْصِيَاءُ أَنْبِيَاءُ، فَدَخَلَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مَجْلِسُهُمَا بَدَأَهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: أَبْرَأُ مِمَّنْ قَالَ أَنَّا أَنْبِيَاءُ»[٢]، وفي رواية أخرى أنّه قال: «مَنْ قَالَ أَنَّا أَنْبِيَاءُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَمَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ»[٣].
وأمّا قول اللّه تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ۙ فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[٤]، فلا يدلّ على أنّه يأتي رسول من بعد محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؛ لأنّ ﴿إِمَّا﴾ حرف شرط يفيد التعليق، فيكون معناه: في أيّ زمان جاءكم رسول فصدّقوه واتّبعوه، ولا يكون معناه: يجيئكم في كلّ زمان رسول! ألا ترى أنّه قال: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ﴾[٥]؟! فدلّ بذلك على أنّه لم يكن في بعض الأزمان رسول، والخطاب لبني آدم منذ كانوا، وليس للمسلمين خاصّة، فأراد بالرسل نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّدًا ومن كان بينهم من الأنبياء عليهم السلام، ومن الواضح أنّ الآيات تفسّر بعضها بعضًا، ومن اكتفى بآية واحدة ولم ينظر إلى سائر الآيات ضلّ ضلالًا بعيدًا؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾[٦]، وقال: ﴿كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[٧]، وقد يأخذ الرجل آية متشابهة، فيؤوّلها كيف يشاء، فيضلّ ضلالًا مبينًا، وهذا شائع جدًّا بين أهل الزيغ والفتنة؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾[٨]، وروي عن أهل البيت، قالوا: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْتَزِعُ الْآيَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَيَخِرُّ فِيهَا أَبْعَدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»[٩]، ومثال ذلك ما روي عن سدير الصيرفيّ، قال: «قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ آلِهَةٌ، يَتْلُونَ بِذَلِكَ عَلَيْنَا قُرْآنًا: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾[١٠]، فَقَالَ: يَا سَدِيرُ، سَمْعِي وَبَصَرِي وَبَشَرِي وَلَحْمِي وَدَمِي وَشَعْرِي مِنْ هَؤُلَاءِ بِرَاءٌ، وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُمْ، مَا هَؤُلَاءِ عَلَى دِينِي وَلَا عَلَى دِينِ آبَائِي، وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُنِي اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَهُوَ سَاخِطٌ عَلَيْهِمْ، قَالَ: قُلْتُ: وَعِنْدَنَا قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ رُسُلٌ، يَقْرَؤُونَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ قُرْآنًا: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾[١١]، فَقَالَ: يَا سَدِيرُ، سَمْعِي وَبَصَرِي وَشَعْرِي وَبَشَرِي وَلَحْمِي وَدَمِي مِنْ هَؤُلَاءِ بِرَاءٌ، وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَرَسُولُهُ، مَا هَؤُلَاءِ عَلَى دِينِي وَلَا عَلَى دِينِ آبَائِي، وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُنِي اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَهُوَ سَاخِطٌ عَلَيْهِمْ»[١٢].
نعم، قال اللّه تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾[١٣]، ولا مانع من حمله على أنّه لا يزال يأتي من عند اللّه هدًى حتّى تقوم الساعة؛ لأنّ الهدى أعمّ من الرسول، وقد قال تعالى: ﴿لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾[١٤]؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾، فَقَالَ: لَمْ يَقُلْ: «رَسُولٌ»، وَلَكِنْ قَالَ: ﴿هُدًى﴾، وَهُوَ مَنْ يَهْدِي بِأَمْرِهِ، رَسُولٌ أَوْ خَلِيفَةُ رَسُولٍ.
ولا يخفى أنّ من أتاه خليفة الرسول فكأنّما أتاه الرسول؛ لأنّ الرسول استخلفه، وعلى هذا يمكن أن يُحمل قول اللّه تعالى: ﴿إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾؛ لأنّ الرسل قد يأتون مباشرة، وقد يبعثون نوّابًا، ومن أتاه نائب الرسول فقد أتاه الرسول؛ كما روي عن محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي»[١٥]، وفي رواية أخرى أنّه قال: «مَنْ أَطَاعَ الْخَلِيفَةَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى الْخَلِيفَةَ فَقَدْ عَصَانِي»[١٦]، وعلى هذا فلا يكون بعد محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم رسول، ولكن يكون خليفة يبيّن للناس سنّته كاملة، حتّى كأنّه فيهم؛ كما روي عن محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «لَيَنْتَهِيَنَّ، أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْهِمْ رَجُلًا كَنَفْسِي، يُمْضِي فِيهِمْ أَمْرِي، يَقْتُلُ الْمُقَاتِلَةَ، وَيَسْبِي الذُّرِّيَّةَ»، ثمّ أخذ بيد عليّ عليه السلام[١٧]، فدلّ بذلك على أنّ خليفته كنفسه؛ لأنّه قد بعثه، وأنّه يمضي أمره، ويؤيّد هذا قول اللّه تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾[١٨]؛ لأنّه لمّا نزل دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم الحسن والحسين وفاطمة وعليًّا عليهم السلام[١٩]، فدلّ بذلك على أنّ عليًّا عليه السلام كنفسه، ولا يخلو زمان من مثل عليّ عليه السلام.
لمزيد المعرفة عن هذا، راجع: كتاب «تنبيه الغافلين على أنّ في الأرض خليفة للّه ربّ العالمين» للسيّد المنصور حفظه اللّه تعالى.