لم يكن الأئمّة من أهل البيت يتّخذون لأنفسهم مثقالًا من الذهب ماداموا أحياء؛ فكيف ملئت مقابرهم ذهبًا؟! لماذا لم يبن عليّ للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مزارًا مزخرفًا مثل ما بنى الشيعة للأئمّة من أهل البيت، مع أنّه كان خليفة، وفي يده بيت المال؟!
يرجى ملاحظة ما يلي:
١ . لا شكّ أنّ النبيّ وأهل بيته لم يكنزوا في حياتهم ذهبًا ولا فضّة، بل أنفقوها في سبيل اللّه؛ لأنّهم كانوا يخافون اللّه، ويعلمون أنّه قال في كتابه: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[١]، ومن الواضح أنّ الذهب والفضّة التي زُيّنت بها مقابرهم لم تكن من أموالهم، بل كانت من أموال الناس، ولم تُنفَق في تزيينها بأمرهم، بل أُنفقت بأمر السلاطين، ولذلك فإنّهم غير مسؤولين عن ذلك، ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾[٢].
٢ . إنّ عليًّا عليه السلام لم يبن على قبر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم يأمره بذلك، بل أمره بهدم القبور المبنيّة؛ كما روي أنّه قال: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ، فَقَالَ: مَنْ يَأْتِي الْمَدِينَةَ فَلَا يَدَعْ قَبْرًا إِلَّا سَوَّاهُ، وَلَا صُورَةً إِلَّا طَلَخَهَا، وَلَا وَثَنًا إِلَّا كَسَرَهُ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا، ثُمَّ هَابَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَجَلَسَ، قَالَ عَلِيٌّ: فَانْطَلَقْتُ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَدَعْ بِالْمَدِينَةِ قَبْرًا إِلَّا سَوَّيْتُهُ، وَلَا صُورَةً إِلَّا طَلَخْتُهَا، وَلَا وَثَنًا إِلَّا كَسَرْتُهُ، فَقَالَ: مَنْ عَادَ لِصَنْعَةِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ»[٣]، وروي أنّه قال لأبي الهيّاج الأسديّ: «أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، أَنْ لَا تَتْرُكَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ، وَلَا تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ»[٤]، وفي رواية أخرى، «أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى صَاحِبِ شُرَطِهِ، فَقَالَ: انْطَلِقْ، فَلَا تَدَعْ زُخْرُفًا إِلَّا أَلْقَيْتَهُ، وَلَا قَبْرًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي إِلَى أَيْنَ بَعَثْتُكَ؟ إِلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ»[٥]، وقد روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا»[٦]، وفي تفسيره خلاف بين أهل العلم، ولا يبعد أن يكون نهيًا عن تزيين قبره كما يزيّن الناس الأماكن في عيدهم. نعم، لم يكن قبر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم تحت السماء أيضًا، بل كان في بيته، حتّى ألحقه عبد الملك بن مروان بالمسجد في سنة ثمان وثمانين، ولذلك قال السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى: «لَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ لَمْ يُبْنَ لَهُ».
٣ . لا شكّ أنّ البناء على قبور النبيّ وأهل بيته وتزيينها بالذهب والفضّة لا أصل له في الإسلام، وهو مخالف لكتاب اللّه ومخالف لسنّتهم، ولذلك لا يجوز الإبتداء به قطعًا، ولكن إذا ابتُدئ به فتمّ لم تجز إزالته إلّا إذا لم تُعتبر إهانة لهم عرفًا؛ لأنّ حرمة إهانتهم أكبر من حرمة البناء على قبورهم وتزيينها بالذهب والفضّة، وقد تؤدّي إلى الفتنة والشقاق بين المسلمين. فإن أمكنت إزالته بطريقة صالحة لا إهانة فيها ولا مفسدة جازت، وينبغي أن يقوم بها أولادهم والمعروفون بمودّتهم لتكون أبعد من الإهانة والمفسدة، وكذلك الحكم في قبور سائر المؤمنين؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ يَقُولُ: مَنْ هَدَمَ قَبْرَ مُؤْمِنٍ فَكَأَنَّمَا هَدَمَ دَارَهُ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدَ فِيهِ خَلَلًا أَوْ نَقْصًا، أَلَهُ أَنْ يُصْلِحَهُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يُصْلِحَهُ، وَلَيْسَ الْهَدْمُ كَالْإِصْلَاحِ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدَ عَلَيْهِ بُنْيَانًا مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَبْرٍ، أَلَهُ أَنْ يَهْدِمَ الْبُنْيَانَ؟ قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَهُ هَدْمًا فَيُهِينَهُ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْهُ عَلَى رِفْقٍ، حَتَّى إِذَا سَوَّاهُ جَعَلَ حَوْلَهُ مَوَانِعَ لِكَيْلَا يَطَأَهُ النَّاسُ، قُلْتُ: أَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا بِهَدْمِ الْقُبُورِ؟! قَالَ: إِنَّمَا أَمَرَهُ بِهَدْمِ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ لِيُذْهِبَ آثَارَ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنْجَاسَهَا، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِهَدْمِ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ، قُلْتُ: فَمَاذَا تَرَى إِنْ كَانَ قَبْرَ نَبِيٍّ أَوْ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ لَا يُهْدَمَ وَلَا يُؤْخَذَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ، لِكَيْلَا يَكُونَ فِتْنَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا، فَيُوقِعَ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ لَمْ يُبْنَ لَهُ مَا لَمْ يُرْفَعْ فَوْقَ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ، وَلَا أَقُولُ كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْأَحْجَارُ -يَعْنِي الْوَهَّابِيَّةَ! ثُمَّ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ، وَكَانَ يُصْلِحُ لَهُ قَمِيصًا، فَقَالَ: يَهْدِمُونَ قُبُورَ الصَّالِحِينَ، وَيَعْمُرُونَ قُصُورَ الظَّالِمِينَ! لَا وَاللَّهِ مَا بِذَلِكَ أُمِرُوا![٧]
لقد نبّه هذا العالم العظيم على نكتة مهمّة، وهي أنّ الذين ينقمون الآن من البناء على قبور النبيّ وأهل بيته وتزيينها بالذهب والفضّة، لا يتعرّضون لقصور الملوك وبروج أبناء الملوك، ويتجاهلون الذهب والفضّة التي ينفقونها في التترّف والفجور والفساد في الأرض، مع أنّه إن كان البناء على قبور النبيّ وأهل بيته وتزيينها بالذهب والفضّة سيّئًا، فإنّ بناء القصور والبروج وإنفاق الذهب والفضّة في التترّف والفجور والفساد في الأرض هو أسوء وأكبر عند اللّه، ولذلك فإنّ السعي في خراب قصور الظالمين أولى من السعي في خراب قبور الصالحين؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
كُنْتُ عِنْدَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ السَّلَفِيَّةِ، فَقَالَ: كَانَ فِي قَرْيَتِي قَبْرٌ لِفُلَانٍ الصُّوفِيِّ، وَكَانَ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَهَدَمْتُهُ! قَالَ: وَهَدَمْتَهُ؟! قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ، وَنَفَضْتُ يَدَيَّ مِنْ تُرَابِهِ! قَالَ: هَدَمْتَ الْقَبْرَ الْأَصْغَرَ، وَأَبْقَيْتَ الْقَبْرَ الْأَكْبَرَ! قَالَ: وَمَا الْقَبْرُ الْأَكْبَرُ؟! قَالَ: قَصْرُ الْحَاكِمِ، وَعُبَّادُهُ أَكْثَرُ! فَتَأَمَّلَ الرَّجُلُ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَطَعْنَاكَ لَحَمَلْتَنَا عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ، وَلَكِنْ مَا نَصْنَعُ بِالْمَذَاهِبِ؟! ثُمَّ قَامَ وَخَرَجَ.[٨]
نعم، إنّ قصور الظالمين هي القبور الكبرى التي يحكم فيها أموات متحرّكون، وهي أولى بالخراب عند اللّه وعند الذين آمنوا، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون، ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾[٩].