ما حكم الفوائد المصرفيّة عند السيّد المنصور الهاشمي الخراسانيّ؟ إن كان يرى أنّها ربا، فماذا يفعل الذين لا يستطيعون العمل برؤوس أموالهم ولا يعرفون شخصًا موثوقًا به ليشاركوه في التجارة أو الإنتاج، ولذلك يودعون أموالهم البنك طلبًا للفائدة؟
الربا نوعان: أحدهما تبادل سلعتين من جنس واحد مع تفاضل إحداهما على الأخرى، والآخر إقراض المال أحدًا بشرط أن يردّه مع فائدة، وعليه فإنّ كلّ فائدة يشترطها البنك للمقرض بالنسبة إلى ما أقرضه فهي ربا محرّم في كتاب اللّه تعالى، وإن غيّر الأسماء؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنِ الْمَصْرَفِ، يُودِعُهُ الرَّجُلُ مِنْ مَالِهِ مِائَةَ دِينَارٍ لِيَعْمَلَ بِهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، عَلَى أَنْ يُؤْتِيَهُ عِشْرِينَ دِينَارًا مِنَ الرِّبْحِ، قَالَ: هَذَا وَاللَّهِ رِبًا فَاجْتَنِبُوهُ، قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا هُوَ إِلَّا مُضَارَبَةٌ! قَالَ: كَذَبُوا، أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ رِبْحَ الْمُضَارَبَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مَشْرُوطٍ؟![١]
وكذلك ما يشترط البنك على المستقرض في القروض البنكيّة من ردّ ما يقرضه مع فائدة؛ فإنّه ربا، وإن سمّاه عمولة أو معدّل تضخّم أو غير ذلك؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
اسْتَقْرَضْتُ الْبَنْكَ، فَاشْتَرَيْتُ سَيَّارَةً، فَرَآهَا الْمَنْصُورُ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ يَا فُلَانُ؟! قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا، قَالَ: كَيْفَ؟! وَلَمْ يَكُنْ لَكَ مَالٌ، قُلْتُ: اسْتَقْرَضْتُ الْبَنْكَ، قَالَ: عَلَى فَائِدَةٍ لَهُ؟! قَالَ: فَائِدَتُهُ قَلِيلَةٌ! قَالَ: كَيْفَ تَكُونُ قَلِيلَةً مَا تُدْخِلُكَ النَّارَ؟! رُدَّ عَلَيْهِ الْمَالَ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ، قُلْتُ: إِنْ بِعْتُ السَّيَّارَةَ خَسِرْتُ؛ لِأَنَّهَا تُبَاعُ بِأَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَيْتُهَا بِهِ! قَالَ: كَيْفَ يُخْسِرُكَ مَا يُنْجِيكَ مِنَ النَّارِ؟! أَلَا وَاللَّهِ لَوْ دَخَلْتَ الْجَنَّةَ مَاشِيًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدْخُلَ النَّارَ رَاكِبًا! ثُمَّ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: دِرْهَمٌ مِنَ الرِّبَا أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً!
هذا حكم إقراض البنك واستقراضه خاصّة، والحقّ أنّه لا تجوز معاملته اختيارًا، وإن كانت بغير إقراض أو استقراض؛ لأنّه ظالم، ومعاملته ركون إليه وإعانة له على إثمه وعدوانه، وقد قال اللّه تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾[٢]، وقال: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[٣]؛ لا سيّما بالنظر إلى أنّ البنك ليس له أصل في الإسلام، وإنّما أحدثه الكفّار ابتغاء مصالحهم، ولم يزل يعمل في إطار سياساتهم الإقتصاديّة، ويعين على سيطرتهم على ثروات العالم واتّكال المسلمين عليهم؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنِ الْبَنْكِ، فَقَالَ: سَلْ غَيْرِي! سَلْ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءَ! قُلْتُ: لِمَاذَا؟! قَالَ: لِأَنَّكَ فِي سَعَةٍ مَا لَمْ تَسْأَلْنِي، فَإِذَا سَأَلْتَنِي أَخْبَرْتُكَ بِالْحَقِّ فَضَاقَتْ عَلَيْكَ! أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾[٤]؟! قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِالْحَقِّ، وَلَا تَرُدَّنِي إِلَى حُفْنَةٍ مِنَ الْقَرَاصِنَةِ! قَالَ: لَا بَنْكَ فِي الْإِسْلَامِ، إِنَّمَا هُوَ وَدِيعَةٌ وَقَرْضٌ وَمُضَارَبَةٌ، وَمَنْ عَامَلَ الْبَنْكَ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ الرِّبَا، قُلْتُ: إِلَّا مَنْ أَكْرَهَهُ ظَالِمٌ؟ قَالَ: إِلَّا مَنْ أَكْرَهَهُ ظَالِمٌ، ثُمَّ قَالَ: أَلَكَ مَالٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَأَتَطَبَّبُ، قَالَ: لَوْ أَلْقَيْتَ مَالَكَ فِي الْبَحْرِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَضَعَهُ فِي الْبَنْكِ، لِأَنَّهُ كِيسُ الظَّلَمَةِ، وَإِنَّ كِيسَهُمْ كَبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، يَتَّصِلُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْمَرْكَزِ! قُلْتُ: وَمَا الْمَرْكَزُ؟! قَالَ: كِيسُ الْأَعْوَرِ.[٥]
بناء على هذا، ليس لمن لديه مال أن يضع ماله في بنوك الظالمين إن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر، وله أن يفعل بعض ما يلي:
١ . يشمّر عن ساعد الجدّ ويعمل بماله في مكاسب شرعيّة وغير حكوميّة متوكّلًا على اللّه.
٢ . يدفع ماله إلى من يهمّه الحلال والحرام من أصدقائه وأقربائه وجيرانه المسلمين، ليعملوا به في مكاسب شرعيّة وغير حكوميّة على حصّة عادلة من الربح مضاربةً.
٣ . يدفع ماله إلى سائر المسلمين الذين لهم مكاسب شرعيّة وغير حكوميّة، ليعملوا به في مكاسبهم على حصّة عادلة من الربح مضاربةً.
٤ . يحفظ ماله عنده في حرز حتّى يفتح اللّه له بابًا إلى أحد الأمور أعلاه، وينفق منه في سبيل اللّه ليعود إليه في الدنيا والآخرة سبعين ضعفًا إن شاء اللّه.
كما ينبغي للمؤمنين أن يفتحوا صندوقًا فيما بينهم بالتعاون مع أصدقائهم وأقربائهم وجيرانهم المؤمنين، ليقرضوا بعضهم البعض قرضًا حسنًا ملتزمين بأحكام اللّه، ويستغنوا بذلك عن قروض البنوك المشوبة والمشتبهة؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾[٦]، وليذكروا قول اللّه تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾[٧].
ما حكم راتبي الذي أعمل به في إحدى وحدات البنك؟ ويبدو أنّ أنشطة البنك مرتبطة بالعقود الإسلاميّة وهي ذات منفعة عامّة، والوحدة لها جانب إداريّ وبحثيّ وغير تنفيذيّ.
إنّ أنشطة البنك في الوقت الحاضر لا ترتبط بالعقود الإسلاميّة ويتمّ إجراؤها وفقًا للنظام الاقتصاديّ العالميّ وغير الإسلاميّ؛ لأنّ أخذ ودائع الناس والتصرّف فيها الذي هو أساس أنشطة البنك، إذا تمّ من باب «القرض» لا يمكن أن يجلب ربحًا للناس؛ لأنّ القرض لم يتمّ تشريعه في الإسلام لجلب الربح، ولكن لإعانة المسلمين بعضهم البعض، ولذلك كلّ ربح ناشئ عن القرض هو أكل المال بالباطل؛ كما أنّ أخذ ودائع الناس والتصرّف فيها، إذا تمّ من باب «الوديعة» لا يمكن أن يجلب ربحًا للبنك؛ لأنّ الوديعة لم يتمّ تشريعها في الإسلام لجلب الربح، ولكن لإعانة المسلمين بعضهم البعض، ولذلك كلّ ربح ناشئ عن الوديعة هو أكل المال بالباطل؛ كما أنّ أخذ ودائع الناس والتصرّف فيها، إذا تمّ من باب «المضاربة» لا يمكن أن يجلب ربحًا معلومًا ومشروطًا للناس؛ لأنّ الربح الناشئ عن المضاربة ليس معلومًا ولا مشروطًا، بل يتغيّر بحسب كيفيّة التجارة وأحوال السّوق، ولذلك كلّ ربح معلوم ومشروط فيها هو أكل المال بالباطل، في حين أنّ اللّه تعالى قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾[١]. بناء على هذا، فإنّ كلّ تعاون مع البنك في هيئته الحاليّة، خاصّة بالنظر إلى اتّصاله بالشبكة المصرفيّة العالميّة التي تكون غالبًا في خدمة قوى الشرّ، هو تعاون على الإثم والعدوان، وقد قال اللّه تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[٢].
لذلك، ينبغي للمؤمن أن يختار لنفسه عملًا أزكى ولا يخاف الفقر؛ لأنّ اللّه رزّاق رحيم ويفتح لمن يترك الحرام من خيفته بابًا إلى الحلال ويرزقه من حيث لا يحتسب؛ كما وعد في كتابه قائلًا: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾[٣].
ما حكم المال الذي يتلقّاه البنك من الناس مقابل القرض الحسن باسم العُمولة؟ هذا المال هو حوالي ٤٪ في بلدي ويتلقّاه البنك مع تبريرات مثل النفقات المتعلّقة بالإجراءات الإداريّة ورواتب القوى العاملة والإهلاك الواقع في ممتلكات البنك.
الإقراض بشرط أن يردّ المقترض أكثر من المال الذي حصل عليه في الواقع بنسبة معيّنة، هو ربا حرّمه اللّه تعالى في كتابه وإن كان باسم العمولة؛ لأنّ تغيير الإسم لا يغيّر المسمّى، والأعمال بالنيّة. القرض الحسن هو أن يتمّ الإقراض دون شرط لردّ مال زائد ودون شرط لغرامة التأخير، وهذا ما لا يقوم به البنوك؛ لأنّ البنوك تبتغي الربح، ولا تبتغي الثواب، ولذلك لا تقوم بما لا ربح لها فيه. ومن ثمّ حذّر العلامة المنصور الهاشمي الخراساني حفظه اللّه تعالى المؤمنين من الرجوع إلى البنوك، وحثّهم على الرجوع إلى بعضهم البعض؛ لأنّ الرجوع إلى البنوك إمّا وقوع في حرام بيّن أو وقوع في مشتبه، وليس من الصواب الوقوع في المشتبه أيضًا؛ كما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبَهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى فَيُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ»[١].
السؤال الذي أطرحه عليكم هو أنّه بالنظر إلى الوضع الحاليّ في الدنيا، فإنّ الناس كلّهم مبتلون بطريقة ما بأخذ القروض المصرفيّة ومحتاجون إلى ذلك. خذ قرض الزواج على سبيل المثال. إذا لم تتمكّن لأيّ سبب من الأسباب من إقناع زوجتك أو أهلها بعدم الإستفادة من هذا القرض، فما هو التكليف؟ هل المال المستفاد من هذا القرض حرام؟ نظرًا للظروف المعيشيّة الحاليّة والتكلفة المتزايدة التي تنقص من قيمة الأموال دائمًا، فقد أضطرّ بنفسي إلى الإستفادة من هذا القرض.
القرض بشرط أن تسدّده بمزيد من المال يعتبر ربا، والربا من أكبر الذنوب، لدرجة أنّ اللّه تعالى اعتبره أذانًا بحرب مع اللّه ورسوله، وعليه فلا يجوز أخذ مثل هذا القرض؛ لأنّه إعانة على الإثم، وقد قال اللّه تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[١] ومن الواضح أنّ ما حرّم اللّه لا يحلّ بما تهوى الزوجة أو أهلها؛ كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾[٢] وقال: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾[٣]. لذلك، يجب على المؤمنين -عندما لا يموتون بالكفّ عن هذا الحرام- أن يتّقوا اللّه ويصبروا على الشدائد والنواقص في الحياة الدنيا ويلتزموا بالقناعة والزهد ويعينوا بعضهم البعض؛ لأنّه من الصعب أن يبقوا متطهّرين في آخر الزمان، لكن له أجر أكبر بنسبة ذلك؛ كما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ»[٤]، وفي رواية أخرى: «لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ شَهِيدًا»[٥]، وفي رواية أخرى: «لَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ»[٦]، وروي أنّه قال: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُنَالُ الْمُلْكُ فِيهِ إِلَّا بِالْقَتْلِ وَالتَّجَبُّرِ وَلَا الْغِنَى إِلَّا بِالْغَصْبِ وَالْبُخْلِ وَلَا الْمَحَبَّةُ إِلَّا بِاسْتِخْرَاجِ الدِّينِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ فَصَبَرَ عَلَى الْفَقْرِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْغِنَى وَصَبَرَ عَلَى الْبِغْضَةِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَصَبَرَ عَلَى الذُّلِّ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْعِزِّ آتَاهُ اللَّهُ ثَوَابَ خَمْسِينَ صِدِّيقًا مِمَّنْ صَدَّقَ بِي»[٧]. نعم، إنّ أجر الصدّيقين والشهداء -الذي هو أكبر أجر بعد أجر النبيّين- يكون لمؤمن يبقى متطهّرًا عندما عمّ الحرام الدنيا ولوّث الناس أجمعين، وإن أحاط به المشاكل من كلّ جانب؛ لأنّ البقاء متطهّرًا في مثل هذا الزمان هو أصعب من القبض على الجمر؛ كما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «الْمُتَمَسِّكُ يَوْمَئِذٍ بِدِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ»[٨]. هذه نتيجة قسريّة لعدم حاكميّة اللّه على الأرض، وكلّما طالت مدّة ذلك أصبح الإلتزام بالدين أصعب فأصعب على الناس؛ حتّى يكون العثور على لقمة من حلال أصعب عليهم من تحمّل ضربة سيف؛ كما روي عن عليّ عليه السلام أنّه قال: «ذَاكَ حَيْثُ تَكُونُ ضَرْبَةُ السَّيْفِ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَهْوَنَ مِنَ الدِّرْهَمِ مِنْ حِلِّهِ»[٩]. هذه نتيجة طبيعيّة لطول غيبة خليفة اللّه في الأرض، وإذا لم يتمّ إيقافها في أقرب وقت ممكن بإرادة وعمل مناسبين من الناس، فسيسود العالم وضع أكثر صعوبة وإخافة؛ كما أخبر اللّه تعالى عن ذلك كسنّة له فقال: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾[١٠]، وقال: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾[١١].