كيف تناسل بنو آدم عليه السلام مع حرمة الزواج بين الأخ والأخت؟
المشهور بين أهل العلم أنّ بني آدم عليه السلام تزوّجوا من أخواتهم بمقتضى الضرورة، وزعم بعض أهل العلم أنّه لم تكن هناك ضرورة؛ إذ كان من الممكن أن يجعل اللّه لهم أزواجًا من الجنّ والحور العين، ليتناسلوا بغير زواج من أخواتهم، وقد روي عن أهل البيت أنّه فعل ذلك[١]، ولكنّ الرواية ضعيفة، والصواب هو المشهور؛ لأنّ اللّه قال في كتابه: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾[٢]، والظاهر من ذلك عدم مشاركة غيرهما في انبثاث البشر، وقد صحّ عن أهل البيت ما يوافق ذلك؛ كما روي عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: «سَأَلْتُهُ -يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَا- عَنِ النَّاسِ، كَيْفَ تَنَاسَلُوا مِنْ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: حَمَلَتْ حَوَّاءُ هَابِيلَ وَأُخْتًا لَهُ فِي بَطْنٍ، ثُمَّ حَمَلَتْ فِي الْبَطْنِ الثَّانِي قَابِيلَ وَأُخْتًا لَهُ فِي بَطْنٍ، فَتَزَوَّجَ هَابِيلُ الَّتِي مَعَ قَابِيلَ، وَتَزَوَّجَ قَابِيلُ الَّتِي مَعَ هَابِيلَ، ثُمَّ حَدَثَ التَّحْرِيمُ بَعْدَ ذَلِكَ»[٣]، وإسناده صحيح، ولا محذور في ذلك؛ لأنّه كان حلالًا؛ كنكاح امرأة الأب والجمع بين الأختين قبل قول اللّه تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾[٤]، وقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾[٥]، ولو كان فيه محذور، ففي نكاح الجنّ محذور أيضًا، بل لعلّه أكبر؛ لأنّه نكاح غير النوع، وقد علم كلّ نوع أنّه محرّم عليه، فتجتنبه الوحوش والبهائم إبقاءً لنوعها، وقد روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نهى أن يُنزى الحمار على الفرس، وقال: «إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»[٦]، فكيف جاز في بني آدم عليه السلام ما لا يجوز في الفرس والحمار، وهم أشرف وأكرم؟! وقد جاء الكتاب بفصل الخطاب إذ قال: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾[٧]؛ فصرّح بأنّ اللّه جعل لبني آدم عليه السلام أزواجًا من أنفسهم دون الجنّ، وجعل لهم بنين وحفدة من أزواجهم دون الجنّ؛ فمن قال أنّ اللّه جعل لهم أزواجًا من غير أنفسهم، وجعل لهم بنين وحفدة من الجنّ فقد خالف الكتاب. ثمّ ما فعلت بنات آدم عليه السلام على قوله؟! هل بقين بلا أزواج؟ وهو ظلم في حقّهنّ، أم تزوّجن رجالًا من الجنّ؟ وهو أقبح وأطمّ! فلا بدّ له من القول بأنّهنّ تزوّجن إخوانهنّ بمقتضى الضرورة، وممّا يزيد قوله وهنًا أنّ ما يتولّد من الزواج بين الإنس والجنّ لا يكون إنسانًا، بل يكون خلقًا آخر نصفه من الإنس ونصفه من الجنّ، وهذا ما لا يمكن التسليم به؛ لأنّ المسلّم به أنّ بني آدم عليه السلام إنس، وليسوا بأنصاف الإنس وأنصاف الجنّ؛ كما لا يُعرف لهم أخوال وخالات من الجنّ! نعم، يظهر من قول اللّه تعالى: ﴿وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾[٨] أنّ الشيطان يشاركهم في الأولاد، ولكنّ المشهور بين المفسّرين أنّه لا يكون بالجماع، وإنّما يكون بحملهم على المعاصي فيما يتعلّق بالأولاد، وقد روي عن أهل البيت أنّه قد يكون بالجماع؛ كما روي عن أبي جعفر قال: «إِذَا زَنَى الرَّجُلُ أَدْخَلَ الشَّيْطَانُ ذَكَرَهُ، فَعَمِلَا جَمِيعًا، وَكَانَتِ النُّطْفَةُ مِنْهُمَا، وَخُلِقَ مِنْهَا الْوَلَدُ، وَيَكُونُ شِرْكَ الشَّيْطَانِ»[٩]، وعن جعفر بن محمّد «فِي النُّطْفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لِلآدَمِيِّ وَالشَّيْطَانِ إِذَا اشْتَرَكَا» قال: «رُبَّمَا خُلِقَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَرُبَّمَا خُلِقَ مِنْهُمَا جَمِيعًا»[١٠]، ولكنّه ليس من الزواج في شيء، وإنّما هو بلاء عظيم يُبتلى به شرار الناس؛ كما روي أنّ الحجّاج كان ابن شيطان[١١]، وقال المنصور حفظه اللّه تعالى أنّ الدجّال ابن شيطان[١٢]، إن لم يكن المراد أنّه صنيعه، وقد روي: «إِنَّ مِنْ عَلَامَاتِ شِرْكِ الشَّيْطَانِ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيه أَنْ يَكُونَ فَحَّاشًا لَا يُبَالِي مَا قَالَ وَلَا مَا قِيلَ فِيهِ»[١٣]، وكيفما كان فإنّه لا يدلّ على جواز الزواج بين الإنس والجنّ حتّى يكون مندوحة من الزواج بين الإخوة والأخوات، بل هو حرام مثله، وممّا يزيده حرمة قول اللّه تعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾[١٤]؛ لأنّ القوم يدّعون أنّ آدم عليه السلام عاذ برجال من الجنّ لبقاء نسله فاستنكحهم لبنيه، وهو ممنوع أشدّ المنع؛ بغضّ النظر عن أنّه لا يدفع المحذور؛ لأنّه موجود في تناسل الجنّ أيضًا، والقول بأنّ اللّه جعل لهم أزواجًا من خلق آخر يؤدّي إلى التسلسل، وهو مستحيل.
هذا في القول بأنّ بني آدم عليه السلام تزوّجوا من الجنّ، وأمّا القول بأنّهم تزوّجوا من الحور العين ففيه محذورات كثيرة أيضًا؛ منها أنّ الحور العين من ثواب الآخرة، وليست من ثواب الدنيا، ولو حصلت لأحد قبل الموت انقطع التكليف والإمتحان بالنسبة له، وهذا غير جائز في حكمة اللّه تعالى، ومنها أنّ اللّه تعالى قال: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[١٥]، ولو كانت نفس قد تزوّجت بحور عين في الحياة الدنيا لانتقض قوله؛ لأنّها كانت تعلم، ومنها أنّ اللّه تعالى قال في وصف الحور العين: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ﴾[١٦]، وهذا كالصريح في أنّه لم يطمثهنّ أحد في الحياة الدنيا، ومنها أنّ الحور العين ﴿أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾[١٧]، أي لا يصيبهنّ خبث ولا حدث، وهذه صفة لا تنسجم مع الحمل والوضع والإرضاع والتنظيف والتربية للأولاد في الحياة الدنيا؛ كما قال مجاهد: «طُهِّرْنَ مِنَ الْحَيْضِ وَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْبُزَاقِ وَالنُّخَامَةِ وَالْمَنِيِّ وَالْوَلَدِ»[١٨]، بل الأظهر أنّهنّ لا يحبلن ولا يلدن في الآخرة أيضًا؛ كما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «تَلَذُّونَهُنَّ مِثْلَ لَذَّاتِكُمْ فِي الدُّنْيَا وَيَلَذُّونَكُمْ غَيْرَ أَنْ لَا تَوَالُدَ»[١٩]، وأنّه سئل: «هَلْ يُجَامِعُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟» فقال: «نَعَمْ، دِحَامًا دِحَامًا، وَلَكِنْ لَا مَنِيٌّ وَلَا مَنِيَّةٌ»[٢٠]، وبهذا قال كثير من السلف؛ كما قال طاووس وعطاء الخراسانيّ: «أَهْلُ الْجَنَّةِ يَنْكِحُونَ النِّسَاءَ، وَلَا يَلِدْنَ، لَيْسَ فِيهَا مَنِيٌّ وَلَا مَنِيَّةٌ»[٢١]، وقال إبراهيم النخعيّ: «فِي الْجَنَّةِ مَا شَاءُوا وَلَا وَلَدَ»[٢٢]، ومنها أنّ الحور العين خالدات لا يمتن؛ كما جاء في الحديث أنّهنّ «يَقُلْنَ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَبِيدُ»[٢٣]، وقد قال اللّه تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾[٢٤] يعني الدنيا؛ فلا يمكن أن تكون فيها واحدة من الحور العين، ومنها أنّ الحور العين أجلّ وأجمل من أن تسعهنّ الدنيا أو يطيقهنّ أهلها؛ كما روي: «لَنَصِيفُ إِحْدَاهُنَّ عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»[٢٥]، وروي: «لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُنَّ اطَّلَعَتْ مِنَ السَّمَاءِ لَسَدَّ ضَوْؤُهَا ضَوْءَ الشَّمْسِ»[٢٦]، وروي: «لَوْ أَنَّ وَاحِدَةً مِنَهُنَّ أَشْرَفَتْ، لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ طِيبِهَا»[٢٧]، وروي: «لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُنَّ بَصَقَتْ فِي سَبْعَةِ أَبْحُرٍ لَكَانَتْ تِلْكَ الْأَبْحُرُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ»[٢٨]، وروي: «إِنَّهُ لَيُوجَدُ رِيحُ الْمَرْأَةِ مِنَهُنَّ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِينَ سَنَةً»[٢٩]، وروي: «إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنَهُنَّ لَيُرَى بَيَاضُ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حُلَّةً»[٣٠]، فأنّى مثل هذه في الحياة الدنيا؟!
الحاصل أنّ القول بأنّ بني آدم عليه السلام تزوّجوا من الجنّ والحور العين، فتناسلوا بذلك، ضعيف جدًّا، ولو قال قائله بأنّ اللّه خلق لهم أزواجًا من تراب كما خلق لآدم عليه السلام لكان أقوى، مع أنّه ضعيف أيضًا؛ لأنّ الظاهر من كتاب اللّه أنّ الخلق من تراب كان خصيصة لآدم عليه السلام، ولذلك يقول أكثر أهل العلم بأنّ زوجته خُلقت من ضلعه، ولم تُخلق من تراب؛ كما يدلّ عليه قول اللّه تعالى: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾[٣١]، واللّه تعالى أعلم.