ما هي «روح القدس»؟ لقد اختلف المسلمون في تعريفها. فهل هناك تعريف يقينيّ لها؟ وما هو الدور الذي تقوم به؟
الظاهر من قول اللّه تعالى أنّ «روح القدس» خلق غير الملائكة؛ فإنّه فرّق بينهما في غير واحدة من آياته؛ كما قال: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾[١]، وقال: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾[٢]، وقال: ﴿يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ﴾[٣]، وإن كان من المحتمل أن يكون ذلك من باب ذكر الخاصّ مع العامّ تنبيهًا على فضله، حتى كأنّه ليس من جنس العامّ، ولكنّ هذا خلاف الظاهر، ولا يجوز صرف الكلام إلى خلاف الظاهر إلا بعد تعذّر حمله على الظاهر، ولا تعذّر هنا، بل عسى أن يكون المتعذّر حمله على خلاف الظاهر؛ لأنّ بعض ما وصف اللّه به روح القدس لا ينسجم مع صفات الملائكة؛ كقوله تعالى: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾[٤]؛ نظرًا لأنّ الملك لا يُلقى على أحد، ولكن ينزل، وأظهر من ذلك قوله تعالى في مريم عليه السلام: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا﴾[٥]؛ نظرًا لأنّ الملك لا يُنفخ في أحد، ولا يصحّ أن يقال: «نفخنا فيها من ملائكتنا»؛ لأنّ الملك لا يحلّ في الإنسان حلولًا، وإنّما يحلّ فيه الروح، وهي غير الملائكة؛ كما في قول اللّه تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾[٦]، وروى ابن عبّاس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «الرُّوحُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ، لَيْسُوا بِمَلَائِكَةٍ، لَهُمْ رُؤُوسٌ وَأَيْدٍ وَأَرْجُلٌ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾، قَالَ: هَؤُلَاءِ جُنْدٌ وَهَؤُلَاءِ جُنْدٌ»[٧]، وفي رواية أخرى: «الرُّوحُ خَلْقٌ غَيْرُ الْمَلَائِكَةِ»[٨]، وهذا قول الأئمّة من أهل البيت؛ كما روى سعد الإسكاف قال: «أَتَى رَجُلٌ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْأَلُهُ عَنِ الرُّوحِ، أَلَيْسَ هُوَ جَبْرَئِيلَ؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: جَبْرَئِيلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالرُّوحُ غَيْرُ جَبْرَئِيلَ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ قُلْتَ عَظِيمًا مِنَ الْقَوْلِ! مَا أَحَدٌ يَزْعُمُ أَنَّ الرُّوحَ غَيْرُ جَبْرَئِيلَ! فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّكَ ضَالٌّ تَرْوِي عَنْ أَهْلِ الضَّلَالِ، يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ﴾[٩]، وَالرُّوحُ غَيْرُ الْمَلَائِكَةِ»[١٠]، وروى رجال كثيرون كمحمّد بن مسلم وأبي بصير وأبان بن تغلب وسماعة بن مهران وأبي الصباح الكناني وغيرهم عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين وابنه جعفر الصادق عليهم السلام أنّهما قالا: «الرُّوحُ خَلْقٌ أَعْظَمُ مِنْ جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ، كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُسَدِّدُهُ وَيُرْشِدُهُ، وَهُوَ مَعَ الْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ»[١١]، وقد روي قريب من هذا عن بعض الصحابة والتابعين؛ كما روي عن ابن عبّاس أنّه قال: «الرُّوحُ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَهُمْ عَلَى صُوَرِ بَنِي آدَمَ، مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكٌ إِلَّا وَمَعَهُ وَاحِدٌ مِنَ الرُّوحِ»[١٢]، وعن عكرمة قال: «الرُّوحُ أَعْظَمُ خَلْقًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا يَنْزِلُ مَلَكٌ إِلَّا وَمَعَهُ رُوحٌ»[١٣]، وعن سعيد بن جبير أنّه قال: «لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ خَلْقًا أَعْظَمَ مِنَ الرُّوحِ غَيْرَ الْعَرْشِ، صُورَةُ خَلْقِهِ عَلَى صُورَةِ خَلْقِ الْمَلَائِكَةِ، وَصُورَةُ وَجْهِهِ عَلَى صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ»[١٤]، وعن مجاهد أنّه قال: «الرُّوحُ خَلْقٌ عَلَى صُورَةِ بَنِي آدَمَ، لَهُمْ أَيْدٍ وَأَرْجُلٌ وَرُؤُوسٌ، وَلَيْسُوا بِمَلَائِكَةٍ»[١٥]، وفي رواية أخرى أنّه قال: «الرُّوحُ خَلْقُ اللَّهِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، لَا تَرَاهُمُ الْمَلَائِكَةُ كَمَا لَا تَرَوْنَ أَنْتُمُ الْمَلَائِكَةَ»[١٦]، وفي رواية أخرى: «لَا يَرَاهُ مَلَكٌ وَلَا شَيْءٌ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ»[١٧]، وعن الأعمش أنّه قال: «الرُّوحُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، يُضَعَّفُونَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَضْعَافًا، لَهُمْ أَيْدٍ وَأَرْجُلٌ»[١٨]، وعن أبي صالح مولى أمّ هانئ أنّه قال: «الرُّوحُ خَلْقٌ كَخَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَلَيْسُوا بِالْإِنْسَانِ، وَلَيْسُوا بِمَلَائِكَةٍ»[١٩].
وهناك أقوال أخرى أهمّها وأشهرها أنّ الروح جبرئيل عليه السلام، وممّا استدلّوا به على ذلك قول اللّه تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾[٢٠]، مع قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[٢١]، ولكنّه غير صريح حتّى يمكن العدول عن ظاهر الآيات الأخرى؛ لأنّه من الممكن أن كان القرآن نزّله جبرئيل وروح القدس كلاهما، إمّا بأن نزّلاه معًا، أو نزّل كلّ واحد منهما جزءًا منه، أو نزّله جبرئيل على روح القدس ثمّ نزّله روح القدس على النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وما يجعل الأوّل محتملًا قولهم: «لَا يَنْزِلُ مَلَكٌ إِلَّا وَمَعَهُ رُوحٌ»، وما يجعل الأخير محتملًا هو أنّ روح القدس إذا كان نُفخ في النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فقد كان تنزيل القرآن عليه بمثابة تنزيله على النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؛ لأنّه قد صار بمنزلة روحه في جسده، بحيث أنّه يتكلّم بلسانه ويفعل بجوارحه، ولذلك صار جميع أقواله وأفعاله حجّة؛ كما أشار المنصور إلى هذه النقطة اللطيفة، فقال:
إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِي رَسُولِهِ رُوحًا مِنْ عِنْدِهِ يُسَدِّدُهُ وَيَفْتَحُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾[٢٢]، فَمَنْ أَتَاهُ شَيْءٌ مِنَ الرَّسُولِ فَأَيْقَنَهُ فَلْيُطِعْهُ، فَإِنَّهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ.[٢٣]
وممّا يدلّ على هذا، إطلاق «روح اللّه» على عيسى بن مريم عليه السلام، مع أنّه كان بشرًا مؤيّدًا بروح القدس؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾[٢٤]، وقال: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾[٢٥]، وذلك لأنّ تأييده بروح القدس كان بحلوله فيه، حتّى صار كنفسه، وبذلك كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن اللّه؛ كما كان يتكلّم فيجعل اللّه كلامه الإنجيل؛ لأنّ روح القدس هو الذي كان يتكلّم بلسانه، وهذا علم أظهره المنصور فيما أخبرنا به بعض أصحابه، قال:
قُلْتُ لِلْمَنْصُورِ: لِمَاذَا قِيلَ لِلْمَسِيحِ رُوحُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ أَيَّدَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، فَأَسْكَنَهُ فِيهِ، حَتَّى صَارَ بَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَسَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَلَا يَقُولُ مِنْ قَوْلٍ وَلَا يَعْمَلُ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، قُلْتُ: لَا تَزَالُ تَفْتَحُ لَنَا بَابًا مِنَ الْعِلْمِ! أَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْمَسِيحِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ بِأَظْهَرَ مِمَّا كَانَ لَهُ، فَوَصَفَهُ اللَّهُ بِهِ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَيَّدَهُ اللَّهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وَلَوْ لَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَى النَّاسِ.
ولذلك جرى مثله لمحمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؛ كما قال اللّه تعالى فيه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾[٢٦]؛ إذ ظاهره أنّ ما ينطق به محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كلّه وحي، وإن لم يكن كلّه قرآنًا، وإلى هذا أشار المنصور فيما أخبرنا به بعض أصحابه، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾[٢٧]، فَقَالَ: هُمَا الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، وَإِنَّ السُّنَّةَ نَزَلَتْ كَمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ.[٢٨]
من هنا يعلم أنّ روح القدس هو سبب العصمة وضامنها، وهو روح مقدّسة يجعلها اللّه في الأنبياء والأئمّة الذين يدعون بأمره، مزيدًا ونافلة لهم، بالإضافة إلى ما جعل فيهم من الأرواح المشتركة بينهم وبين سائر الناس؛ كما روي عن أهل البيت: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ أَرْوَاحٍ: رُوحَ الْحَيَاةِ فَبِهِ دَبَّ وَدَرَجَ، وَرُوحَ الْقُوَّةِ فَبِهِ نَهَضَ وَجَاهَدَ، وَرُوحَ الشَّهْوَةِ فَبِهِ أَكَلَ وَشَرِبَ وَأَتَى النِّسَاءَ مِنَ الْحَلَالِ، وَرُوحَ الْإِيمَانِ فَبِهِ أَمَرَ وَعَدَلَ، وَرُوحَ الْقُدُسِ فَبِهِ حَمَلَ النُّبُوَّةَ، فَإِذَا قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ انْتَقَلَ رُوحُ الْقُدُسِ، فَصَارَ فِي الْإِمَامِ»[٢٩] يعني الإمام الذي جعله اللّه للناس بأمر من عنده، وهذا قول معروف نقله ابن منده (ت٣٩٥هـ) عن بعض المتكلّمين أنّهم قالوا: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ خَمْسَةَ أَرْوَاحٍ، وَلِكُلِّ مُؤْمِنٍ ثَلَاثَةً، وَلِكُلِّ حَيٍّ وَاحِدَةً»[٣٠]، وزاد بعضهم: «لِلْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ خَمْسَةُ أَرْوَاحٍ»[٣١]، والصدّيقون هم الأئمّة الذين وصفهم اللّه تعالى بأنّهم ﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾[٣٢]، وهذا هو المراد بقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾[٣٣]؛ لأنّه يدلّ على أنّ منشأ روح القدس هو أمر اللّه، فيكون قرينًا لأولي الأمر من عنده، وهذا علم أظهره المنصور على خوف من أن يقع في يدي من ليس من أهله أو يكبر على من لا بصيرة له في الدّين؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾، فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا الرُّوحُ مَعَ الْأَمْرِ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ مَا دَارَ، قُلْتُ: وَمَا الْأَمْرُ؟ قَالَ: خِلَافَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا لَوْ لَا أَنِّي خِفْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ لَمَا أَخْبَرْتُكَ!
وقد ورد ما يشعر بخوف بعض الصحابة ممّا خاف منه المنصور، وهو أن يقع العلم بتأويل هذه الآية في يدي من ليس من أهله، أو يكبر ذلك على من لا بصيرة له في الدّين؛ كما قال قتادة عندما سئل عن تأويلها: «هَذَا مِمَّا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَكْتُمُهُ»[٣٤]، وممّا يزيده بيانًا ما أخبرنا به بعض أصحابنا، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾، فَقَالَ: الرُّوحُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْحُكْمِ، قُلْتُ: رُوحُ الْقُدُسِ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ: إِذَا أَمَرَ اللَّهُ عَبْدًا بِتَعْلِيمِ عِبَادِهِ جَعَلَ فِيهِ رُوحَ الْقُدُسِ لِيُسَدِّدَهُ وَيُوَفِّقَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾، قُلْتُ: أَيَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ رُوحُ الْقُدُسِ فَلَيْسَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ، قُلْتُ: كَيْفَ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَهُ فِيهِ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ رُوحُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ، قُلْتُ: أَيَكُونُ هُوَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: إِنَّهُ قَدْ يُؤَيِّدُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُلْهِمُهُمْ، وَلَا يَسْكُنُ إِلَّا فِي صَاحِبِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا طُلِبَ وُجِدَ.
هذه هي حقيقة روح القدس، ولا يعرفها إلا الذين أوتوا العلم، ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[٣٥].