هل يرى السيّد المنصور أنّ زيارة قبور الصالحين جائزة خلافًا لرأي الوهّابيّين؟ فقد أخبر بعض أصحابه في القول ٣٢ أنّه رآه بالأنبار عند قبر يحيى بن زيد بن عليّ بن الحسين.
ليس هناك خلاف في جواز زيارة قبور الصالحين للتسليم عليهم والدّعاء لهم بالخير، وكيف يكون فيه خلاف بعد ما تواتر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من قوله وفعله الدّالّين على جواز زيارة قبور المسلمين؟! إنّما الخلاف في شدّ الرّحال بمعنى السفر لزيارة قبورهم، فإنّ السلفيّين يمنعون من ذلك، آخذين بما رواه جماعة من الصحابة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى»[١]، والحقّ أنّه لا يدلّ على حرمة شدّ الرّحال لزيارة القبور، كما لا يدلّ على حرمة شدّ الرّحال لغيرها من الأعمال المشروعة؛ لأنّ المستثنى فيه ثلاثة مساجد، والظاهر أنّ المستثنى منه هو من جنسها؛ نظرًا لأنّ المستثنى هو من جنس المستثنى منه، ولو لا ذلك لكان مجازًا، ولا يجوز صرف الكلام إلى المجاز إلا بعد تعذّر حمله على الحقيقة، ولو سلّمنا بأنّ الحقيقة فيه جميع الأمكنة لتعذّر حمله عليها؛ لأنّ جواز شدّ الرّحال إلى أمكنة غير المساجد الثلاثة أمر مسلّم به في الجملة، وإذا علمنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم يرد منه عمومه قطعًا، لا بدّ لنا من حمله على خصوص المساجد؛ لأنّه هو القدر المتيقّن، والزائد عن ذلك ظنيّ، وعليه فإنّ الحديث يعني لا تشدّ الرّحال إلى مسجد إلا مسجد الحرام ومسجد النبيّ والمسجد الأقصى؛ لأنّ جميع المساجد في الفضل سواء إلا هذه المساجد الثلاثة، ولذلك يجوز شدّ الرحال إلى الأمكنة الأخرى للتجارة والسياحة والزيارة وسائر الأعمال المشروعة، وهذا ظاهر جدًّا، لو لا تعصّب القوم لابن تيميّة! أمّا استنادهم إلى ما روى قزعة أو عرفجة، قال: «أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى الطُّورِ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَدَعْ عَنْكَ الطُّورَ، فَلَا تَأْتِهِ»[٢]، وما روى عمر بن عبد الرحمن بن الحارث وغيره: «أَنَّ أَبَا بَصْرَةَ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَهُوَ جَاءٍ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قَالَ: أَقْبَلْتُ مِنَ الطُّورِ، صَلَّيْتُ فِيهِ، قَالَ: أَمَا إِنِّي لَوْ أَدْرَكْتُكَ لَمْ تَذْهَبْ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى»[٣]، فليس بشيء؛ لأنّه كان في الطور مسجد، وهما شدّا الرّحال إلى المسجد، والدليل على ذلك قول أبي بصرة في رواية أحمد: «لَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَهُوَ يَسِيرُ إِلَى مَسْجِدِ الطُّورِ لِيُصَلِّيَ فِيهِ، فَقُلْتُ لَهُ: لَوْ أَدْرَكْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَرْتَحِلَ مَا ارْتَحَلْتَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي»[٤]، وروي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «إِنَّ الدَّجَّالَ لَا يَقْرَبُ أَرْبَعَةَ مَسَاجِدَ: مَسْجِدَ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، وَمَسْجِدَ الطُّورِ، وَالْمَسْجِدَ الْأَقْصَى»[٥]، وهذا أيضًا دليل على أنّ في الطور مسجدًا، وهو الذي لا تُشدّ إليه الرّحال.
لذلك فلا بأس بالسفر لزيارة قبور المؤمنين، خاصّة النبيّين والصالحين، ولو كان عند قبورهم مسجد، فسافر أحد لزيارة قبورهم، جاز له دخول المسجد والصلاة فيه؛ لأنّه لم يقصده، ولا بأس ببناء المسجد بالقرب من قبورهم لعبادة اللّه تعالى إذا كان بينهما حجاب، وقد يدلّ على هذا قوله تعالى في قصّة أصحاب الكهف: ﴿إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ۖ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا ۖ رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾[٦]، ولكن لا يجوز الصلاة حول قبورهم إذا لم يكن بينهما حجاب؛ لأنّها تشبّه بالمشركين، وكذلك الطواف حول قبورهم؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ زِيَارَةِ قَبْرِ الْحُسَيْنِ فَقَالَ: زُرْهُ، وَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَسَلِ اللَّهَ حَاجَتَكَ، قُلْتُ: كَيْفَ أُسَلِّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ؟ قَالَ: قُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّكَ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ وَأَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَجَاهَدْتَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ حَتَّى أَتَاكَ الْيَقِينُ، فَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَكَ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَمَرَ بِهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ فَرَضِيَ بِهِ، أَنَا إِلَى اللَّهِ مِنْهُمْ بَرِيءٌ! قُلْتُ: فَأَطُوفُ بِقَبْرِهِ؟ قَالَ: لَا، وَلَا تُصَلِّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَكِنْ تَنَحَّ نَاحِيَةً، وَصَلِّ فِي بَعْضِ الرُّوَاقَاتِ.[٧]
وكذلك، لا ينبغي التزاحم لاستلام قبورهم؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
رَأَيْتُ عِنْدَ قَبْرِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى شَابًّا هَاشِمِيًّا وَجْهُهُ كَدَائِرَةِ الْقَمَرِ، وَهُوَ يَقُولُ لِلْمُزْدَحِمِينَ: مَا بِهَذَا أُمِرْتُمْ -يَعْنِي بِالْإِزْدِحَامِ عَلَى الْقَبْرِ لِاسْتِلَامِهِ وَطَوَافِهِ.[٨]
قلتم: لا بأس ببناء المسجد بالقرب من قبور الصالحين لعبادة اللّه تعالى إذا كان بينهما حجاب، واستشهدتم على ذلك بقوله تعالى في قصّة أصحاب الكهف: ﴿إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ۖ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا ۖ رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾، وهذا أثار لي سؤالين:
أوّلًا هل يصحّ الإستشهاد بعمل الناس الذين بنوا مسجدًا بالقرب من قبور أصحاب الكهف، مع أنّه ليس من المعلوم من كان هؤلاء الناس، وهل كان عملهم حجّة أم لا؟
ثانيًا ألا يتعارض جواز بناء المسجد بالقرب من قبور الصالحين مع عدم جواز الصلاة حولها؟
يرجى التنبّه لما يلي:
أولًا ليس كتاب اللّه راويًا محايدًا يسرد أعمال الماضين دون تقييمها، بل هو كتاب مرشد يخبر عن أعمالهم ردًّا أو إمضاءً من أجل تحذيرنا أو تعليمنا، وقد أمضى اتّخاذهم مسجدًا بالقرب من قبور أصحاب الكهف؛ لأنّه سكت عنه، ولو كان غير جائز عنده لم يرض بالسكوت عنه؛ لأنّ السكوت عنه تقرير، بل يمكن القول بأنّه استصوبه ضمنيًّا إذ قال: ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾؛ لأنّ الظاهر من قوله: ﴿غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ﴾ أنّهم غلبوا بالحجّة، وهذا يعني أنّ الحقّ كان معهم، وكانوا هم المصيبين. بناء على هذا، فإنّا لم نستشهد في قولنا بعمل القوم، ولكن استشهدنا بتقرير واستصواب من اللّه.
ثانيًا المراد ببناء المسجد بالقرب من قبور الصالحين، ليس بناء المسجد على قبورهم بحيث تكون قبورهم داخل المسجد؛ كما قلنا بصراحة أنّه لا يجوز الصلاة حول قبورهم إذا لم يكن بينهما حجاب. إنّما الجائز بناء المسجد بالقرب من قبورهم بحيث تكون قبورهم خارج المسجد ولا يراها المصلّون؛ لا سيّما بالنظر إلى أنّ الأصل جواز بناء المسجد في كلّ مكان إلّا ما ورد دليل قطعيّ من الشرع على عدم جواز بناء المسجد فيه، وهو فوق القبور؛ كما أنّه لا ينبغي أيضًا البناء على القبور؛ لأنّه تشبّه بالملوك المستكبرين؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
نَهَى الْعَالِمُ -يَعْنِي الْمَنْصُورَ- عَنْ تَرْفِيعِ الْقَبْرِ وَالْبِنَاءِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا مَا أَخَذَ النَّاسُ مِنْ مُلُوكِهِمْ، وَإِنَّ مُلُوكَهُمْ كَانُوا مُسْرِفِينَ، وَدَخَلَ مَقَابِرَ قَوْمٍ وَرَأَى فِيهَا أَبْنِيَةً، فَقَالَ: هَذِهِ أَهْرَامٌ صَغِيرَةٌ.[١]