كيف يمكن تمييز الأشراف المزيّفين من الأشراف الحقيقيّين؟ قد انتشرت هذه المشكلة منذ عهد الصفويّين، إذ أصبح بعض الناس أشرافًا بشيء من المال! واليوم أيضًا يدّعي قادة داعش وبعض الدّجّالين أنّهم من بني هاشم! هل يصدَّق كلّ من يدّعي أنّه من السّلالة النبويّة؟!
إنّما علم الأنساب عند اللّه؛ لأنّه الوحيد الذي يعلم حقيقة المناكح والمواليد، ولا يعلم الآخرون إلا ما ظهر منها، وقد وهب اللّه هذا العلم لمن شاء من خلفائه؛ كما وهبه لرسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إذ قام في أصحابه وهو غضبان، فقال لهم: «لَا تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ»، فسأله رجال عن أنسابهم، منهم عبد اللّه بن حذافة السهميّ، وكان يُشكّ في نسبه، فقال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِي؟» فقال: «أَبُوكَ حُذَافَةُ»، ففرح بذلك وقال: «اللَّهُ أَكْبَرُ الَّذِي أَثْبَتَ نَسَبِي عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ»، وروي أنّ أمّه قالت له بعد ما رجع إليها: «أَيْ بُنَيَّ! لَقَدْ قُمْتَ الْيَوْمَ لِأُمِّكَ مَقَامًا عَظِيمًا! فَكَيْفَ لَوْ قَالَ الْأُخْرَى؟!» قال: «أَرَدْتُ أَنْ أَشْفِيَ مَا فِي صَدْرِي»، وفي رواية أخرى: «إِنْ كُنْتُ لَأُحِبُّ أَنْ أَعْلَمَ مَنْ كَانَ أَبِي مِنَ النَّاسِ»، وفي رواية أخرى: «لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَدَ لَلَحِقْتُهُ»، ومنهم رجل آخر لم يُذكر اسمه، فقال: «مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟» فقال: «أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ»، فألحقه برجل لا يُنسب إليه، فلمّا رأى ذلك عمر قام إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وسأله الكفّ عن ذلك وقال: «إِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَشِرْكٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَنْ آبَاؤُنَا»، وفي رواية أخرى: «إِنَّهُ لَا عِلْمَ لَنَا بِمَا صَنَعَتِ النِّسَاءُ فِي خُدُورِهَا»، فسكن غضبه[١]، وهذا علم ورثه الأئمّة من أهل بيته؛ كما روي عن الكلبيّ النسّابة أنّه قال: «دَخَلْتُ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَابْتَدَأَنِي بَعْدَ أَنْ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا الْكَلْبِيُّ النَّسَّابَةُ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ، وَضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا، وَخَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، يَا أَخَا كَلْبٍ! إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾[٢]، أَفَتَنْسُبُهَا أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: لَا جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَقَالَ لِي: أَفَتَنْسُبُ نَفْسَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، حَتَّى ارْتَفَعْتُ، فَقَالَ لِي: قِفْ، لَيْسَ حَيْثُ تَذْهَبُ! وَيْحَكَ، أَتَدْرِي مَنْ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، قَالَ: إِنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ ابْنُ فُلَانٍ الرَّاعِي الْكُرْدِيِّ، إِنَّمَا كَانَ فُلَانٌ الرَّاعِي الْكُرْدِيُّ عَلَى جَبَلِ آلِ فُلَانٍ، فَنَزَلَ إِلَى فُلَانَةَ امْرَأَةِ فُلَانٍ مِنْ جَبَلِهِ الَّذِي كَانَ يَرْعَى غَنَمَهُ عَلَيْهِ، فَأَطْعَمَهَا شَيْئًا وَغَشِيَهَا، فَوَلَدَتْ فُلَانًا، وَفُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ فُلَانَةَ وَفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ! ثُمَّ قَالَ: أَتَعْرِفُ هَذِهِ الْأَسَامِيَ؟ قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ جُعِلْتُ فِدَاكَ! فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَكُفَّ عَنْ هَذَا فَعَلْتَ! فَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتَ فَقُلْتُ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَعُودُ، قَالَ: لَا نَعُودُ إِذًا»[٣].
هذا يدلّ على أنّ حقيقة الأنساب معلومة للّه فقطّ، ولا يمكن العلم بها إلا بنصّ من خليفته في الأرض؛ خاصّة في الزمان الحاضر بعد أن مرّت قرون عديدة منذ عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وسهل الكذب والتدليس في الإنتساب إليه، ولا شكّ أنّ كثيرًا من غير الهاشميّين دسّوا أنفسهم بين الهاشميّين طمعًا، ولعلّ بعضهم لم يتعمّدوا الكذب والتدليس، ولكن شبّه لهم بسبب اختلاط القبائل على مرّ القرون؛ كما خفي نسب بعض الهاشميّين أيضًا لأسباب مختلفة؛ منها أنّ بعضهم عملوا بالتقيّة فأظهروا أنفسهم غير هاشميّين خوفًا من بني أميّة وسائر النواصب الذين يبغضون بني هاشم ويؤذونهم، ومنها أنّ بعضهم كانوا أمّيّين يتهاونون في حفظ أنسابهم حتّى شكّ الناس فيها أو أنكروها؛ كما قال ابن عنبة (ت٨٢٨هـ) في بني جعفر الطيّار: «أكثرهم يجهلون أنسابهم ولا يعرفون اتّصالهم ويكتفون أنّهم من ولد جعفر الطيّار»[٤]، وقد كان فيهم من اختلف النسّابون في صحّة نسبه، واللّه يعلم أيّ الفريقين أصاب وأيّهما أخطأ؛ كما قال ابن عنبة: «قد نصّ الشيخ أبو الحسن العمريّ وشيخه شيخ الشرف العبيدليّ على انقراض معاوية بن عبد اللّه بن الجواد بن جعفر بن أبي طالب وأنّه لم يبق له بقيّة، وقال الشيخ أبو عبد اللّه الحسين بن محمّد بن طباطبا الحسنيّ: بل له بقيّة من ولده بأصفهان وغيرها من الجبال»[٥]، وقال ابن عنبة: «من ولد زيد بن الحسن الصدريّ أبو عبد اللّه محمّد يعرف بالجمالان بن عبد اللّه بن الحسن بن زيد، له ولد ببغداد، وبنو جمالان بالحلّة يزعمون أنّهم من ولد محمّد بن زيد هذا، وقد قيل: أنّ نسبهم مفتعل، واللّه أعلم»[٦]، وقال أبو نصر البخاريّ (تنحو٣٤١هـ): «أجمع أهل النسب على أنّ عليّ بن محمّد بن جعفر عليه السلام أعقب، واختلفوا في جعفر بن محمّد بن جعفر عليه السلام»[٧]، وقال: «كثير من العلماء يتوقّفون في عقب محمّد بن عليّ، ولا يقولون أعقب جعفر بن محمّد الأصغر»[٨]، وقد كان فيهم من اختلف قومه في صحّة نسبه، واللّه يعلم أيّ الفريقين أصاب وأيّهما أخطأ؛ كما قال البلاذريّ (ت٢٧٩هـ): «أتى عبد اللّه بن جعفر رجل يقال له المسور، فذكر أنّه ابن عون بن جعفر، فوهب له عشرة آلاف درهم وزوّجه ابنة له عمياء، فماتت ولم يجتمعا، ثمّ إن ولد عبد اللّه بن جعفر نفوه وطردوه، وكان له ولد بالمدائن لا ينسبون إلى قريش ولا تنكحهم الأشراف، وكان ممّن حمل عنه الحديث أبو جعفر المدائنيّ، وكان يقال له عبد اللّه بن مسور بن عون بن جعفر»[٩]، وهذا بغضّ النظر عن الأسباب العاديّة الشائعة بين الناس لخفاء أنسابهم؛ كرجل لقيط لا يُعرف والداه وقد طرحاه خشية إملاق، ورجل لا يولد له فيتبنّى يتيمًا ولا يخبره بأنّه ليس من ولده، ورجل وجيه يتزوّج امرأة سرًّا فيجحد ولدها مخافة الشناعة، ورجل يتّخذ زوجة أخرى فيخفيها ويخفي ولدها خوفًا من زوجته الأولى حتّى إذا حضره الموت أقرّ بهما وأوصى لهما فأنكر ذلك ورثته ليستأثروا بالميراث، ورجل غريب يتزوّج امرأة متعة ثمّ يفارقها إلى بلده فتلد المرأة وهو لا يعلم، ورجل يتّهم امرأته فيلاعنها وينفي ولدها وهي بريئة، وغير ذلك من الأسباب التي تخفي أنساب الناس عليهم من دون أن تخلّ بها عند اللّه.
هذا كلّه دليل على أنّ حقيقة الأنساب معلومة للّه فقطّ، ولا يمكن العلم بها إلا من طريق الوحي، ولكن ليس من الواجب العلم بها، بل الملاك هو الظاهر المشهور، ولا يجوز إساءة الظنّ بالظاهر المشهور من أنساب الناس ما لم يكن هناك دليل أو شاهد على خلافه، ولا يجوز التجسّس. هذا بالنسبة إلى الأحكام، مثل الخمس والزكاة والميراث؛ لتعذّر العلم فيها، ولزوم الحرج بالنظر إلى كثرة مصاديقها، وخفّة الضرر المترتّب عن الخطأ فيها، وأمّا بالنسبة إلى العقائد مثل النبوّة والإمامة والخلافة وغيرها من المناصب الإلهيّة فلا يكفي الظاهر المشهور من الأنساب؛ لأنّه أمر ظنّيّ، والمطلوب في العقائد العلم؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾[١٠] وقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾[١١]، وعليه فلا يجوز تصديق من يدّعي نبوّة أو إمامة أو خلافة أو غيرها من المناصب الإلهيّة استنادًا إلى الظاهر المشهور من نسبه؛ كما لا يجوز تكذيبه استنادًا إلى ذلك؛ لأنّ ذلك أمر ظنّيّ، ولا يجوز في العقائد التعويل على الأمور الظنّيّة، والمعوّل فيها على ما يفيد اليقين كآية من اللّه أو نصّ من خليفته، ومن هذا يظهر وجه خطأ اليهود الذي هلكوا به؛ فإنّهم كذّبوا محمّدًا صلّى اللّه عليه وآله وسلّم استنادًا إلى الظاهر المشهور من نسبه، وهو انتسابه إلى إسماعيل عليه السلام، وهم يعتقدون أنّ النبيّ الخاتم لا بدّ أن يكون من ولد إسحاق عليه السلام، ولو كانوا حكماء لعلموا أنّ الظاهر المشهور من نسبه أمر ظنّيّ؛ كما قيل: «إنّما حفظت العرب من أنسابها إلى أُدد»[١٢]، ولذلك روي «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا انْتَسَبَ لَمْ يُجَاوِزْ فِي نَسَبِهِ مَعَدَّ بْنَ عَدْنَانَ بْنِ أُدَدَ، ثُمَّ يُمْسِكُ وَيَقُولُ: كَذَبَ النَّسَّابُونَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ شَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْلَمَهُ لَعَلِمَهُ»[١٣]، وقال عليّ بن زيد البيهقيّ (ت٥٦٥هـ) في «لباب الأنساب والألقاب والأعقاب»: «وقال قوم: إنّ جدّ المصطفى عليه السلام هو إسحاق لا إسماعيل؛ لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ذكر أنسابه إلى معد بن عدنان ووقف، وقال عليه السلام: كذب النسّابون بعد ذلك»[١٤]، وهذا إن صحّ يدلّ على وجود الإختلاف بين المسلمين في نسب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم هل هو من ولد إسماعيل أو من ولد إسحاق عليهما السلام، وهذا يكفي لتحفّظ اليهود من تكذيبه لو كانوا على بيّنة من أنّ النبيّ الخاتم لا بدّ أن يكون من ولد إسحاق عليه السلام، بل كان الواجب عليهم أن يصدّقوه استنادًا إلى آياته من عند اللّه بغضّ النظر عن الظاهر المشهور من نسبه، ثمّ يلحقوا بفريق من المسلمين الذين يعتقدون أنّه من ولد إسحاق عليه السلام، لكنّهم لم يكونوا حكماء فاختاروا أبعد الطرق من الصواب!
الحاصل أنّ العلم بحقيقة الأنساب عند اللّه وخليفته، لكنّه غير ضروريّ فيما يرجع إلى الأحكام مثل الخمس والزكاة والميراث، بل يكفي فيها الإطمئنان العقلائيّ المستند إلى الإستفاضة أو شجرة النسب، وأمّا فيما يرجع إلى العقائد فلا بدّ من العلم بحقيقة الأنساب، وهو يحصل بآية من اللّه أو نصّ من خليفته، ولا يحصل بالإستفاضة أو شجرة النسب، فضلًا عن مجرّد الإدّعاء، وهذا مراد السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى بقوله الذي أخبرنا به بعض أصحابنا، قال:
قُلْتُ لَهُ: إِذَا جَاءَنِي رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ بِمَاذَا أَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ عِتْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُلْدِ فَاطِمَةَ؟! فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَتُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَ مِنَ الْقَفَا؟! لَا تَعْلَمُ ذَلِكَ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ! ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْمَهْدِيَّ إِذَا جَاءَ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ، مَعَهُ آيَةٌ مِنَ اللَّهِ وَآيَةٌ مِنْ رَسُولِهِ!