ما حكم شروط الزوجين قبل النكاح؟ هل يجوز أن يتّفقا على إسقاط بعض حقوقهما أو واجباتهما الشرعيّة؟ كما إذا شرط الزوج أنّه لا يبقى مع الزوجة لوقت طويل، وإنّما يكون معها لفترة قصيرة من السنة؛ لأنّ لديه أعمال ومسؤوليّات أخرى؛ كما لا يريد أن يكون له ولد لنفس السبب، ورضيت الزوجة بذلك. فهل تصحّ هذه الشروط شرعًا؟ وهل يجوز للزوجة تغيير رأيها بعد النكاح؟
إنّ اللّه تعالى قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾[١]، وقال: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾[٢]، وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ»[٣]، وقال: «إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ»[٤]، وهذا يقتضي وجوب عمل الزوجين بكلّ ما تشارطا عليه قبل النكاح، ويُستثنى منه ما نهى عنه الشرع؛ إذ ليس لهما التواطؤ على معصية اللّه؛ كما قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ﴾[٥]، وعهد اللّه ما لا يخالف حكمه، وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ فِيمَا أُحِلَّ»[٦]، وفي رواية أخرى: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ مَا وَافَقَ الْحَقَّ»[٧]، وهذا يقتضي بطلان كلّ شرط يخالف الشرع؛ كما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟! مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ»[٨]، وعليه فإذا شرط أحد الزوجين فعل ما لا يحلّ فعله شرعًا بطل شرطه بلا خلاف بين أهل العلم، ولكن كيف يكون إذا شرط ترك ما يحلّ فعله شرعًا، كما إذا شرط الزوج أن لا يخرج الزوجة من بلدها أو لا يتزّوج عليها؟ فيه خلاف بين أهل العلم؛ فقال فريق منهم بأنّ شرطه باطل أيضًا؛ لأنّه يحرّم ما أحلّ اللّه له، وقد قال اللّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[٩]، وفي رواية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا»[١٠]، وبهذا قال عطاء، وسعيد بن المسيّب، والحسن البصريّ، وإياس بن معاوية، وابن سيرين، والشعبيّ، والنخعيّ، والزهريّ، وقتادة، وهشام بن هبيرة، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، وسفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، وفيه أنّ الشروط لا تخلو من تحليل حرام أو تحريم حلال، وهي باطلة في الحالة الأولى بلا خلاف، ولو كانت باطلة في الحالة الثانية أيضًا لم يصحّ للناس شرط، فلا معنى للقول بأنّ المسلمين عند شروطهم، وقال آخرون بأنّ شرطه صحيح؛ لأنّه شرط ما يحلّ في الشرع، وهو ترك إخراج الزوجة من بلدها أو ترك التزوّج عليها، وقول اللّه تعالى للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نهيه عن الشرط، وليس بإبطاله؛ كأنّه قال: «لا تشترط لأزواجك ترك ما أحلّ اللّه لك»، والرواية ضعيفة الإسناد؛ لأنّها رواية كثير بن عبد اللّه المزنيّ، وهو متروك الحديث، وقد عارضتها الرواية الأخرى: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ فِيمَا أُحِلَّ»، وبهذا قال جعفر بن محمّد، وجابر بن زيد، وطاووس، وابن شريح، وابن شبرمة، والأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، وهو الحقّ، إلّا أنّ فيه تفصيلًا، وهو أنّ الشرط صحيح مادام موافقًا للشرع؛ فإذا صار مخالفًا للشرع بطل، وإن كان صحيحًا حين العقد؛ كما إذا انعدم الأمن في بلد الزوجة، وقد شرط الزوج أن لا يخرجها منه، فله أن يخرجها؛ لأنّ في ترك ذلك ضررًا، ولا ضرر في الإسلام، أو نشزت الزوجة، وقد شرط الزوج أن لا يتزوّج عليها، فله أن يتزوّج عليها؛ لأنّ في ترك ذلك حرجًا، ولا حرج في الإسلام، وإن شئت قلت أنّ الشرط يقيّد بالشرع وإن كان مطلقًا، وهذا قول السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
قُلْتُ لِلْمَنْصُورِ: شَرَطْتُ لِامْرَأَتِي أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، قَالَ: بِئْسَمَا صَنَعْتَ، وَعَلَيْكَ الْوَفَاءُ لَهَا، إِلَّا أَنْ تَغِيبَ أَوْ تَنْشُزَ أَوْ تَعْقِمَ، قُلْتُ: فَإِنْ فَعَلَتْ بَعْضَ ذَلِكَ فَلِيَ أَنْ أَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا؟! قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَلَسْتُ قَدْ أَطْلَقْتُ لَهَا؟! قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَيَّدَ.
بناء على هذا، فإنّ الشرط إذا ألزم بما يحلّ فعله شرعًا أو منع ممّا يحلّ تركه شرعًا فهو صحيح؛ لأنّه لا يخالف الشرع، ولكنّه إذا ألزم بما لا يحلّ فعله شرعًا أو منع ممّا لا يحلّ تركه شرعًا فهو باطل؛ لأنّه يخالف الشرع، وكذلك إذا بدّل حكمًا من أحكامه الوضعيّة؛ كما إذا شرط الزوج أن يكون الطلاق بيد الزوجة، وقد جعله الشرع بيد الزوج، فكان باطلًا.
أمّا شرط الزوج أن لا يكون مع الزوجة بعض عام فصحيح، إذا كان لطلب رزق أو علم أو غير ذلك ممّا يحلّ في الشرع، ولم يكن أكثر من أربعة أشهر؛ لأنّه إذا كان أكثر من أربعة أشهر كان حرجًا، وما جعل اللّه في الدّين من حرج، والدليل على أنّه حرج قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[١١]، وقد روي عن أهل البيت، قالوا: «إِنَّهُ جَعَلَ لَهُنَّ فِي الْإِيْلَاءِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ غَايَةُ صَبْرِ النِّسَاءِ عَنِ الرِّجَالِ»[١٢]، وروي أنّ رجلًا سأل عليّ بن موسى الرضا عليه السلام عن رجل يكون عنده المرأة الشابّة، فيمسك عنها الأشهر والسّنة، لا يقربها، ليس يريد الإضرار بها، يكون لهم مصيبة، أيكون في ذلك آثمًا؟ قال: «إِذَا تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ كَانَ آثِمًا بَعْدَ ذَلِكَ»[١٣]، والأحوط أن لا يتركها أكثر من ثلاثة أشهر؛ لأنّ اللّه أحلّ من النساء مثنى وثلاث ورباع، فجعل لكلّ امرأة يومًا من كلّ أربعة أيّام، ويكون ذلك ثلاثة أشهر من كلّ عام؛ كما روي أنّ عمر خرج ليلة يحرس، فسمع امرأة تقول: «تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ وَاخْضَلَّ جَانِبُهُ ... وَأَرَّقَنِي إِذْ لَا خَلِيلَ أُلَاعِبُهُ ... فَلَوْلَا حَذَارِ اللَّهِ لَا شَيْءَ مِثْلُهُ ... لَزُعْزِعَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهُ»! فقال عمر: «مَا لَكِ؟!» قالت: «أَغْرَبْتَ زَوْجِي مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَقَدِ اشْتَقْتُ إِلَيْهِ»، فقال: «أَرَدْتِ سُوءًا؟» قالت: «مَعَاذَ اللَّهِ»، قال: «فَامْلُكِي عَلَى نَفْسِكِ، فَإِنَّمَا هُوَ الْبَرِيدُ إِلَيْهِ»، فبعث إليه، ثمّ دخل على حفصة، فقال: «إِنِّي سَائِلُكِ عَنْ أَمْرٍ قَدْ أَهَمَّنِي، فَأَفْرِجِيهِ عَنِّي، كَمْ تَشْتَاقُ الْمَرْأَةُ إِلَى زَوْجِهَا؟» فخفضت رأسها فاستحيت، فقال: «فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ»، فأشارت ثلاثة أشهر، وإلّا فأربعة، فكتب عمر: «أَلَّا تُحْبَسَ الْجُيُوشُ فَوْقَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ»[١٤].
أمّا شرط الزوج أن لا يكون له ولد من الزوجة فغير صحيح؛ لأنّه إن أراد ترك المجامعة على الإطلاق فليس ذلك له، لما فيه من الإضرار بالزوجة ومخالفة السنّة، وإن أراد منع الحمل مع المجامعة فليس ذلك إليه حتّى يشرطه، ولكنّه إلى اللّه؛ فإذا أراد اللّه أن يخلق له ولدًا في مجامعته لم يمنعه شيء؛ كما روي عن أبي سعيد الخدريّ، قال: «لَمَّا أَصَبْنَا سَبْيَ خَيْبَرَ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْعَزْلِ، فَقَالَ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ»[١٥]، وفي رواية أخرى قال: «ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الْعَزْلُ، فَقَالَ: إِنْ قَضَى اللَّهُ شَيْئًا لَيَكُونَنَّ، وَإِنْ عَزَلَ»[١٦]، فكان أبو سعيد يقول: «لَقَدْ عَزَلْتُ عَنْ أَمَةٍ لِي، فَوَلَدَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ»[١٧]، وروي عن أبي مريم الأنصاريّ، قال: «سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: يَوْمَ آتِي فُلَانَةَ أَطْلُبُ وَلَدَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، أَلَهُ أَنْ يَأْتِيَهَا وَلَا يُنْزِلَ فِيهَا؟ فَقَالَ: إِذَا أَتَاهَا فَقَدْ طَلَبَ وَلَدَهَا»[١٨]، وروي عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع، قال: «سَأَلَ رَجُلٌ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَا أَسْمَعُ عَنِ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ مُتْعَةً، وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهَا أَلَّا يَطْلُبَ وَلَدَهَا، فَتَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ، أَفَيُنْكِرُ الْوَلَدَ؟ فَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ: يَجْحَدُ؟! وَكَيْفَ يَجْحَدُ؟! إِعْظَامًا لِذَلِكَ»[١٩]، وروي أنّ رجلًا كتب إلى بعض أهل البيت: «اسْتَحْلَلْتُ بِجَارِيَةٍ، وَشَرَطْتُ عَلَيْهَا أَنْ لَا أَطْلُبَ وَلَدَهَا، فَلَمَّا أَتَى لِذَلِكَ مُدَّةٌ قَالَتْ لِي: قَدْ حَبِلْتُ، فَقُلْتُ لَهَا: كَيْفَ؟! وَلَا أَعْلَمُ أَنِّي طَلَبْتُ مِنْكَ الْوَلَدَ! ثُمَّ غِبْتُ وَانْصَرَفْتُ وَقَدْ أَتَتْ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ»، فخرج الجواب: «أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي اسْتَحَلَّ بِالْجَارِيَةِ وَشَرَطَ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَطْلُبَ وَلَدَهَا، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي قُدْرَتِهِ، شَرْطُهُ عَلَى الْجَارِيَةِ شَرْطٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، هَذَا مَا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ، وَحَيْثُ عَرَضَ لَهُ فِي هَذَا الشَّكُّ وَلَيْسَ يَعْرِفُ الْوَقْتَ الَّذِي أَتَاهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبٍ لِلْبَرَاءَةِ مِنْ وَلَدِهِ»[٢٠]؛ بالإضافة إلى أنّه لا يحلّ منع الحمل بطريقة دائمة؛ لأنّه تغيير خلق اللّه؛ فلا يصحّ هذا الشرط.