ما رأي السيّد العلامة المنصور الهاشمي الخراساني في الصحابة؟ أيرى كما يرى أهل السنّة أنّهم كانوا عدولًا، أم يرى كما يرى الشيعة أنّهم كانوا مرتدّين؟ بالتحديد ماذا يرى حول أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة؟ الرجاء بيان رأيه فيهم بغير تقيّة؛ لأنّ بعض آرائه تقارب آراء الشيعة، وبعض آرائه تقارب آراء السنّة، ولم يتبيّن لنا من أيّ الحزبين هو!
إنّ السيّد العلامة المنصور الهاشمي الخراساني حفظه اللّه تعالى هو من حزب اللّه ورسوله، وليس من حزب الشيعة أو حزب السنّة، ولذلك يجتهد في معرفة الدّين الخالص في ضوء كتاب اللّه وسنّة رسوله، بغضّ النظر عن آراء المذاهب، وهذا قد يجعل بعض آرائه أقرب إلى آراء الشيعة، وبعض آرائه أقرب إلى آراء السنّة؛ لأنّه قد يكون بعض آراء الشيعة أقرب إلى كتاب اللّه وسنّة رسوله من آراء السنّة، وبعض آراء السنّة أقرب إلى كتاب اللّه وسنّة رسوله من آراء الشيعة، ولذلك لا يمكن اعتباره شيعيًّا لقرابة بعض آرائه إلى آراء الشيعة، ولا اعتباره سنّيًّا لقرابة بعض آرائه إلى آراء السنّة. هذا ما أراد بقوله في كتاب «العودة إلى الإسلام»: «إنّني لست شيعيًّا أو سنّيًّا بالمعنى الشائع، لكنّني مثال لمسلم حنيف يدعو إلى الإسلام ويقتدي في هذا الصّدد بإبراهيم عليه السّلام الذي قال اللّه تعالى فيه: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[١]»[٢]. إنّه من الذين وصفهم اللّه في كتابه، فقال: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[٣]، ولذلك يستمع إلى آراء المذاهب كلّها، فيتّبع أحسنها بلا تحيّز، ومن الواضح أنّ أحسنها هو أقربها إلى كتاب اللّه وسنّة رسوله، وليس بالضرورة أقربها إلى آراء أكثر النّاس؛ لأنّه من الممكن أن يكون آراء أكثر النّاس غير صحيحة، بل قد كان الغالب عليها عدم الصحّة؛ كما قال اللّه: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾[٤]، وقال: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ ۖ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾[٥]، وقال: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾[٦]، ولذلك حذّر من تقليد الأكثريّة، فقال: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾[٧].
هذا هو الأدب الذي يجب أن يتأدّب به كلّ مسلم، وقد تأدّب به السيّد العلامة المنصور الهاشمي الخراساني حفظه اللّه تعالى؛ كما قيل له حول رأيه في الخلافة: «وَاللَّهِ لَمْ تَقُلْ شَيْئًا إِلَّا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، لَكِنَّهُ عِنْدَهُمْ رَفْضٌ»، فقال: «لَا أُبَالِي مَا هُوَ عِنْدَهُمْ بَعْدَ أَنْ قُلْتُهُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ»[٨]، وقال في بعض كلامه:
بَلَغَنِي أَنَّ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيَّ -وَهُوَ مِمَّنْ يُعَظِّمُونَهُ- كَانَ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَعْرِابِيٌّ، فَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: «لَعَلَّكَ قَدَرِيٌّ»! قَالَ: وَمَا الْقَدَرِيُّ؟! فَأَخْبَرَهُ بِمَحَاسِنِ قَوْلِهِمْ، فَقَالَ: أَنَا ذَاكَ! ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِمَا يَعِيبُ النَّاسُ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَقَالَ: لَسْتُ بِذَاكَ! ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِمَحَاسِنِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ: أَنَا ذَاكَ! ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِمَا يَعِيبُ النَّاسُ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَقَالَ: لَسْتُ بِذَاكَ! فَقَالَ أَيُّوبُ: «هَكَذَا يَفْعَلُ الْعَاقِلُ، يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَحْسَنَهُ!»[٩]
هذه هي طريقة الأحرار، وقد اتّخذها هذا العبد الصالح طريقة في آرائه كلّها، وليس رأيه في الصحابة بمستثنى منها. إنّه يرى الصحابة كما وصفهم اللّه ورسوله، وقد وصفهم اللّه ورسوله وصفًا بين الوصفين السنّيّ والشيعيّ. الوصف السنّيّ هو وصف الصحابة بأنّهم جميعًا كانوا عدولًا، بل فوق عدول؛ لأنّ العدول قد ينسون ويخطئون ويذنبون، ومنهم من يفسق بعد أن كان عادلًا، ولكنّ الصحابة كانوا لا يريدون إلّا الخير، ولا يقولون إلّا الحقّ، ولا يفعلون إلّا ما يؤدّي إليه اجتهادهم في القرآن والسنّة، ولذلك ينبغي اتّباعهم، ولا يجوز انتقاد أحدهم، والوصف الشيعيّ هو وصف الصحابة بأنّ كثيرًا منهم بما فيهم المهاجرون والأنصار والبدريّون كانوا أهل نفاق ومؤامرة، وهم جميعًا ارتدّوا بعد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لامتناعهم عن بيعة عليّ إلّا ثلاثة أو أربعة منهم، ولذلك ينبغي البراءة منهم، بل لعنهم! لا شكّ أنّ كلا الوصفين مخالف للعقل السليم ومخالف للقرآن والسنّة؛ أحدهما بالإفراط، والآخر بالتفريط.
الوصف المعقول الموافق للقرآن والسنّة هو الوصف المعتدل؛ كما يقال: «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا»، وهو أنّ الصحابة بمعنى المسلمين الذين صاحبوا النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، من حيث أنّهم سبقوا في الإيمان به، ونصروه بأموالهم وأنفسهم، ودافعوا عنه في ساعة العسرة، وتلقّوا منه كتاب اللّه ونقلوه إلى اللاحقين، لهم حقّ عظيم على الأمّة، ولذلك يجب احترامهم، وحسن الظنّ بهم، والإستغفار لهم، ومن حيث أنّهم كانوا بشرًا غير معصومين، كان قد يصدر منهم نسيان وخطأ وذنب وكلّ ما قد يصدر من غير معصوم، ولذلك لا يجوز تقليدهم، ويجوز انتقادهم بلهجة علميّة، مع احترامهم، وحسن الظنّ بهم، والإستغفار لهم، وهذا هو «العدل» الذي يأمر به السيّد العلامة حفظه اللّه تعالى؛ كما قال في كتاب «العودة إلى الإسلام»:
ما كانت لهم من السوابق الحسنة في الإسلام توجب حسن الظنّ بهم... بل إنّ إساءة الظنّ بهم قد تكون إثمًا؛ لأنّهم بسبب سوابقهم الحسنة في الإسلام أولى بأن يُحسَن بهم الظنّ، وقد نهى اللّه عن كثير من الظنون السّيّئة فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾[١٠]، بل أمر بإحسان الظنّ بالمسلمين فقال: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾[١١]؛ كما أنّ الإستغفار للمسلمين الأوائل عمل صالح، والحقد عليهم عمل غير صالح؛ لقول اللّه تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[١٢]. لذلك، يجب أن يُحمل أعمال أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على أحسن وجه ممكن... نعم، حمل أعمالهم على ما لا يمكن كذب، وهو غير جائز.[١٣]
وقال في موضع آخر:
يبدو أنّ الكثير من المسلمين يتعمّدون البناء على هذا الخداع الذاتيّ، ويحسبون أنّهم ملزمون بتبرئة القرون الأولى من أيّ خطأ حتّى باستخدام الكذب، في حين أنّه من المسلّم به أنّ الخداع الذاتيّ والكذب لا مكان لهما في الإسلام... بل أقصى واجب يمكن استنباطه من العقل والشّرع في هذا الصّدد، هو احترام المسلمين الأوائل على غرار احترام الوالدين، لا تبرئتهم من أيّ خطأ ارتكبوه؛ لأنّ الإنتباه لأخطاء الوالدين لا يستلزم عدم احترامهما، بل يمكن انتقادهما على أخطائهما دون إخلال باحترامهما؛ مثل إبراهيم عليه السّلام الذي انتقد أباه على أخطائه دون إخلال باحترامه؛ كما أخبر اللّه عنه تعليمًا للمسلمين فقال: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾[١٤]؛ كما أنّ احترام شخص ما لا يستلزم طاعة عمياء له، ولهذا السّبب قد أذن اللّه بعصيان الوالدين، ولم يأذن بعدم احترامهما، فقال: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾[١٥]. من هنا يعلم أنّه يمكن احترام المسلمين الأوائل، وفي نفس الوقت التنبيه على أخطائهم وعدم اتّباعهم فيها.[١٦]
وقال في موضع آخر:
إنّهم مع مصاحبتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، كانوا بشرًا عاديّين معرّضين للخطأ والنسيان، ولم تثبت عصمتهم بأيّ شيء من الشّرع، بل عدم عصمتهم واضح بالنّظر إلى اختلاف بعضهم مع بعض، والظاهر عدم خلاف بين المسلمين في ذلك. كما أنّ عدالة جميعهم، إذا كانت بمعنى عدم فسق أحد منهم، مردودة بالنّظر إلى ظهور الفسق من بعضهم بسبب ارتكابهم كبائر مبيّنة لا يمكن تأويلها، مثل القتل، والبغي، والزنا، والسرقة، والقذف، وشرب الخمر، والفرار من الجهاد، والكذب على اللّه ورسوله؛ لدرجة أنّ الإصرار عليها يعتبر مكابرة في شيء محسوس؛ كما أنّه تكذيب لكلام اللّه فيهم وافتراء عليه؛ لأنّه وإن كان قد مدح كثيرًا منهم لأعمالهم الصّالحة، إلّا أنّه لم يعدّلهم جميعًا إلى الأبد وبدون قيد أو شرط، وقد كان منزّهًا عن مثل هذا الفعل غير المعقول والكذب العظيم، بل قد عاتب ووبّخ بعضهم على أعمالهم السّيّئة بصراحة؛ كما اعتبر فريقًا منهم مذنبين ﴿اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾[١٧]، وأخبر عن زلّة فريق منهم ﴿اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾[١٨]، وصرّح بأنّ منهم من يريد الدّنيا فقطّ[١٩]، وأخبر عن فريق منهم أسلموا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم[٢٠]، وفضح ما كان عليه بعضهم من العلاقة الودّيّة والسرّيّة بأعداء الإسلام، واعتبرهم ضالّين بسبب ذلك[٢١]، وأخبر عن فريق منهم ﴿يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾[٢٢]، وفريق منهم يلمزون النّبيّ في الصّدقات، ﴿فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾[٢٣]، وفريق منهم ﴿يُؤْذُونَ النَّبِيَّ﴾[٢٤]، وفريق منهم ﴿مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾، يعلمهم اللّه ولا يعلمهم حتّى النّبيّ[٢٥]، وأخبر عن احتمال ارتداد بعضهم من بعده[٢٦]، ووجود زناة وسرّاق فيهم[٢٧]، وأخبر عن عصبة منهم ﴿جَاءُوا بِالْإِفْكِ﴾ على بعض أزواج النّبيّ، وصرّح بأنّ ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[٢٨]، وصرّح بأنّ بعضهم لا يعقلون[٢٩]، وأنّ فيهم فسّاقًا[٣٠]، وأدان بعضهم ممّن كنّ من أزواجه بمعصيته وإفشاء سرّه[٣١] وربما التظاهر عليه[٣٢]، وضرب فيهنّ مثلًا بامرأة نوح وامرأة لوط عليهما السّلام[٣٣]، واعتبر عذابهنّ ضعفين إذا أتين بفاحشة مبيّنة[٣٤]. من الواضح أنّ معرفة أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من دون الإلتفات إلى هذا الجزء من كلام اللّه فيهم، ومع الإلتفات فقطّ إلى الجزء الآخر الذي هو في مدحهم، ناقصة ومضلّلة؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾[٣٥]. من هنا يعلم أنّ احترام أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وإن كان عملًا صالحًا بالنّظر إلى خدماتهم له، لا يعني أبدًا تجاهل بعض كلام اللّه والكذبَ فيهم، ومن الواضح أنّ الإعتراف بأخطائهم استنادًا إلى العقل والشّرع لا يعتبر عدم احترامهم، بل هو احترام العقل والشّرع، وعدم احترامهم هو سبّهم الذي يعتبر عملًا قبيحًا وغير جائز في العقل والشّرع.[٣٦]
لذلك، يجب على السنّة أن يتّقوا اللّه، ويكفّوا عن الغلوّ في الصحابة، ولا يتّخذوهم أربابًا من دون اللّه، ولا يقلّدوهم كما يقلّدون النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ولا يتعصّبوا لهم، بل يقتدوا بمحسنهم في إحسانه، ولا يقتدوا بمخطئهم في خطيئته؛ كما أمرهم اللّه بذلك، فقال: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[٣٧]؛ نظرًا لأنّه قيّد الإتّباع المحمود للصحابة بقيدين: أحدهما ﴿السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾، وهم فريق من الصحابة، وليسوا جميعهم، وهذا يعني أنّه لم يستحسن اتّباع جميع الصحابة، وإنّما استحسن اتّباع فريق منهم آمنوا وهاجروا أو نصروا في الزمن الأوّل، حينما كان الإسلام في ضعف وغربة، وكان المسلمون في خوف وشدّة، ولا يؤمن ولا يهاجر ولا ينصر إلّا كلّ مخلص صابر؛ كما فسّر اللّه ذلك، فقال: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[٣٨]، ويرى السيّد العلامة حفظه اللّه تعالى أنّهم فريق من المهاجرين والأنصار آمنوا قبل الحديبيّة؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾، فَقَالَ: هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا قَبْلَ الْحُدَيْبِيَّةِ، وَكَانَ الْحُدَيْبِيَّةُ فَتْحًا مُبِينًا، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾[٣٩].[٤٠]
هذا يعني أنّ اللّه لم يسوّ بين الصحابة في الفضيلة، ولم ير جميعهم أهلًا لأن يُتّبعوا، بل استحسن اتّباع السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار فقطّ، وبذلك يخرج الذين آمنوا منهم بعد الحديبيّة؛ كأمثال معاوية، وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعبد اللّه بن عمرو، وأبي هريرة، وأبي موسى الأشعريّ؛ لأنّهم لم يكونوا من السابقين الأوّلين، وإنّما آمنوا بعد الصلح، والإيمان بعد الصلح قد تشوبه الشوائب، بل يظهر من القرآن والسنّة أنّهم كانوا بمنزلة التابعين، وإنّما أُطلق عليهم الصحابة توسّعًا؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
ذُكِرَ عِنْدَ الْمَنْصُورِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، فَقَالَ: مَنِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ عِنْدَكُمْ؟ قُلْتُ: الصَّحَابَةُ عِنْدَنَا مَنْ صَاحَبَ النَّبِيَّ، وَالتَّابِعُونَ عِنْدَنَا مَنْ صَاحَبَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُصَاحِبِ النَّبِيَّ، فَقَالَ: لَكِنَّ الصَّحَابَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا أَوْ نَصَرُوا قَبْلَ الْفَتْحِ، وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ هُمُ التَّابِعُونَ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ﴾.[٤١]
وممّا يؤيّد هذا أنّ مجاشع بن مسعود أتى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بابن أخٍ له يبايعه على الهجرة، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «لَا، بَلْ يُبَايِعُ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَيَكُونُ مِنَ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ»[٤٢]، فصرّح بأنّ من بايعه بعد الفتح هو من التابعين، والأكثر منه صراحة ما روي من أنّه كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرّحمن بن عوف شيء، فسبّه خالد، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ»[٤٣]، فهذا ظاهر في أنّه ما كان يعتبر خالدًا من أصحابه؛ لأنّه آمن بعد الحديبيّة، وكان يعتبر عبد الرّحمن بن عوف من أصحابه؛ لأنّه آمن قبل دخوله دار الأرقم في مكّة. هذا أحد القيدين اللذين قيّد اللّه بهما اتّباع الصحابة، والقيد الآخر اتّباعهم ﴿بِإِحْسَانٍ﴾، وهو اتّباعهم في حسناتهم دون سيّئاتهم، ومن الواضح أنّ سيّئاتهم ما قالوه أو فعلوه خلافًا للقرآن والسنّة، وهذا يستلزم النظر في أقوالهم وأفعالهم بعين الإنتقاد لمعرفة ما وافق منها القرآن والسنّة ممّا خالف، وقد جاء عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ما يدلّ على ذلك بصراحة، وهو أنّه قال: «تَكُونُ لِأَصْحَابِي بَعْدِي زَلَّةٌ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ لِسَابِقَتِهِمْ، إِنِ اقْتَدَى بِهِمْ قَوْمٌ مِنْ بَعْدِهِمْ أَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ»[٤٤]، ولذلك قد ضلّ الذين سوّوا بين الصحابة في العدالة، وصوّبوا جميع أقوالهم، وبرّروا جميع أفعالهم، وصحّحوا جميع رواياتهم، بدون نظر فيها، وتجاهلوا اختلافاتهم فيها، وزعموا أنّ كلّ نظر في أقوالهم أو أفعالهم أو رواياتهم أو اختلافاتهم مذموم يتنافى مع احترامهم ويؤدّي إلى الرفض والضلال، مع أنّ اللّه قد أمر صراحة بالنظر في أحوال الماضين، ولم يستثن منهم الصحابة؛ كما بيّن ذلك السيّد العلامة حفظه اللّه تعالى في كتاب «العودة إلى الإسلام»، حيث قال:
يجب عليهم أن ينظروا في أحوال آبائهم من بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حتّى الآن، ويعتبروا بغفلاتهم وأخطائهم التي فوّتت عليهم إقامة الإسلام في زمانهم، ليقيموا منه بهذه الطريقة ما لم تتيسّر إقامته حتّى الآن، ويعودوا إليه بعد فترة طال أمدها؛ كما أمر اللّه بذلك فقال: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ﴾[٤٥]، وقال: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾[٤٦]؛ على رغم الذين يعتبرون بسفاهة وتعسّف أنّ النّظر في أحوال الماضين غير حسن، ويحسبونه داعيًا لانتهاك حرمتهم وضلال المسلمين، ليصدّوهم عن معرفة الحقّ ويبقوهم في الوهم والجهل بمكرهم هذا.[٤٧]
وقال في بيان «أسباب الجهل بالإسلام»:
منها أنّهم يحترزون من النّظر في تاريخ الإسلام وينهون عن ذلك، بل يكتمون بعض حقائقه أو يحرّفونها عن عمد، مخافة أن يضلّوا بالإطّلاع عليه، مع أنّهم لا يهتدون إلّا بالإطّلاع عليه.[٤٨]
هذا ما يجب على السنّة، وأمّا الشيعة فيجب عليهم أن يتّقوا اللّه، ويكفّوا عن التفريط في الصحابة، ولا يتجاهلوا خدماتهم للإسلام في تلك الأيّام الحرجة، ممّا أدّت إلى غلبة الإيمان على الكفر، والتوحيد على الشرك، وانتشار القرآن والسنّة في العالم، ويستغفروا للذين أخطؤوا منهم بدلًا من لعنهم والبراءة منهم؛ كما أمرهم اللّه بذلك، فقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[٤٩]؛ نظرًا لأنّه أمر الذين جاؤوا من بعدهم بأن يستغفروا لهم، ولا يحملوا في قلوبهم غلًّا لهم، ومن الواضح أنّ البراءة غاية الغلّ، واللعن نقيض الإستغفار، ولذلك لا يجوز لعن أحد من المهاجرين والأنصار، ولا البراءة منه، وإن كان ممّن أخطأ بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؛ لأنّ اللّه قد أمر بالإستغفار لهم وهو يعلم ما يفعلون بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ولو شاء لخصّص قوله بصراحة، ولكنّه لم يفعل، ولا يجوز تخصيص قوله بشيء من الروايات حسبما بيّنه السيّد العلامة حفظه اللّه تعالى في كتاب «العودة إلى الإسلام»[٥٠]، وهذا ما صرّح به ابن عبّاس إذ قال: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَمَرَ بِالْإِسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَيَقْتَتِلُونَ وَيُحْدِثُونَ»[٥١]، ولذلك يجب الإستغفار لمن كان من المهاجرين والأنصار، وإن كان خاطئًا في بعض أقواله وأفعاله؛ كما أُخبرنا أنّ رجلًا سأل السيّد العلامة حفظه اللّه تعالى عن رجل من الصحابة أحدث بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أحداثًا، فقال: «أَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟» قال: نعم، قال: «اسْتَغْفِرْ لَهُ»، قال: كيف أستغفر له، وقد فعل بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ما فعل؟! قال: «وَهَلْ يُسْتَغْفَرُ إِلَّا لِمَنْ أَذْنَبَ؟!»[٥٢]
هذه هي طريقة السيّد العلامة المنصور الهاشمي الخراساني حفظه اللّه تعالى، وقد أخذها من سيرة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في حاطب بن أبي بلتعة؛ كما روي عن عليّ، قال: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ، فَخَرَجْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا، فَإِذَا نَحْنُ بِظَعِينَةٍ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَقُلْنَا لَهَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ بِمَكَّةَ، يُخْبِرُ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: مَا هَذَا يَا حَاطِبُ؟! قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَاتِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي بِمَكَّةَ قَرَابَةٌ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا، وَوَاللَّهِ مَا فَعَلْتُهُ كُفْرًا، وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ قَدْ صَدَقَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ، لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»[٥٣]. هذا دليل واضح على أنّ السوابق الحسنة للمهاجرين والأنصار لا تُنسى بسبب أعمالهم السيّئة، وإن كانت في الشناعة مثل أعمال المنافقين. هذا هو الحقّ الذي قال به أهل البيت استنانًا بالنبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ويقول به السيّد العلامة حفظه اللّه تعالى؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
دَخَلَ عَلَى الْمَنْصُورِ رَجُلٌ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيِّ الْبِلَادِ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ إِيرَانَ، فَقَالَ: أَنْتَ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ شِيعَةُ أَهْلِ الْبَيْتِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اجْلِسْ، فَسَأُجِيبُكَ عَمَّا سَأَلْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى دَخَلَ النَّاسُ وَازْدَحَمُوا فِي الْبَيْتِ، فَكَلَّمَهُمُ الْمَنْصُورُ فِيمَا يَشَاءُ، ثُمَّ قَالَ: قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَجَلَسُوا إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَذَكَرُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَمَسُّوا مِنْهُمَا، ثُمَّ ابْتَرَكُوا فِي عُثْمَانَ ابْتِرَاكًا، فَقَالَ لَهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: أَخْبِرُونِي أَنْتُمْ مِنَ ﴿الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾[٥٤]؟! قَالُوا: لَسْنَا مِنْهُمْ، قَالَ: فَأَنْتُمْ مِنَ ﴿الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾[٥٥]؟! قَالُوا: لَسْنَا مِنْهُمْ، قَالَ: أَمَّا أَنْتُمْ فَقَدْ تَبَرَّأْتُمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنْ تَكُونُوا مِنْهُمْ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْفِرْقَةِ الثَّالِثَةِ، ﴿الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[٥٦]، ثُمَّ قَالَ: قُومُوا عَنِّي، لَا قَرَّبَ اللَّهُ دُورَكُمْ![٥٧]
وقد بلغنا أنّه سُئل عن الرافضة، متى قيل لهم الرافضة؟ فقال:
كَانَ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ يُفَضِّلُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَى سَائِرِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَقُولُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِلَّا خَيْرًا، كَسَبِيلِ آبَائِهِ، فَلَمَّا ظَهَرَ بِالْكُوفَةِ فِي أَصَحَابِهِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ، سَمِعَ مِنْ بَعْضِهِمُ الطَّعْنَ عَلَيْهِمَا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَكَفُّوا عَنْ نُصْرَتِهِ وَقَالُوا: لَا نَنْصُرُكَ حَتَّى تُخْبِرَنَا بِرَأْيِكَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ اللَّذَيْنِ ظَلَمَا جَدَّكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ! فَقَالَ زَيْدٌ: لَا أَقُولُ فِيهِمَا إِلَّا خَيْرًا، وَمَا سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ فِيهِمَا إِلَّا خَيْرًا، فَرَفَضُوهُ، فَحِينَئِذٍ قِيلَ لَهُمُ الرَّافِضَةُ.[٥٨]
من هنا يعلم أنّ إهانة الصحابة، وإن كانوا من الذين تعجّلوا في أمر الخلافة، ونسوا حقّ أهل البيت فيها، لا تخالف كتاب اللّه فقطّ، بل تخالف طريقة أهل البيت أيضًا، وهذا أمر طبيعيّ؛ لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أخبر في حديث الثقلين بأنّ أهل البيت لا يفترقون عن كتاب اللّه حتّى يردوا عليه الحوض[٥٩]، ولذلك أجمعوا على احترام الصحابة بما فيهم أبو بكر وعمر؛ كما روي عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر، قال: «أَجْمَعَ بَنُو فَاطِمَةَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الْقَوْلِ»[٦٠]، وأخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لَهُمَا، فَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ لَهُمَا، وَمَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَغْفِرُ لَهُمَا، فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا مِنْكُمْ تَقِيَّةٌ! فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ مُتَّقِيًا أَحَدًا لَاتَّقَيْتُ هَذِهِ الْجَبَابِرَةَ، وَأَنَا أَلْعَنُهُمْ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ![٦١]
وأخبرنا بعض أصحابنا، قال:
دَخَلْتُ عَلَى الْمَنْصُورِ لِأَسْأَلَهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ قَوْمًا، فَصَبَرْتُ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا تَقُولُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ فَقَالَ: خَيْرًا، قُلْتُ: إِنِّي أَلْعَنُهُمَا، قَالَ: لِمَاذَا؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُمَا ظَلَمَاكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، قَالَ: وَلَكِنَّا نَسْتَغْفِرُ لَهُمَا.[٦٢]
وأخبرنا بعض أصحابنا، قال:
وَجَدْتُ الْمَنْصُورَ فِي غَارٍ، وَقَدْ هَرَبَ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَالْعَرَقُ يَسِيلُ مِنْهُ كَالْمِيزَابِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ بَكَيْتُ، فَقُلْتُ: فَعَلَ اللَّهُ بِرَجُلَيْنِ أَقَامَاكَ هَذَا الْمَقَامَ! فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، لَا تَقُلْ هَذَا، فَإِنَّهُمَا مَا عَلِمَا أَنَّ الْأَمْرَ يَبْلُغُ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلَكِنْ قُلْ: غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا، فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَكَ وَلِي وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.[٦٣]
هذا ما أمر اللّه به من الصفح الجميل، والعفو عن الناس، ودرء السيّئة بالحسنة، واعتبره ﴿مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾[٦٤]، الذي لا يُلقّاه إلّا ﴿ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾[٦٥]، وهذا هو الأدب الذي أدّب اللّه به عباده، إذ قال: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾[٦٦]، وقال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾[٦٧]، وقال: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾[٦٨]، وقد أوصى به عليّ بن أبي طالب أولاده وشيعته؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ عَلِيًّا ظَفِرَ بِمُعَاوِيَةَ يَوْمَ صِفِّينَ لَمَلَأَ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا، وَلَكِنْ مَنَعَهُ الْخَوَارِجُ، فَأَخَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ يُقَالُ لَهُ الْمَهْدِيُّ، فَسَيَخْرُجُ، فَيُحَارِبُ رَجُلًا مِنْ ذُرِّيَّةِ مُعَاوِيَةَ، فَيَظْفَرُ بِهِ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا! ثُمَّ أَخَذَ الْمَنْصُورُ فِي ذِكْرِ يَوْمِ صِفِّينَ، فَقَالَ: لَمَّا اخْتَلَفَتِ الْأَسِنَّةُ، وَمَاجَتْ لُبُودُ الْخَيْلِ، خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي جَمْعَيْنِ عَظِيمَيْنِ، فَاقْتَتَلُوا كَأَشَدِّ الْقِتَالِ، ثُمَّ إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنِ اخْرُجْ إِلَىَّ أُبَارِزُكَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ يَمْشِي، فَبَصُرَ بِهِ عَلِيٌّ، فَقَالَ: مَنْ هَذَانِ الْمُتَبَارِزَانِ؟ فَقِيلَ لَهُ: ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ عُمَرَ، فَحَرَّكَ عَلِيٌّ دَابَّتَهُ، ثُمَّ دَعَا مُحَمَّدًا، فَوَقَفَ لَهُ، فَقَالَ: أَمْسِكْ دَابَّتِي، فَأَمْسَكَهَا لَهُ، ثُمَّ مَشَى إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَنَا أُبَارِزُكَ، فَهَلُمَّ إِلَيَّ، فَقَالَ: لَيْسَ لِي فِي مُبَارَزَتِكَ حَاجَةٌ، فَرَجَعَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَخَذَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ يَقُولُ لِأَبِيهِ: مَنَعْتَنِي مِنْ مُبَارَزَتِهِ، فَوَاللَّهِ لَوْ تَرَكْتَنِي لَرَجَوْتُ أَنْ أَقْتُلَهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، لَوْ بَارَزْتُهُ أَنَا لَقَتَلْتُهُ، وَلَوْ بَارَزْتَهُ أَنْتَ لَرَجَوْتَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَمَا كُنْتُ آمَنُ أَنْ يَقْتُلَكَ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَا أَبَهْ، أَتَبْرُزُ بِنَفْسِكَ إِلَى هَذَا الْفَاسِقِ اللَّئِيمِ عَدُوِّ اللَّهِ؟ وَاللَّهِ لَوْ أَبُوهُ يَسْأَلُكَ الْمُبَارَزَةَ لَرَغِبْتُ بِكَ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، لَا تَذْكُرْ أَبَاهُ، وَلَا تَقُلْ فِيهِ إِلَّا خَيْرًا، يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَاهُ.[٦٩]
هذا هو الخلق العظيم الذي كان عليه أهل البيت؛ لأنّهم كانوا متأدّبين بأدب القرآن والسنّة، لكن للأسف قد ترك ذلك أكثر الذين يدّعون أنّهم شيعتهم، فجاهروا بلعن كثير من الصحابة، وتقرّبوا إلى اللّه بسبّهم، فأغروا بذلك العداوة والبغضاء بين المسلمين، مع أنّ اللّه لم يحلّ لهم سبّ مسلم؛ كما قال: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾[٧٠]، بل نهاهم حتّى عن سبّ الأوثان، فقال: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[٧١]، ولذلك لا يستبيح سبّ الصحابة إلّا أسفه النّاس، والأظهر من ذلك حرمة ما يقوم به بعض أشقيائهم من سبّ عائشة زوجة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؛ لأنّها بمنزلة أمّ المؤمنين، لقول اللّه تعالى: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾[٧٢]، وليس لأحد أن يسبّ أمّه، وإن بلغت من الظلم والذنب كلّ مبلغ؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾[٧٣]، ولذلك لا يجوز طاعة عائشة في أخطائها، ولكن يجب احترامها كاحترام الأمّهات؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
دَخَلَ عَلَى الْمَنْصُورِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ إِيرَانَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ، فَأَجَابَهُ، ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ: أَوْصِنِي، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: لَا تَسُبَّ أُمَّكَ! فَتَغَيَّرَ الرَّجُلُ وَقَالَ: وَهَلْ يَسُبُّ أَحَدٌ أُمَّهُ؟! فَقَالَ الْمَنْصُورُ: نَعَمْ، يَسُبُّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ! قَالَ الرَّجُلُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ إِنَّمَا سَمَّاهُنَّ اللَّهُ أُمَّهَاتٍ لِتَحْرِيمِ نِكَاحِهِنَّ، فَقَالَ الْمَنْصُورُ: كَذَبُوا، لَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُونَ لَسَمَّاهُنَّ أَخَوَاتٍ، قَالَ الرَّجُلُ: إِنَّ الَّتِي تَذْكُرُهَا حَارَبَتْ عَلِيًّا، وَفَعَلَتْ وَفَعَلَتْ، فَقَالَ الْمَنْصُورُ: وَهَلْ جَاهَدَتِ النَّاسَ عَلَى أَنْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ؟! قَالَ الرَّجُلُ: لَا، فَقَالَ الْمَنْصُورُ: أَلَا وَاللَّهِ لَوْ جَاهَدَتِ النَّاسَ عَلَى أَنْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ لَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَاحِبُوهَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا، أَتَدْرِي لِمَ ذَلِكَ؟ قَالَ الرَّجُلُ: لِمَكَانِ الْآيَةِ؟ قَالَ الْمَنْصُورُ: لِأَنَّ سَبَّهَا كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ، كَمَا يُؤْذِيكُمْ سَبُّ أَزْوَاجِكُمْ.[٧٤]
لا سيّما بالنظر إلى ما روي عنها من إظهار التوبة والندامة قبل الموت؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سُئِلَ الْمَنْصُورُ عَنْ عَائِشَةَ، فَقَالَ: إِنَّ عِيسَى بْنَ دِينَارٍ سَأَلَ عَنْهَا أَبَا جَعْفَرٍ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ لَهَا، أَمَا بَلَغَكَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ شَجَرَةً، يَا لَيْتَنِي كُنْتُ حَجَرًا، يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَدَرَةً؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ مِنْهَا؟ قَالَ: تَوْبَةٌ.[٧٥]
هذه هي الطريقة الوسطى التي يلحق بها التالي ويرجع إليها الغالي، وقد رفع رايتها السيّد العلامة حفظه اللّه تعالى في زماننا هذا، ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾[٧٦]، ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾[٧٧].
ماذا يقول السيّد المنصور عن التبرّئ من أعداء اللّه وأعداء رسوله؟ هل من الممكن أن نتولّى أهل البيت ولا نتبرّأ من أعدائهم؟! بأيّ دليل يجوز لنا الإستغفار لأهل السقيفة الذين غصبوا حقّ عليّ عليه السلام في الخلافة؟! هل عندكم دليل خفي علينا؟! فاذكروه لنا، فإنّا لم نجد دليلًا فيما نشرتم.
لقد جاء دليل كثير في الجواب أعلاه، وفي مبحث «ضرورة احترام أصحاب النّبيّ» من كتاب «العودة إلى الإسلام»، وفي أقوال السيّد المنصور أيّده اللّه تعالى، وقد يكفي بعض ذلك لمن آتاه اللّه عقلًا سليمًا، ولكنّ المتعصّبين من الشيعة لا يجدون شيئًا من ذلك؛ لأنّ التعصّب قد أصمّهم وأعمى أبصارهم؛ كمثل الذين وصفهم اللّه في كتابه، فقال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا﴾[١]، ولا يمنعنا ذلك من أن نزيد بيانًا، فنقول:
أولًا لا بحث في وجوب التبرّئ من أعداء اللّه وأعداء رسوله؛ فقد قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾[٢]، ولكنّ البحث في معرفة أعداء اللّه وأعداء رسوله من هم، وهذا بحث صغرويّ باصطلاح أهل المنطق. فهل أصحاب رسوله الذين آمنوا به في ساعة العسرة، وحموه من أذى المشركين، وهاجروا معه من ديارهم وأبنائهم، وقاتلوا معه أعداء الإسلام ببدر وأحد وغيرهما، كانوا أعداء اللّه وأعداء رسوله؟! وقد وصفهم اللّه في كتابه بما لم يصف به أعداءه وأعداء رسوله، إذ قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾[٣]. نعم، لا شكّ أنّ كثيرًا منهم أحدثوا بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وزلّوا زلّة كبيرة، إذ نسوا ما عهد إليهم في أهل بيته، وعدلوا عن أعلمهم وأفضلهم عليّ بن أبي طالب إلى غيره، ولكنّهم بالنظر إلى سوابقهم الحسنة والآيات النازلة في مدحهم، لم يفعلوا ذلك عداوة للّه ورسوله؛ لأنّهم كانوا مؤمنين باللّه ورسوله، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويصومون شهر رمضان، ويحجّون البيت الحرام، ويقاتلون الكافرين، ولكنّ الشيطان زيّن لهم، وصدّهم عن السبيل، ولذلك لا يمكن اعتبارهم «أعداء اللّه وأعداء رسوله»، وإنّما يمكن اعتبارهم مسلمين ضالّين خاطئين، ومن الواضح أنّ الإستغفار قد شُرع في الأصل لأمثالهم، دون المسلمين المهتدين المصيبين؛ كما قال إخوة يوسف لأبيهم: ﴿اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾[٤]، وكانوا قد حسدوا وليّ اللّه، وكادوا به كيدًا، وهمّوا بقتله، وألقوه في غيابة الجبّ، ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾[٥]، واتّهموه بالسرقة، فقال لهم أبوهم: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[٦]، وكان ما فعل أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بعليّ من هذا القبيل، ولذلك يجوز الإستغفار لهم؛ لا سيّما بالنظر إلى قول اللّه تعالى في الذين جاؤوا من بعدهم: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[٧]، وقد قاله وهو يعلم أنّهم سيفعلون ما يفعلون، ولو شاء لم يقله، أو قيّد قوله بقيد ظاهر. فإن كان الشيعة يستدلّون على ما يخالف قوله ببعض ما يروون عن أهل البيت، فليعلموا أنّ ذلك غير صحيح عنهم، وما كان أهل البيت يقولون ما يخالف قول اللّه؛ كما صرّح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بأنّهم لا يفترقون عن القرآن حتّى يردوا عليه الحوض[٨]، وقالوا: «مَا أَتَاكُمْ عَنَّا مِنْ حَدِيثٍ لَا يُصَدِّقُهُ كِتَابُ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ»[٩].
ثانيًا إنّما يحرم الإستغفار للمشركين المعاندين؛ لقول اللّه تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾[١٠]، والمراد بالمشرك المعاند في قوله تعالى من اتّخذ من دون اللّه آلهة، أو كفر باللّه ورسوله، أو أنكر ما يُعلم من الدّين بصريح كتاب اللّه، ثمّ إذا دُعي إلى الإسلام أبى واستكبر؛ فهذا الذي لا يجوز الإستغفار له حتّى يظهر منه التوبة، ومن الواضح أنّ أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة وعائشة من المهاجرين والأنصار الذين كرهوا خلافة عليّ وامتنعوا عن بيعته، لم يكونوا بهذه الصفة، ولذلك لا يشملهم نهي اللّه تعالى عن الإستغفار للمشركين المعاندين، كما لا يشمل سائر المسلمين الذين تابعوهم على ذلك حتّى اليوم بغير أن ينكروا فضل عليّ؛ لأنّهم جميعًا مسلمون، ولا يحرم الإستغفار للمسلمين، وإن كانوا ضالّين أو فاسقين.
ثالثًا يعتقد الشيعة أنّ أصحاب السقيفة امتنعوا عن بيعة عليّ وهم يعلمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أمرهم ببيعته، فامتنعوا عنها بغير جهل ولا نسيان، ونحن لا ننكر إمكان ذلك، فلعلّه كان كما يقولون، ولكنّه أيضًا لا يُعتبر خروجًا من الإسلام، بل يُعتبر معصية عمديّة ارتكبوها بأهوائهم وحبّهم للدّنيا، كأكثر معاصي المسلمين؛ فإنّهم يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويأتون بكلّ منكر، وهم يعلمون أنّ اللّه حرّم عليهم ذلك، فلا يخرجون به من الإسلام، بل يُعتبرون مذنبين، إلّا عند الخوارج الذين يكفّرون أهل القبلة بالذنوب، ومن الواضح أنّ الإستغفار للمسلمين المذنبين جائز، لا سيّما إذا كانت لهم سوابق حسنة؛ كما جاء عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ»[١١]، ومضى قوله في حاطب بن أبي بلتعة.
رابعًا يعتقد الروافض من الشيعة أنّ أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة وأمثالهم الذين امتنعوا عن بيعة عليّ كانوا منافقين من أوّل يوم، ولذلك فعلوا ما فعلوا، وهذه دعوى عظيمة لا يمكن تصديقها؛ لأنّ هؤلاء أسلموا بمكّة حين كان الإسلام غريبًا والمسلمون مستضعفين في الأرض، ولم يكن هناك داعٍ يدعوهم إلى النفاق، والظاهر أنّه لم يكن في المهاجرين منافق، وكان المنافقون من أهل المدينة ومَن حولهم من الأعراب؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ﴾[١٢]، والمسلّم به أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم هاجر واختفى في الغار مع أبي بكر عندما أراد الكفّار قتله، فلو كان يعلم منه نفاقًا لم يفعل ذلك؛ لأنّ ذلك كان تمكينًا له من قتله، ومن السفاهة أن يفرّ الرجل من أعدائه مع أحدهم، والأنكر من ذلك أن يدخل معه الغار، وقد قال اللّه تعالى: ﴿لَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾[١٣]، فهذا يدلّ على أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان يثق بأبي بكر ولا يخاف منه نفاقًا، وقد أخبر اللّه عن قصّتهما، فقال: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾[١٤]، فأخبر بذلك عن إيمان أبي بكر؛ لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ما كان يقول لمنافق: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾، ومن المعلوم ﴿أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[١٥]، وليس مع المنافقين، والقول بأنّه ﴿مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾[١٦]، وبهذا المعنى كان مع أبي بكر، هو تحكّم ظاهر؛ لاشتراك الوصف بينه وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾، وعدم المناسبة بين تلك المعيّة وعدم الحزن. فلا ينبغي الشكّ في أنّ أبا بكر لم يكن منافقًا، وهو أوّل من نازع عليًّا في الأمر، فسائر القوم أولى بأن لا يكونوا منافقين، وقد تزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بعائشة، وزوّج عثمان ابنته مرّتين، ولو علم منهما نفاقًا لم يفعل ذلك؛ لأنّ المنافق كافر أو مشرك، وقد قال اللّه تعالى: ﴿لَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾[١٧]، وقال: ﴿لَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾[١٨]. فإن قالوا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ما كان يعلم نفاقهما وهم يعلمونه فقد كفروا؛ لاعتقادهم بأنّهم أعلم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وإن قالوا أنّه كان يعلم نفاقهما فقد كفروا؛ لاعتقادهم بأنّه عصى اللّه تعالى وفارق كتابه متعمّدًا، فهم بين كفرين ظاهرين، فليختاروا لأنفسهم أيّهما يريدون!
خامسًا إذا كان هناك احتمالان، أحدهما أنّ القوم امتنعوا عن بيعة عليّ بجهالة أو غفلة، والآخر أنّهم امتنعوا عنها بنفاق، فمن الواضح أنّه يجب الأخذ بالإحتمال الأحسن؛ لأنّ ظاهر القوم الإيمان، وقد نهى اللّه عن إساءة الظنّ بالمؤمنين، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾[١٩]، وأمر بإحسان الظنّ بالمؤمنين، فقال: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾[٢٠]، وروي عن عليّ أنّه قال: «ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ مِنْهُ مَا يَغْلِبُكَ، وَلَا تَظُنَّنَ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءًا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا»[٢١]، وقال: «اطْلُبْ لِأَخِيكَ عُذْرًا، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَهُ عُذْرًا فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْرًا»[٢٢]، ومن أحقّ بذلك من قوم سبق منهم الإيمان والهجرة والجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؟! ولذلك قال السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى لمّا سئل عن أصحاب الجمل: «أَمَّا عَائِشَةُ فَقَدْ تَابَتْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَمَّا الزُّبَيْرُ فَقَدْ هَرَبَ وَلَمْ يُحَارِبْ، وَأَمَّا طَلْحَةُ فَوَاللَّهِ لَا أَدْرِي مَا أَقُولُ فِيهِ»! فسكت عن طلحة لمّا لم يجد له عذرًا، ثمّ التمس له عذرًا، فقال في بعض دروسه: «يُقَالُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ مَرَّ بِطَلْحَةَ وَهُوَ صَرِيعٌ يَوْمَ الْجَمَلِ فِي آخِرِ رَمَقٍ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، فَقَالَ: ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ لَهُ، فَبَايَعَ، ثُمَّ فَاضَتْ نَفْسُهُ، فَأَتَى الرَّجُلُ عَلِيًّا فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: اللَّهُ أَكْبَرُ، صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَلَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ تَوْبَةً، لَوْلَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾[٢٣]، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ».
سادسًا لو كان أبو بكر وعمر وعثمان وعائشة وسائر الصحابة الذين امتنعوا عن بيعة عليّ منافقين كما يزعم الروافض، لكان من الجائز أيضًا أن نستغفر لهم تأليفًا لقلوب المسلمين؛ فقد روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه استغفر لعبد اللّه بن أبيّ بن سلول، وهو رأس المنافقين، فلمّا قيل له في ذلك قال: «لَقَدْ خَيَّرَنِي رَبِّي، فَقَالَ: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾[٢٤]، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَوْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ»[٢٥]، والظاهر أنّه فعل ذلك لتأليف قلوب قومه؛ كما روي أنّه قال للمعترضين: «وَمَا يُدْرِيكُمْ لَعَلَّ اللَّهَ يُدْخِلُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ بَنِي الْخَزْرَجِ كَذَا وَكَذَا عِدَّةً كَثِيرَةً»[٢٦]، وهذا دليل واضح على جواز الإستغفار لأبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وسائر الصحابة حتّى لو كانوا منافقين؛ لأنّ الإستغفار لهم يؤلّف قلوب المسلمين، «وما يدريكم لعلّ اللّه يدخل في موالاة أهل البيت ونصرتهم من السنّة كذا وكذا عدّة كثيرة»!
سابعًا لقد ثبت أنّ أهل البيت كانوا يترحّمون على أبي بكر وعمر، ويقولون فيهما خيرًا؛ كما روي عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام أنّه قال: «أَجْمَعَ بَنُو فَاطِمَةَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الْقَوْلِ»[٢٧]، والروايات في هذا المعنى متواترة، ومن المعلوم أنّهم كانوا يفعلون ذلك إمّا مراعاةً لسابقتهما في الإسلام وما أمر اللّه به من الإستغفار للصحابة وترك الغلّ عليهم، وإمّا مداراةً للمسلمين وتأليفًا لقلوبهم، وأيّهما كان وجب على شيعتهم اتّباعهم في ذلك، وقد روي أنّهم قالوا لهم: «لَا تَذْكُرُوا سِرَّنَا بِخِلَافِ عَلَانِيَتِنَا، وَلَا عَلَانِيَتَنَا بِخِلَافِ سِرِّنَا، حَسْبُكُمْ أَنْ تَقُولُوا مَا نَقُولُ، وَتَصْمُتُوا عَمَّا نَصْمُتُ»[٢٨]، وهذا قول مهمّ جدًّا لو عقلوه؛ لأنّ منهم من يقول أنّ أهل البيت كانوا في السّرّ يلعنون أبا بكر وعمر، وفي العلانية يستغفرون لهما من باب التقيّة، فردّوا عليهم هذا القول، ونهوهم عن ذلك، وقالوا: «لَا تَذْكُرُوا سِرَّنَا بِخِلَافِ عَلَانِيَتِنَا، وَلَا عَلَانِيَتَنَا بِخِلَافِ سِرِّنَا»، ثمّ أمروهم بالإقتداء بهم في القول والصمت، وكان من قولهم: «أَيَكْتَفِي مَنْ يَنْتَحِلُ التَّشَيُّعَ أَنْ يَقُولَ بِحُبِّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ؟!... حَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ أُحِبُّ عَلِيًّا وَأَتَوَلَّاهُ، ثُمَّ لَا يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ فَعَّالًا؟! فَلَوْ قَالَ إِنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ، فَرَسُولُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ، ثُمَّ لَا يَتَّبِعُ سِيرَتَهُ وَلَا يَعْمَلُ بِسُنَّتِهِ، مَا نَفَعَهُ حُبُّهُ إِيَّاهُ شَيْئًا»[٢٩]، ومن قولهم: «لَيْسَ مِنْ شِيعَتِنَا مَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَخَالَفَنَا فِي أَعْمَالِنَا»[٣٠]، ومن قولهم: «إِنَّمَا شِيعَتُنَا مَنْ تَابَعَنَا وَلَمْ يُخَالِفْنَا»[٣١]، وكانوا يقولون لأصحابهم: «كُونُوا لَنَا زَيْنًا، وَلَا تَكُونُوا لَنَا شَيْنًا، حَبِّبُونَا إِلَى النَّاسِ، وَلَا تُبَغِّضُونَا إِلَيْهِمْ، جَرُّوا إِلَيْنَا كُلَّ مَوَدَّةٍ، وَادْفَعُوا عَنَّا كُلَّ شَرٍّ»[٣٢]، والروايات عنهم في هذا الباب كثيرة، ولكنّ هؤلاء القوم الذين يدّعون التشيّع لا يعملون بواحدة منها، وإذا وجدوا رجلًا يعمل بها كاملةً وقعوا فيه واتّهموه بكلّ سوء، والرجل الذي يعمل بها كاملةً هو السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى، وقد نالوا منه حتّى قام خطيبًا، فقال:
إِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَفَاعِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ وَأَنِّي لَسْتُ مِنْ شِيعَتِهِ! فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا! إِنَّمَا شِيعَةُ عَلِيٍّ مَنْ يَحْذُو حَذْوَهُ وَيَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِهِ، وَكَانَ عَلِيٌّ لَا يَكْذِبُ، وَلَا يَبْهَتُ، وَلَا يَقْذِفُ، وَلَا يَسُبُّ، وَلَا يُثِيرُ الْفِتْنَةَ، وَلَا يُغْرِي الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَلْعَنُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَلَا يَرْمِي عَائِشَةَ بِالْقَبِيحِ، وَلَا يُكَفِّرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، وَلَا يَنْسِبُ أَهْلَ بَدْرٍ إِلَى النِّفَاقِ، وَلَا يَرْضَى بِالْغُلُوِّ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَقُولُ إِنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلَا يَقُولُ أَنَّ الْخَلْقَ مُفَوَّضٌ إِلَيَّ أَتَصَرَّفُ فِيهِ بِمَا أَشَاءُ، وَلَا يَلْطِمُ نَفْسَهُ عِنْدَ مُصِيبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَوْ مُصِيبَةِ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَلَا يَدْعُوهُمَا بِالْغَيْبِ لِيَقْضِيَا حَوَائِجَهُ، وَلَا يَأْمُرُ بِتَقْلِيدِ النَّاسِ، وَلَا يَجْعَلُ لَهُمْ وِلَايَةً كَوِلَايَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَقُولُ أَنَّ حِفْظَ مُلْكِهِ أَوْلَى مِنْ حِفْظِ الْإِسْلَامِ، بَلْ تَرَكَ الْمُلْكَ لِيَحْفَظَ الْإِسْلَامَ، وَلَا يَسْتَحِلُّ مُخَالَفَةَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لِمَصْلَحَةِ دُنْيَاهُ، وَلَا يَرْضَى بِالذُّلِّ، وَلَا يَسْتَعِينُ بِالْكَافِرِينَ، وَلَا يُعِينُ الظَّالِمِينَ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَلَا يُصَانِعُهُمْ طَمَعًا فِي دُنْيَاهُمْ أَوْ خَوْفًا مِنْ قَلِيلِ الْأَذَى يُسَمِّي ذَلِكَ تَقِيَّةً، وَلَا يَأْخُذُ بِخَبَرٍ يَرْوِيهِ وَاحِدٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ فَيَحْلِفَ لَهُ، وَلَا يَفْعَلُ كَثِيرًا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُ هَؤُلَاءِ وَأَنَا خِلْوٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَلْيَرْجِعُوا الْآنَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَلْيَقْضُوا مَنْ أَشْبَهُنَا بِعَلِيٍّ؟! هُمْ أَمْ أَنَا؟! فَإِنْ شَهِدَتْ قُلُوبُهُمْ وَاعْتَرَفَتْ ضَمَائِرُهُمْ بِأَنِّي أَشْبَهُ مِنْهُمْ بِعَلِيٍّ، فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَكُفُّوا عَنْ سَبِّي وَظُلْمِي وَعَدَاوَتِي وَتَحْرِيضِ النَّاسِ عَلَيَّ وَأَخْذِ أَصْحَابِي وَذَوِي مَوَدَّتِي وَحَبْسِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَإِنِّي أَدْعُوهُمْ إِلَى إِمَامٍ عَادِلٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ عَلِيٍّ -يَعْنِي الْمَهْدِيَّ-، وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِي وَالْمُسَارَعَةِ فِي نُصْرَتِي إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ، وَلَكِنَّهُمْ مَجْبُولُونَ عَلَى الْكِذْبِ وَالتَّعَصُّبِ وَالْكِبْرِ، وَيُشَاقُّونَنِي ﴿حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[٣٣].[٣٤]
لقد بيّنّا الأمر بيانًا كافيًا شافيًا، ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[٣٥].