منذ متى شاع لباس رجال الدّين؟ هل له أصل في الإسلام؟
لم يتحدّد في الإسلام لباس خاصّ لأهل العلم، بل ورد فيه النهي عن ارتداء لباس الشهرة، وهو لباس يميّز الإنسان عن سائر الناس بغير ضرورة أو مصلحة مهمّة؛ كما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[١]، وعن أهل البيت عليهم السلام: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُبْغِضُ شُهْرَةَ اللِّبَاسِ»[٢]، ولا شكّ أنّ ما شاع بين أهل العلم هو من لباس الشهرة؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
كُنَّا مَعَ الْمَنْصُورِ فِي مَسْجِدٍ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا وَقَالَ: لَا تَلْبِسُوا لِبَاسَ الشُّهْرَةِ فَيَأْخُذُكُمُ الْخُيَلَاءُ فَيُحْبِطُ أَعْمَالَكُمْ، فَمَا لَبِثَ أَنْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَيْهِ لِبَاسُ رِجَالِ الدِّينِ، فَقَالَ الْمَنْصُورُ: هَذَا مِنْ لِبَاسِ الشُّهْرَةِ.
وذلك لأنّه يميّز أهل العلم عن سائر الناس بغير ضرورة ولا مصلحة مهمّة، والدليل على عدم وجود ضرورة أو مصلحة مهمّة فيه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأهل بيته لم يلبسوه، مع أنّهم كانوا خير العلماء وكان بإمكانهم أن يلبسوا ما يميّزهم عن سائر الناس وكانوا لا يتركون عملًا فيه ضرورة أو مصلحة مهمّة، وكان من شدّة التشابه بينهم وبين سائر الناس في المظهر أنّ الرّجل الغريب يدخل على جماعة فيهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فلا يميزه حتّى يقول: «أَيُّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ؟» فيشيروا إليه[٣]، وكان عليّ بن أبي طالب عليه السلام يدخل السّوق والمسجد فلا يُعرف حتّى يسيء إليه الجاهل[٤]، وكان عليّ بن الحسين عليهما السلام لا يسافر إلا مع رفقة لا يعرفونه ويشترط عليهم أن يكون من خدم الرفقة فيما يحتاجون إليه، فسافر مرّة مع قوم فرآه رجل فعرفه، فقال لهم: أتدرون من هذا؟! قالوا: لا، قال: هذا عليّ بن الحسين عليهما السلام! فوثبوا فقبّلوا يده ورجله وقالوا: «يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ! أَرَدْتَ أَنْ تُصْلِيَنَا نَارَ جَهَنَّمَ؟! لَوْ بَدَرَتْ مِنَّا إِلَيْكَ يَدٌ أَوْ لِسَانٌ أَمَا كُنَّا قَدْ هَلَكْنَا آخِرَ الدَّهْرِ؟! فَمَا الَّذِي يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا؟!» فقال: «إِنِّي كُنْتُ قَدْ سَافَرْتُ مَرَّةً مَعَ قَوْمٍ يَعْرِفُونَنِي، فَأَعْطَوْنِي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَا لَا أَسْتَحِقُّ بِهِ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تُعْطُونِي مِثْلَ ذَلِكَ، فَصَارَ كِتْمَانُ أَمْرِي أَحَبَّ إِلَيَّ»[٥].
بهذا يتبيّن أنّ اتّخاذ العلماء زيًّا خاصًّا بهم هو ترك السنّة، وإن شئت قلت أنّه بدعة بالإضافة إلا أنّه شهرة منهيّ عنها في الدّين، ويقال أنّ أبا يوسف القاضي (ت١٨٢هـ) هو أوّل من غيّر لباس العلماء إلى هذه الهيئة التي هم عليها في هذا الزمان، وكان ملبوس الناس قبل ذلك شيئًا واحدًا، لا يتميّز أحد عن أحد بلباسه، ذكر ذلك ابن خلكان في «وفيات الأعيان»[٦]، ولذلك لا ينبغي لمن يهمّه ترك البدعة والإستنان بالسنّة من أهل العلم أن يتلبّس بهذا اللباس، لا سيّما في البلاد التي يحكمها المتلبّسون به من أهل الضلال؛ لأنّه فيها لباس الظالمين، ولا يجوز التشبّه بهم في زيّهم، ويرى المنصور حفظه اللّه تعالى أنّ هذا اللباس فتنة للناس بالإضافة إلى ما مضى؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
كَانَ الْمَنْصُورُ يَلْبِسُ أَكْثَرَ مَا يَلْبِسُ قَمِيصًا أَبْيَضَ وَقَلَنْسُوَةً سَوْدَاءَ أَوْ بَيْضَاءَ، وَلَا يَلْبِسُ لِبَاسَ رِجَالِ الدِّينِ، فَخَرَجْتُ يَوْمًا مِنْ عِنْدِهِ وَمَعِيَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَوَجَدْتُهُ سَاخِطًا، فَقُلْتُ لَهُ: مَا لَكَ؟! فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعُلَمَاءِ وَرَئِيسُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا يَلْبِسُ لِبَاسَهُمْ! قُلْتُ: وَيْحَكَ، إِنَّهُ لَا يُقَلِّدُهُمْ، وَمِنْ خُشُوعِهِ لَا يَلْبِسُهُ وَتَوَاضُعِهِ! قَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا يُحْسِنُ وَلَا يُجْمِلُ! قُلْتُ: وَجْهِي مِنْ وَجْهِكَ حَرَامٌ حَتَّى أُخْبِرَهُ بِمَا قُلْتَ! فَرَجَعْتُ إِلَى الْمَنْصُورِ فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْهُ بِأَنَّهُ فِتْنَةٌ لِلنَّاسِ، ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾[٧].
والظاهر أنّه حفظه اللّه تعالى أراد بالفتنة للناس اغترارهم بهذا اللباس بغير تبيّن، وقد يلبسه المنافقون والضالّون والجاهلون من المنسوبين إلى العلم، وفي ذلك مفاسد عظيمة، والحقيقة أنّ غلبة هذا اللباس على علماء المسلمين هي أمارة من أمارات غلبة البدعة والتصنّع عليهم، وتلك المصيبة العظمى!