من هو المراد بالمسيح الدّجّال في الأحاديث؟ هل الدّجّال شخص أم حالة في العالم؟ هل هو حيّ أو موجود في الوقت الحاضر؟ كيف يقتل الإمام المهديّ الدّجّال؟ لقد روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّ الدّجّال هو ابن صيّاد. هل ابن صيّاد هو الدّجّال؟
يرجى ملاحظة ما يلي:
١ . لقد كشف المنصور الهاشميّ الخراسانيّ حفظه اللّه تعالى في كتابه القيّم «العودة إلى الإسلام»[١]، عن وجود شبكة شيطانيّة سرّيّة، تحاول التمهيد لحاكميّة الشيطان المعلنة على العالم، من خلال تحالف غير رسميّ مع أعظم الأقوياء المفسدين والأثرياء الملحدين من جانب، وكهنة اليهود والسحرة العابدين للشيطان من جانب آخر، تحت إشراف وإدارة من الشيطان نفسه. إنّما تتحقّق حاكميّة الشيطان المعلنة على العالم عندما يصل خليفته في العالم إلى الحكومة، لينفّذ أحكامه في العالم بالنيابة عنه. إنّ «خليفة الشيطان» هذا شخص يقال له «الدّجّال»، وهو في الأصل من «ذرّيّة الشيطان»؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾[٢]. أمام هذه الشبكة الشيطانيّة السرّيّة التي تحاول التمهيد لحاكميّة «الدّجّال» على العالم كـ«خليفة الشيطان»، شبكة إلهيّة سرّيّة تحاول التمهيد لحاكميّة «المهديّ» على العالم كـ«خليفة اللّه»، وهما تستبقان إلى الأرض التي بارك اللّه فيها كفرسي رهان، هذه من المغرب، وهذه من المشرق، ولا شكّ أنّ أهل المشرق هم الفائزون؛ لأنّهم أنصار اللّه، ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾[٣]، ولذلك يقال لقائدهم «المنصور»، كما جاء في الحديث المشهور[٤].
٢ . لقد قال المنصور الهاشميّ الخراسانيّ حفظه اللّه تعالى في بعض حِكَمه: «إِنَّ الدَّجَّالَ لَقَبٌ كَفِرْعَوْنَ، يَتَوَارَثُهُ رِجَالٌ مِنْ آلِ إِبْلِيسَ»[٥]، وهذا يعني أنّ «الدّجّال» ليس الإسم الظاهر لـ«خليفة الشيطان»، بل هو لقب عامّ مثل «فرعون» يُطلق في كلّ زمان على أعلى منصب في الشبكة الشيطانيّة، ولذلك لا يوجد زمان بدون «الدّجّال»؛ كما لا يوجد زمان بدون «المهديّ»[٦]؛ لأنّ «الدّجّال» خليفة للشيطان مقابل خليفة للّه، وكلّ خليفة للّه يعتبر «مهديًّا»؛ بالنظر إلى أنّ «المهديّ» أيضًا ليس الإسم الظاهر لـ«خليفة اللّه»، بل هو لقب عامّ مثل «الإمام» يُطلق في كلّ زمان على أعلى منصب في الشبكة الإلهيّة؛ كما قال اللّه تعالى في إبراهيم عليه السلام: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ﴾[٧]، وهذا يعني أنّهم كانوا «مهديّين» جميعًا. بناء على هذا، من الممكن أن يكون ابن صيّاد دجّال زمانه، كما أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان مهديّ زمانه، لكن من الواضح أنّ ابن صيّاد ليس دجّال زماننا، كما أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ليس مهديّ زماننا، بل دجّال زماننا هو إمام الشبكة الشيطانيّة العالميّة الذي يمهّد لظهوره عصابة في المغرب؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾[٨]، ومهديّ زماننا هو إمام الشبكة الإلهيّة العالميّة الذي يمهّد لظهوره عصابة في المشرق؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾[٩]، ولا يزالان يختصمان؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾[١٠]، حتى يرجع «مسيح اللّه» إلى العالم ويحكم بينهما بالحقّ، وبمثل قولنا في ابن صيّاد قال جماعة من أهل العلم؛ كما قال ابن بطال (ت٤٤٩ه): «إِنْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي أَنَّهُ الدَّجَّالُ الَّذِي يَقْتُلُهُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَقَعِ الشَّكُّ فِي أَنَّهُ أَحَدُ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ أَنْذَرَ بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ»[١١]، وقال البيهقيّ (ت٤٥٨ه) فيما حُكي عنه: «إِنَّ الدَّجَّالَ الْأَكْبَرَ الَّذِي يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ غَيْرُ ابْنِ صَيَّادٍ، وَكَانَ ابْنُ صَيَّادٍ أَحَدَ الدَّجَّالِينَ الْكَذَّابِينَ الَّذِينَ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِخُرُوجِهِمْ»[١٢]، وقال عبد الغني المقدسيّ (ت٦٠٠ه): «كَانَ ابْنُ صَائِدٍ دَجَّالًا صَغِيرَ السِّنِّ غَيْرَ الدَّجَّالِ الْأَكْبَرِ»[١٣]، وقال النوويّ (ت٦٧٦ه) حاكيًا عن العلماء: «قِصَّةُ ابْنِ صَيَّادٍ مُشْكِلَةٌ، وَأَمْرُهُ مُشْتَبَهٌ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ الْمَشْهُورُ أَمْ غَيْرُهُ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ دَجَّالٌ مِنَ الدَّجَاجِلَةِ»[١٤]، وقال ابن كثير (ت٧٧٤ه) حاكيًا عن بعض العلماء: «ابْنُ صَيَّادٍ كَانَ بَعْضُ الصِّحَابَةِ يَظُنُّهُ الدَّجَّالَ الْأَكْبَرَ، وَلَيْسَ بِهِ، إِنَّمَا كَانَ دَجَّالًا مِنَ الدَّجَاجِلَةِ صَغِيرًا»[١٥]، وقال: «الصَّحِيحُ أَنَّ الدَّجَّالَ غَيْرُ ابْنِ صَيَّادٍ، وَأَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ كَانَ دَجَّالًا مِنَ الدَّجَاجِلَةِ، ثُمَّ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِضَمِيرِهِ وَسَرِيرَتِهِ»[١٦].
لقد روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّ الدّجّال لبثه في الأرض أربعون يومًا يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيّامه كأيّامكم. هل هذه الرواية معتبرة؟ هناك أشخاص يؤوّلونها فيقولون أنّ المراد بها هو ثلاث فترات من سلطة القوى الكافرة الغربيّة في القرنين الأخيرين. هل هذا التأويل صحيح؟
الأخبار الواردة في خروج الدّجّال متواترة، ولكنّ الخبر الوارد في مدّة لبثه في الأرض خبر واحد تفرّد به عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن يحيى بن جابر الطائي، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه جبير بن نفير، عن النَّوّاس بن سَمعان الكِلابيّ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم[١]، ومن المؤكّد أنّ خبر الواحد لا يفيد العلم وإن صحّ إسناده عند أهل الحديث، ولذلك لا يجوز الإعتقاد بما تضمّنه هذا الخبر، وقد روي خلافه عن أسماء بنت يزيد، قالت: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: يَمْكُثُ الدَّجَّالُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَالْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ كَاضْطِرَامِ السَّعْفَةِ فِي النَّارِ»[٢].
وأمّا التأويل المذكور فهو مجرّد ظنّ وتخمين، ومن المؤكّد أنّه لا يجوز التعويل عليهما في الدين؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾[٣]، وممّا يوهن هذا التأويل أنّه مخالف لمفهوم الراوي من الخبر؛ لأنّ النَّوّاس بن سَمعان لم يفهم منه كناية، بل حمله على ظاهره، بحيث أنّه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن حكم الصلاة في تلك الأيّام، فأجابه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وفقًا لهذا المفهوم وهذا تقريره على ذلك، ومن ثمّ «قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهَذِهِ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ طَوِيلَةٌ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ» ذكره النوويّ[٤]، إلا أن يقال أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قد أجاب الراوي بالتناسب مع عقله، وهذا احتمال قويّ، وممّا يزيده قوّة أنّ معظم الأخبار الواردة في صفات الدّجّال رمزيّة؛ كالأخبار الواردة في أنّه مقيّد في جزيرة من جزائر البحر مع دابّة كثيرة الشعر يقال لها «الجسّاسة»، وأنّه يطأ البلاد كلّها كالغيث استدبرته الرّيح غير مكّة والمدينة، وأنّ له حمارًا تظلّ أذنه سبعين ألفًا وخطوته مسيرة كذا وكذا، وأنّه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كلّ مؤمن كاتب أو غير كاتب، وأنّ معه جنّة ونارًا فناره جنّة وجنّته نار، وأنّ معه جبالًا من خبز ولحم وأنهار من ماء، وغير ذلك ممّا هو شبه صريح في الرمز والكناية، بل الإنصاف أنّ الخبر الوارد في أنّ لبثه في الأرض أربعون يومًا يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيّامه كأيّامكم هو أيضًا شبه صريح في الرمز والكناية؛ لأنّه ليس من الممكن وجود مثل هذه الأيّام قبل يوم القيامة، ولذلك حاول بعض العلماء تأويله؛ كما تأوّله ابن المنادي فقال: «الْمَعْنَى أَنَّهُ يَهْجُمُ عَلَيْكُمْ غَمٌّ عَظِيمٌ لِشِدَّةِ الْبَلَاءِ، وَأَيَّامُ الْبَلَاءِ طِوَالٌ، ثُمَّ يَتَنَاقَصُ ذَلِكَ الْغَمُّ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، ثُمَّ يَنْقُصُ فِي الثَّالِثِ، ثُمَّ يَعْتَادُ الْبَلَاءُ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: الْيَوْمَ عِنْدِي سَنَةٌ؛ إِلَّا أَنَّ الزَّمَانَ تَغَيَّرَ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: <وَلَيْلُ الْمُحِبِّ بِلَا آخِرٍ>» وقال حمّاد بن سلمة: «سَأَلْتُ أَبَا سِنَانٍ عَنْ مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ: يَسْتَلِينُونَ الْعَيْشَ، فَتَقْصُرُ الْأَيَّامُ عَلَيْهِمْ»، ذكرهما ابن الجوزيّ ثمّ قال: «هَذَا التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ يَرُدُّهُ قَوْلُهُمْ بَعْدَ هَذَا: <أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ وَلَيْلِهِ؟ قَالَ: لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ>، وَالْمَعْنَى: اقْدُرُوا لِأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ بْنَ الْمُنَادِي قَدْ طَعَنَ فِي صِحَّةِ هَذِهِ اللَّفَظَاتِ، يَعْنِي قَوْلَهُمْ: <أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ وَلَيْلِهِ؟ قَالَ: لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ> فَقَالَ: هَذَا عِنْدَنَا مِنَ الْمَدَاسِيسِ الَّتِي كَادَنَا بِهَا ذَوُو الْخِلَافِ عَلَيْنَا قَدِيمًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَاشْتَهَرَ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّوَاةِ كَحَدِيثِ الدَّجَّالِ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَحُذَيْفَةٌ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو هُرَيْرَةٍ وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَمُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ فِي آخَرِينَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَقَوِيَ اشْتِهَارُهُ، وَلَكَانَ أَعْظَمَ وَأَفْظَعَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ الظَّاهِرُ»[٥].
الحاصل أنّ الخبر الوارد في مدّة لبث الدجال في الأرض غير ثابت، ولو صحّ لم يمكن حمله على ظاهره، وإن كان حمله على ثلاث فترات من سلطة القوى الكافرة الغربيّة في القرنين الأخيرين أيضًا ليس له دليل مفيد للعلم[٦].