هل عاصمة الإمام المهديّ بعد ظهوره هي المدينة المنوّرة؟
لا يوجد شيء يمكن الإستشهاد به على أنّ عاصمة المهديّ هي المدينة، إلا ما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «إِنَّ الْإِسْلَامَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا»[١]، رواه سعد بن أبي وقاص وعبد اللّه بن عمر وعبد الرّحمن بن سَنّة وعمرو بن عوف المزني وأبو هريرة وعائشة، لكنّه يعني أنّ الإسلام يعود غريبًا ومنقبضًا في المدينة كما بدأ، وهذا لا محالة يكون في غير زمان المهديّ؛ لأنّ في زمانه يعزّ الإسلام وينبسط في العالم، وعليه فلا دلالة في الحديث على أنّ المدينة تكون عاصمة المهديّ، والثابت أنّ المهديّ يهرب من المدينة إلى مكّة في أوان ظهوره خوفًا من جيش السفيانيّ، فينصره اللّه تعالى عليهم ويخسف بهم الأرض، وهذا من أهمّ علامات ظهوره، والمرويّ عن أهل البيت أنّ عاصمته هي الكوفة؛ كما روي عن عليّ عليه السلام أنّه قال في حديث عن المهديّ: «ثُمَّ يُقْبِلُ إِلَى الْكُوفَةِ فَيَكُونُ مَنْزِلُهُ بِهَا، فَلَا يَتْرُكُ عَبْدًا مُسْلِمًا إِلَّا اشْتَرَاهُ وَأَعْتَقَهُ وَلَا غَارِمًا إِلَّا قَضَى دَيْنَهُ وَلَا مَظْلِمَةً لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا رَدَّهَا وَلَا يَقْتُلُ مِنْهُمْ عَبْدًا إِلَّا أَدَّى ثَمَنَهُ دِيَةً مُسَلَّمَةً إِلَى أَهْلِهِ وَلَا يُقْتَلُ قَتِيلٌ إِلَّا قَضَى عَنْهُ دَيْنَهُ وَأَلْحَقَ عِيَالَهُ فِي الْعَطَاءِ، حَتَّى يَمْلَأَ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا وَعُدْوَانًا، وَيَسْكُنُهُ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ الرَّحْبَةَ، وَالرَّحْبَةُ إِنَّمَا كَانَتْ مَسْكَنَ نُوحٍ، وَهِيَ أَرْضٌ طَيِّبَةٌ، وَلَا يَسْكُنُ رَجُلٌ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَلَا يُقْتَلُ إِلَّا بِأَرْضٍ طَيِّبَةٍ زَاكِيَةٍ»[٢]، وروي عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «إِذَا دَخَلَ الْقَائِمُ -يَعْنِي الْمَهْدِيَّ- الْكُوفَةَ لَمْ يَبْقَ مُؤْمِنٌ إِلَّا وَهُوَ بِهَا أَوْ يَحِنُّ إِلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ»[٣]، وفي رواية أخرى أنّه قال: «كَأَنِّي بِالْقَائِمِ عَلَى نَجَفِ الْكُوفَةِ قَدْ سَارَ إِلَيْهَا مِنْ مَكَّةَ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، جَبْرَئِيلُ عَنْ يَمِينِهِ وَمِيكَائِيلُ عَنْ شِمَالِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُفَرِّقُ الْجُنُودَ فِي الْبِلَادِ»[٤]، وروي عن جعفر بن محمّد عليهما السلام أنّه قال: «دَارُ مُلْكِهِ الْكُوفَةُ وَمَجْلِسُ حُكْمِهِ جَامِعُهَا وَبَيْتُ مَالِهِ وَمَقْسَمُ غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ مَسْجِدُ السَّهْلَةِ وَمَوْضِعُ خَلَوَاتِهِ الذَّكَوَاتُ الْبِيضُ مِنَ الْغَرِيَّيْنِ»[٥]، وروي أنّه ذكر مسجد السهلة فقال: «أَمَا إِنَّهُ مَنْزِلُ صَاحِبِنَا إِذَا قَامَ بِأَهْلِهِ»[٦]، وروي عن أبي جعفر وجعفر عليهما السلام أنّهما قالا في ذكر الكوفة: «فِيهَا مَسْجِدُ سُهَيْلٍ الَّذِي لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا وَقَدْ صَلَّى فِيهِ، وَفِيهَا يَظْهَرُ عَدْلُ اللَّهِ وَفِيهَا يَكُونُ قَائِمُهُ وَالْقُوَّامُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهِيَ مَنَازِلُ النَّبِيِّينَ وَالْأَوْصِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ»[٧]، وهذه الروايات وإن كانت ضعيفة الإسناد إلا أنّه يقوّي بعضها بعضًا، ويزيدها قوّة ما روى أهل الحديث في فضل الكوفة؛ كما روى ابن سعد وابن أبي شيبة وأبو عمرو الداني بسند حسن عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنّه قال: «إِنَّ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالْمَهْدِيِّ أَهْلُ الْكُوفَةِ»[٨]، وروى ابن سعد والطبريّ بإسنادهما عن عليّ عليه السلام أنّه قال: «الْكُوفَةُ جُمْجُمَةُ الْإِسْلَامِ، وَكَنْزُ الْإِيمَانِ، وَسَيْفُ اللَّهِ وَرُمْحُهُ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، وَايْمُ اللَّهِ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ بِأَهْلِهَا فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا كَمَا انْتَصَرَ بِالْحِجَارَةِ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ»[٩]، وروى ابن أبي خيثمة بإسناده عن عليّ عليه السلام أنّه قال: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْكُوفَةِ زَمَانٌ وَمَا مُؤْمِنٌ إِلَّا بِهَا أَوْ قَلْبُهُ يَحِنُّ إِلَيْهَا»[١٠]، وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن جندب الأزدي قال: «خَرَجْنَا مَعَ سَلْمَانَ إِلَى الْحِيرَةِ فَالْتَفَتَ إِلَى الْكُوفَةِ فَقَالَ: قُبَّةُ الْإِسْلَامِ، مَا مِنْ أَحْصَاصٍ يُدْفَعُ عَنْهَا مَا يُدْفَعُ عَنْ هَذِهِ الْأَحْصَاصِ، كَانَ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَجْتَمِعَ كُلُّ مُؤْمِنٍ فِيهَا أَوْ رَجُلٌ هَوَاهُ إِلَيْهَا»[١١]، وروى ابن أبي خيثمة بهذا اللفظ: «أَقْبَلْنَا مَعَ سَلْمَانَ فَلَمَّا أَشْرَفَتْ لَهُ الْحِيرَةُ قَالَ: أَهِيَ هِيَ؟ قَالُوا: لَا، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ لَهُ الْكُوفَةُ قَالَ: أَهِيَ هِيَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا زَمَانٌ لَا يَبْقَى مُؤْمِنٌ إِلَّا بِهَا أَوْ قَلْبُهُ يَحِنُّ إِلَيْهَا»[١٢]، وفي رواية أخرى: «الْكُوفَةُ قُبَّةُ الْإِسْلَامِ، يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى فِيهَا مُؤْمِنٌ إِلَّا بِهَا أَوْ قَلْبُهُ يَهْوِي إِلَيْهَا»[١٣]، وفي رواية أخرى: «الْكُوفَةُ قُبَّةُ الْإِسْلَامِ، أَمَا لَيَأْتِيَنَّ عَلَيْكِ زَمَانٌ وَمَا مُؤْمِنٌ إِلَّا بِكِ أَوْ قَلْبُهُ يَحِنُّ إِلَيْكِ حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ عَلَى الْبَغْلَةِ السَّعْوَا فَلَا يُدْرِكُ الْجُمُعَةَ»[١٤]، وروى مثله ابن سعد عن سلمة بن كهيل عن سلمان مرسلًا[١٥]، وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن عبد اللّه بن أبي الهذيل أنّه قال: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُخَيِّمُ كُلُّ مُؤْمِنٍ بِالْكُوفَةِ»[١٦]، ورواه ابن أبي خيثمة بهذا اللفظ: «لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَجْتَمِعَ كُلُّ مُؤْمِنٍ بِالْكُوفَةِ»[١٧]، وروى ابن سعد وابن أبي شيبة وابن أبي خيثمة وحنبل بن إسحاق بسند صحيح عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال: «إِنِّي لَأَعْلَمُ أَوَّلَ أَهْلِ أَبْيَاتٍ يَقْرَعُهُمُ الدَّجَّالُ، قَالُوا: مَنْ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: أَنْتُمْ يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ»[١٨]، وروي أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى أهل الكوفة: «إِلَى رَأْسِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ»[١٩].
هذه الأقوال تدلّ على أنّ الكوفة تكون عاصمة المهديّ إن شاء اللّه، وكان هذه الأقوال بسبب أنّ الكوفة كانت مأوى كبار الصحابة؛ كما روي عن قتادة أنّه قال: «دَخَلَ الْكُوفَةَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَلْفٌ وَخَمْسُونَ مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ بَدْرِيُّونَ»[٢٠]، وروي عن فطر بن خليفة أنّه قال: «نَازَعَنِي قَتَادَةُ فِي الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، فَقُلْتُ: دَخَلَ الْكُوفَةَ سَبْعُونَ بَدْرِيًّا، وَدَخَلَ الْبَصْرَةَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، فَسَكَتَ»[٢١]؛ ثمّ إنّها كانت معقل المجاهدين؛ كما روي عن عمر أنّه قال: «الْكُوفَةُ رُمْحُ اللَّهِ، وَكَنْزُ الْإِيمَانِ، وَجُمْجُمَةُ الْعَرَبِ يُحْرِزُونَ ثُغُورَهُمْ، وَيَمُدُّونَ الْأَمْصَارَ»[٢٢]؛ ثمّ إنّها كانت دار خلافة عليّ ومجمع محبّيه؛ كما قال عبد الرزاق: «قَالَ مَعْمَرٌ مَرَّةً وَأَنَا مُسْتَقْبِلُهُ، وَتَبَسَّمَ وَلَيْسَ مَعَنَا أَحَدٌ فَقُلْتُ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: عَجِبْتُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، كَأَنَّ الْكُوفَةَ إِنَّمَا بُنِيَتْ عَلَى حُبِّ عَلِيٍّ، مَا كَلَّمْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا وَجَدْتُ الْمُقْتَصِدَ مِنْهُمُ الَّذِي يُفَضِّلُ عَلِيًّا عَلَى أَبَى بَكْرٍ وَعُمَرَ، مِنْهُمْ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، قَالَ: فَقُلْتُ لِمَعْمَرٍ: وَرَأَيْتَهُ؟ -كَأَنِّي أَعْظَمْتُ ذَاكَ- فَقَالَ مَعْمَرٌ: وَمَا ذَاكَ؟! لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: عَلِيٌّ أَفْضَلُ عِنْدِي مِنْهُمَا مَا عَنَّفْتُهُ إِذَا ذَكَرَ فَضْلَهُمَا إِذَا قَالَ عِنْدِي، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: عُمَرُ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ عَلِيٍّ وَأَبِي بَكْرٍ مَا عَنَّفْتُهُ»[٢٣]؛ بالإضافة إلى أنّها كانت في وسط دار الإسلام، وفيها ماء طيّب مبارك وهو الفرات. مع ذلك كلّه، فقد كانت في أهلها خصلة يُخاف منها على المهديّ، وهي سوء معاملة الأمراء، وقيل أنّها أثر دعوة سعد بن أبي وقّاص؛ فإنّه دعا عليهم حين شكوه إلى عمر فقال: «اللَّهُمَّ لَا تُرْضِ عَنْهُمْ أَمِيرًا وَلَا تُرْضِهِمْ بِأَمِيرٍ»[٢٤]! فنرجو أن يعيذه اللّه تعالى من هذه الخصلة الخطيرة التي فعلت بآبائه ما فعلت، ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾[٢٥].