يعتقد بعض المفسّرين أنّ المراد بـ«الخليفة» في قول اللّه تعالى: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»، هو الإنسان بشكل عامّ، ويعتقد بعضهم أنّه خصوص آدم عليه السلام. كيف يمكن إثبات أنّ المراد به هو الحاكم من عند اللّه؟ لماذا لم تبيَّن قضيّة الخلافة في القرآن بشكل صريح مع أهمّيّتها الكبيرة؟
إنّما أراد اللّه بخليفته في الأرض من يحكمها بأمره، وهذا ما بيّنه في كتابه بصراحة، إذ قال لداود عليه السلام: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى﴾[١]؛ لأنّه يدلّ بوضوح على أربعة أمور:
الأوّل أنّ مراد اللّه بالخليفة الذي يجعله في الأرض لم يكن آدم عليه السلام فقطّ؛ لأنّه جعل داود عليه السلام أيضًا خليفة في الأرض، وبذلك ألغى الخصوصيّة؛ كما وعد في آية أخرى بأنّه يجعل في هذه الأمّة أيضًا خلفاء، فقال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾[٢]، وهذا يعني أنّ الخلافة الإلهيّة التي انتقلت إلى داود عليه السلام لم تنقطع؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْمَنْصُورِ، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ: يَا فُلَانُ! أَلَا تَرَى إِلَى هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبَيِّنِ الْخِلَافَةَ فِي الْقُرْآنِ؟! أَتَرَاهُمْ يَجْهَلُونَ أَمْ يَتَجَاهَلُونَ؟! قُلْتُ: لَا أَدْرِي جُعِلْتُ فِدَاكَ، لَعَلَّهُمْ يَجْهَلُونَ، قَالَ: وَيْلَهُمْ، كَيْفَ يَجْهَلُونَ؟! وَقَدْ يَقْرَؤُونَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، أَيُرِيدُونَ قَوْلًا أَبْيَنَ مِنْ هَذَا؟! أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ قَدْ أَخْلَفَ وَعْدَهُ فَلَمْ يَسْتَخْلِفْ فِيهِمْ كَمَا اسْتَخْلَفَ فِي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟! قُلْتُ: وَمَنِ اسْتَخْلَفَ فِي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ قَالَ: دَاوُودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَلَا يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي الْقُرْآنِ إِذْ يَقُولُ: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾؟! فَاسْتَخْلَفَهُ وَأَمْثَالَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ.[٣]
بل قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾[٤] مشعر باستمرار الخلافة في الأرض؛ لأنّ اسم الفاعل، خاصّة إذا أُطلق على اللّه، يفيد استمرار الفعل؛ لأنّه في معنى الصفة، كما في «الخالق» و«الرازق» و«العادل»، ولذلك قال الملائكة لمّا سمعوه: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾[٥]؛ لأنّهم لم يفهموا منه جعل آدم عليه السلام فقطّ، بل فهموا منه جعل كثيرين، وما رجل واحد في الأرض حتّى يخافوا من إفساده فيها وسفكه للدّماء؟! فإنّما كان خوفهم من أن يأتي خلفاء بعد آدم عليه السلام يفسدون في الأرض ويسفكون الدّماء، وهذا وجه لطيف أشار إليه السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى، فقال: «لَا يَزَالُ اللَّهُ يَجْعَلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً مُنْذُ قَالَهُ، وَلَوْ قَالَ: <إِنِّي أَجْعَلُ> لَكَانَ مِنْهُ جَعْلٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ﴾، وَالْجَاعِلُ مَنْ يَسْتَمِرُّ مِنْهُ الْجَعْلُ»[٦]، ولذلك يمكن القول أنّ قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ إخبار عن سنّة لا تبدّل إلى يوم القيامة، ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ﴾[٧].
الثاني أنّ مراد اللّه بالخليفة الذي يجعله في الأرض لم يكن جميع النّاس قطعًا؛ لأنّه لو كان قد جعل النّاس كلّهم خلفاء في الأرض لم يكن لجعل داود عليه السلام خليفة في الأرض معنى، بل كان ذلك من تحصيل الحاصل؛ كما أنّه لم يكن فضلًا لداود عليه السلام ليقتضي المنّ عليه وتخصيصه بالخطاب، مع أنّ قوله: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾ صريح في المنّ والتخصيص، وهو دليل واضح على أنّ الخلافة موهوبة من اللّه لعباده الذين اصطفى، وليست صفة مشتركة بين النّاس جميعًا؛ لا سيّما بالنظر إلى قوله: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ﴾[٨]؛ إذ من الواضح أنّ جميع النّاس ليسوا ممّن يحكم بين النّاس، وإنّما يحكم بينهم الحاكم، وهو الخليفة، وكذلك قوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾؛ لأنّه صريح في أنّ الخلافة من عند اللّه خاصّة بالذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا تعمّ النّاس جميعًا.
الثالث أنّ اللّه هو الذي يجعل في الأرض خليفة؛ لأنّه قال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾، وهذا مصداق قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾[٩]؛ كما قال لإبراهيم عليه السلام: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾[١٠]، وقال فيه وفي إسحاق ويعقوب عليهم السلام: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾[١١]. بناء على هذا، فإنّ جعل خليفة في الأرض وإمام للنّاس هو من شؤون اللّه، وليس من شؤون الناس؛ كما قال: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾[١٢]، وقال: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾[١٣]، وقال: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[١٤]، وأخبرنا بعض أصحابنا، قال:
دَخَلَ عَلَى الْمَنْصُورِ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ لِيُنَاظِرُوهُ فِي الْخِلَافَةِ، فَنَاظَرَهُمْ فِيهَا، وَكَانَ مِمَّا قَالَ لَهُمْ: أَلَا تَتَّقُونَ؟! أَلَا تَتُوبُونَ؟! فَقَدْ قَالَ اللَّهُ لَكُمْ: قُولُوا: ﴿اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾[١٥]، فَخَالَفْتُمُوهُ وَقُلْتُمْ: نَحْنُ مَالِكُو الْمُلْكِ، نُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ نَشَاءُ وَنَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ نَشَاءُ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ بَدَّلُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ![١٦]
وأخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَأَلَ الْمَنْصُورَ رَجُلٌ وَأَنَا حَاضِرٌ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، فَقَالَ: لَا يَزَالُ اللَّهُ جَاعِلًا فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً مُنْذُ وَعَدَهُ، إِمَّا ظَاهِرًا مَشْهُورًا وَإِمَّا خَائِفًا مَغْمُورًا، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، قَالَ الرَّجُلُ: إِنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا فِي الْعِرَاقِ خَلِيفَةً وَلَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنَّهُ الْخَلِيفَةُ! قَالَ: كَذَبُوا أَعْدَاءُ اللَّهِ، مَا قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: «إِنَّكُمْ جَاعِلُونَ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»، وَلَكِنْ قَالَ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ﴾، فَلَوْ جَعَلُوا فِيهَا خَلِيفَةً دُونَ الْخَلِيفَةِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهَا لَكَانُوا بِذَلِكَ مُشْرِكِينَ.[١٧]
الرابع أنّ اللّه يجعل خليفة في الأرض من يحكم بين النّاس بالحقّ ولا يتّبع الهوى؛ لأنّه قال لمن جعله خليفة في الأرض: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى﴾، وهو يعلم أنّه سيفعل ذلك، ولو علم أنّه لن يفعل ذلك لم يجعله خليفة في الأرض قطعًا؛ لأنّ جعله في تلك الحال ظلم، ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾[١٨]، ومن ثمّ لا يجعل في الأرض خليفة إلّا من يحكم بين النّاس بالحقّ ولا يتّبع الهوى؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَمِعَ الْمَنْصُورُ قَارِئًا يَقْرَأُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى﴾، فَرَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ: اسْمَعُوا! اسْمَعُوا! إِنَّمَا خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى، فَلَا يَغُرَّنَّكُمُ الَّذِينَ يَتَكَلَّفُونَ الْخِلَافَةَ وَهُمْ ظَالِمُونَ.[١٩]
ولذلك قال اللّه لإبراهيم عليه السلام حين سأله أن يجعل من ذرّيّته أئمّة للنّاس: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[٢٠]، بمعنى أنّه لا يجعل ظالمًا إمامًا للنّاس وإن كان من ذرّيّته، بل قال للملائكة من قبل حين سألوه ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾[٢١]، بمعنى أنّه أعلم منهم بمن يصلح للخلافة في الأرض، وهذه عبارة أخرى عن قوله: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾[٢٢]؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ إِذْ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، قَالَ: لَا يَكُونُ مَنْ يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ خَلِيفَةً، وَلَكِنَّ الْخَلِيفَةَ مَنْ يَعْدِلُ.[٢٣]
وأخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[٢٤]، مَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ؟ فَقَالَ: كَانَتْ أَسْمَاءَ خُلَفَاءِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾، فَعَلَّمَ آدَمَ أَسْمَاءَ خُلَفَائِهِ فِي الْأَرْضِ كُلَّهَا، لِيُنْبِأَ الْمَلَائِكَةَ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ خَلِيفَةً، وَلَكِنْ يَجْعَلُ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾[٢٥]، وَكَانَ الْمَهْدِيُّ وَاللَّهِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ.[٢٦]
وممّا يؤيّد هذا التفسير البديع لفظ ﴿هَؤُلَاءِ﴾ في قوله تعالى: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾؛ فإنّه اسم إشارة لجماعة العقلاء، وكذلك ضمير ﴿هُمْ﴾ في قوله تعالى: ﴿أَسْمَائِهِمْ﴾؛ فإنّه يستعمل غالبًا لجمع العاقل، وهذا دليل على أنّ الأسماء كانت أسماء جماعة من النّاس، وهم الذين يجعلهم اللّه خلفاء في الأرض، فلا يفسدون في الأرض ولا يسفكون الدماء؛ لأنّه لو كانت أسماء غيرهم لم يكن في قوله تعالى جواب لسؤال الملائكة، وهذا واضح جدًّا.
من هنا يعلم أنّ القرآن في باب الخلافة صريح بما فيه الكفاية، ويُفهم بأدنى تدبّر، ولذلك قال اللّه تعالى كمتعجّب: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[٢٧]، وقال: ﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾[٢٨]؛ لا سيّما مع الإلتفات إلى حكم العقل بضرورة وجود نائب من عند اللّه يكون واسطة في تعليم دينه وتطبيقه في الأرض بشكل كامل؛ لأنّ المرء إذا كان ملتفتًا إلى ذلك لم يفهم من القرآن غيره أصلًا، وهذا ما أراد اللّه بقوله: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾[٢٩]؛ بمعنى أنّ الآيات مبيّنة لمن يستخدم العقل، وإنّما تلتبس على الذين لا يستخدمون العقل. ثمّ لو كان هناك بعض الإجمال في آية من الآيات لزال ذلك بالرجوع إلى ما جاء عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بشكل متواتر؛ فقد جاء عنه بشكل متواتر ما يبيّن الآيات في هذا الباب؛ كحديث الثقلين، وحديث الخلفاء الراشدين المهديّين، والأحاديث التي ذكرها السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى في الباب الأوّل من دروسه، وهذا يرجع إلى قول اللّه للنّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[٣٠]، وقوله: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾[٣١].
ورد في بعض ما نقلتموه أنّ السيّد يقول بوجوب وجود خليفة للّه في أرضه في كلّ زمان، ومن دليله على ذلك قوله تعالى: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»، و «جاعل» على وزن «فاعل» تفيد الإستمرار، لكنّ اللّه عزّ ذكره قال في آية أخرى: «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ»، فقال «خالق» ولم يكن قد سوّاه، وهذا دليل على أنّ صيغة «جاعل» تعني حتميّة وجود الشيء، وقد لا يكون موجودًا الآن، وإنّما في المستقبل، فقد يمهّد الأمور لجعل الخليفة؛ كما لو قال قائل: «إنّي بانٍ سفينة» ولم يكن قد بناها، وإنّما عزم على بنائها، وبدأ بتهيئة الأمور تدريجيًّا. فما هو ردّكم وما هو دليلكم على وجوب وجود الخليفة في كلّ زمان، وأنّه لا يخلو منه زمان؟
الأدلّة العقليّة والشرعيّة على أنّ الأرض لا تخلو من خليفة اللّه تعالى كثيرة، وقد بيّنها السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى في كتاب «العودة إلى الإسلام»[١]، وفي الباب الأوّل من دروسه[٢]، فراجع، وأمّا الشبهة التي قدّمتها في دلالة صيغة «الجاعل»، فقد نشأت من عدم التدبّر الكافي؛ لأنّ دلالتها على حتميّة الجعل في المستقبل، لا تنافي دلالتها على استمرار الجعل بعد وقوعه، فيكون مدلولها حتميّة الجعل في المستقبل بشكل مستمرّ؛ كما في قوله تعالى: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا﴾[٣]؛ فإنّه يدلّ على أنّه لا يخلق بشرًا واحدًا فقطّ، وهو آدم عليه السلام، بل يستمرّ في خلق البشر، وكذلك في قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾[٤]؛ لأنّ المراد أنّه يجعله إمامًا لكلّ قرن من النّاس إلى يوم القيامة ليقتدوا بهديه وسنّته، لا لأهل زمانه فقطّ، ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾[٥]؛ لأنّه أحبّ أن يجعل اللّه لكلّ قرن من النّاس إمامًا حيًّا من ذرّيّته، فأجابه اللّه، إلّا أنّه قال: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[٦]، يعني أنّه يجعل لهم إمامًا عادلًا من ذرّيّته، ولا يجعل لهم إمامًا ظالمًا منهم.
نعم، إذا كان هناك قرينة تمنع دلالة الصيغة على استمرار الفعل فلا بحث؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾[٧]؛ فإنّ ﴿غَدًا﴾ يمنع استمرار الفعل بعد غدٍ، وكذلك في قول القائل: «إنّي بانٍ سفينة»؛ فإن دلّت الحال على أنّه يريد أو يستطيع بناء سفينة واحدة فقطّ فلا يدلّ قوله على الإستمرار حسب الظاهر، مع أنّ بناء سفينة واحدة أيضًا فيه نوع من الإستمرار بالنسبة إليه؛ لأنّه يستلزم أفعالًا كثيرة منه كلّ واحد منها مصداق لبناء السفينة؛ كما إذا سئل الباني، وهو يقطع خشبة: «ماذا تفعل؟» جاز له أن يقول: «أبني سفينة»، ولذلك لا يعني قوله: «إنّي بانٍ سفينة» إلّا أنّي سأشرع في بنائها، ثمّ أستمرّ فيه، حتّى أفرغ منه. هذا يعني أنّ الصيغة المذكورة تُستعمل في الأفعال التي فيها نحو من الإستمرار بالنسبة إلى الفاعل. فإن كان الفاعل هو اللّه فلا معنى لاستمرار الفعل إلّا إبقاءه أو تكراره؛ لأنّه ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[٨]، وما أمره ﴿إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾[٩]، وعلى هذا فإنّ قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ لا يعني إلّا أنّه يجعل في الأرض خليفة واحدة فيبقيه فيها، أو يجعل في الأرض خلفاء واحدًا بعد واحد حتّى تقوم الساعة، وهذا هو الذي فعله؛ لأنّه قبض آدم عليه السلام ولم يبقه في الأرض، وإلى هذا أشار أهل البيت عليهم السلام إذ قالوا: «وَاللَّهِ مَا تَرَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْأَرْضَ قَطُّ مُنْذُ قَبَضَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا وَفِيهَا إِمَامٌ يُهْتَدَى بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، مَنْ تَرَكَهُ هَلَكَ وَمَنْ لَزِمَهُ نَجَا، حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، وقالوا: «إِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي هَبَطَ مَعَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُرْفَعْ، وَالْعِلْمُ يُتَوَارَثُ، وَإِنَّهُ لَمْ يَمُتْ عَالِمٌ إِلَّا خَلَّفَ مِنْ بَعْدِهِ مَنْ يَعْلَمُ مِثْلَ عِلْمِهِ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ»[١٠].