ماذا يجوز للمرأة أن تنظر إليه من الرجل؟ أيجوز لها النظر إلى صدره بدون شهوة؟
اختلف أهل العلم في حكم نظر المرأة إلى الرجل بغير شهوة؛ فقال بعضهم: يجوز لها النظر منه إلى ما ليس بعورة، وهو ما فوق السرة وتحت الركبة، واستدلّوا على ذلك بحديث عائشة أنّها قالت: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ»[١]، وحديث فاطمة بنت قيس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال لها: «اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكِ عِنْدَهُ، وَلَا يَرَاكِ»[٢]، ولكنّهم لم يصنعوا شيئًا؛ لأنّه لا دليل هناك على أنّ الحبشة لم يكن عليهم ثياب في المسجد غير ما يستر عوراتهم، ولا على أنّ ابن أمّ مكتوم كان يضع ثيابه عند فاطمة بنت قيس، وقال بعضهم: لا يجوز لها النظر منه إلّا إلى مثل ما ينظر إليه منها، وهو الوجه والكفّان، واستدلّوا على ذلك برواية نبهان، عن أمّ سلمة، قالت: «كُنْتُ أَنَا وَمَيْمُونَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ يَسْتَأْذِنُهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أُمِرَ بِالْحِجَابِ، فَقَالَ: قُومَا، وَاحْتَجِبَا مِنْهُ، فَقُلْنَا: إِنَّهُ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا، فَقَالَ: أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا لَا تُبْصِرَانِهِ؟!»[٣]، ولكنّهم أيضًا لم يصنعوا شيئًا؛ لأنّه لا دليل هناك على أنّ ابن أمّ مكتوم لم يكن ساترًا لغير وجهه وكفّيه حين جاء يستأذن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، والقول الوسط الذي قاله السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى هو أنّ المرأة لا يجوز لها النظر من الرجل إلّا إلى مواضع الوضوء، وهو الوجه والرأس واليدان إلى المرفقين والرجلان إلى الكعبين؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
قُلْتُ لِلْمَنْصُورِ: مَاذَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي لَيْسَ لَهَا بِذِي مَحْرَمٍ؟ قَالَ: تَنْظُرُ إِلَى مَا يَكْشِفُ عَنْهُ لِلْوُضُوءِ، وَلَا تَنْظُرُ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾[٤]، قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: تَنْظُرُ إِلَى مَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَتَحْتَ الرُّكْبَةِ، قَالَ: ذَاكَ لِذَاتِ الْمَحْرَمِ.
هذا هو العدل الذي ليس فيه تساهل القول الأوّل المؤدّي إلى الفساد، ولا تشدّد القول الثاني المؤدّي إلى الحرج، ولا ينافيه حديث عائشة؛ لأنّه ليس فيه أنّها نظرت إلى غير وجوههم ورؤوسهم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين، بل الظاهر منه أنّها نظرت إلى بعضها فقطّ، وكذلك حديث فاطمة بنت قيس؛ لأنّه ليس فيه أنّ ابن أمّ مكتوم لم يكن يستر عندها ما فوق سرته وتحت ركبته، بل المحتمل جدًّا أنّه كان يستر جسده كلّه إلّا مواضع الوضوء، والدليل على هذا القول ما ذكر السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى من كتاب اللّه؛ فإنّه أوجب غضّ البصر على النساء كما أوجبه على الرّجال، فقال: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾[٥]، ووحدة سياقهما تدلّ على أنّ النساء يغضضن من أبصارهنّ مثل ما يغضّ الرجال من أبصارهم على حدّ سواء، فلا ينظرن منهم إلّا إلى مثل ما ينظرون إليه منهنّ، وهو ما لم يكن العادة ستره قبل أن ينزل اللّه قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾[٦]، وقوله: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾[٧]، والشيء الذي لم يكن العادة ستره قبل أن ينزلهما اللّه هو المواضع التي لا بدّ من كشفها للوضوء، وهو الوجه والرأس واليدان إلى المرفقين والرجلان إلى الكعبين، وكانت سيرة المسلمين ستر غيرها، ولذلك كان مفهومهم لغضّ البصر غضّه عن النظر إلى ما دون ذلك من الرجال والنساء. فلمّا أنزل اللّه قوله في الجلابيب والخُمر زاد في ستر النساء، فأوجب عليهنّ ستر رؤوسهنّ وأيديهنّ وأرجلهنّ إلّا ما يظهر منها للحاجة، وهو الوجه والكفّان، وترك ستر الرجال على حاله.
بناء على هذا، فلا يجوز للرجل أن ينظر إلى شيء من المرأة إلّا وجهها وكفّيها، ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى شيء من الرجل إلّا وجهه ورأسه ويديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين، وقد روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «النَّظَرُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ»[٨]، والنظر في قوله مطلق يشمل نظر الرجال والنساء جميعًا؛ كما قال: «زِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ»[٩]، والزنا يتحقّق في الرجال والنساء جميعًا، ولا شكّ أنّ للنساء شهوة مثل ما للرجال، بل روي «أَنَّ الشَّهْوَةَ جُعِلَتْ عَلَى عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ، وَجُعِلَتْ تِسْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْهَا فِي النِّسَاءِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الرِّجَالِ»[١٠]، وهذا يقتضي وجوب احترازهنّ عن النظر إلى مواضع من الرجال قد تهيّج شهوتهنّ، وهي المواضع التي يسترونها غالبًا؛ لأنّ الموضع الذي يُستر غالبًا إذا انكشف كان من شأنه أن يثير الشهوة، ولا فرق في هذا بين الرجال والنساء، والنساء أحقّ بالحياء من الرجال لما جعل اللّه في طبيعتهنّ، وليس من الحياء أن ينظرن إلى بطون الرجال وثُديّهم، وهذا حكم مهمّ من أحكام اللّه قد أهملته كثير منهنّ، وأعانهنّ على ذلك كثير من الرجال بجهلهم؛ فإنّهم يجعلونهنّ بمنزلة الرجال، فلا يبالون بستر أجسادهم عندهنّ إذا كانت عوراتهم مستورة، مع أنّهنّ لسن بمنزلة الرجال لما جعل اللّه في طبيعتهنّ من الرغبة فيهم، فيجب عليهم الستر عندهنّ، ويجب عليهنّ أن يغضضن من أبصارهنّ، فلا ينظرن منهم إلّا إلى مواضع الوضوء.