لا خلاف في جواز قتل العقور من الكلاب، لظهور الضرر في بقائه، ولكن اختُلف في جواز قتل سائر الكلاب؛ فقال قوم بجوازه، لما روي «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ»[١]، وظاهرها العموم، بل روي أنّه أمر بعض أصحابه أن لا يدع كلبًا إلّا قتله[٢]، فقتل الكلاب كلّها غير كلب واحد لامرأة من البادية قالت: «إِنِّي امْرَأَةٌ بِدَارِ مَضْيَعَةٍ، وَإِنَّ هَذَا الْكَلْبَ يَطْرُدُ عَنِّي السِّبَاعَ، وَيُؤْذِنُنِي بِالْجَائِي، فَائْتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَاذْكُرْ لَهُ ذَلِكَ»، فأتى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وذكر ذلك له، فأمره بقتله[٣]، وقال قوم بأنّه غير جائز؛ لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نهى عنه بعد الأمر به، فصار منسوخًا؛ كما روي عن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ، قال: «أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ تَقْدَمُ مِنَ الْبَادِيَةِ بِكَلْبِهَا فَنَقْتُلُهُ، ثُمَّ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهَا وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ»[٤]، وروي عن عبد اللّه بن مغفّل، قال: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ قَالَ: مَالِي وَلِلْكِلَابِ؟!»، أو قال: «مَا بَالُ الْكِلَابِ؟!»، أو قال: «مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ؟!»[٥]، وقال: «لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا، فَاقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ»[٦]، وهذا صريح في النسخ، ولذلك لا يجوز قتل الكلاب إلّا العقور والأسود البهيم منها، وقد قيل: «إِنَّ الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ مِنْهَا أَضَرُّهَا وَأَعْقَرُهَا، وَالْكَلِبُ إِلَيْهِ أَسْرَعُ مِنْهُ إِلَى جَمْعِهَا، وَهُوَ مَعَ هَذَا أَقَلُّهَا نَفْعًا، وَأَسْوَؤُهَا حِرَاسَةً، وَأَبْعَدُهَا مِنَ الصَّيْدِ، وَأَكْثَرُهَا نُعَاسًا، وَقَالَ: ”هُوَ شَيْطَانٌ“ يُرِيدُ: أَنَّهُ أَخْبَثُهَا، كَمَا يُقَالُ: فَلَانٌ شَيْطَانٌ»[٧]، ولذلك رخّص في قتله.
هذان قولان لأهل العلم، والقول الأوّل أقرب من الصواب؛ لأنّه روي أنّ أبا بكر أمر بقتل الكلاب، ولعبد اللّه بن جعفر كلب تحت سرير أبي بكر، فقال: «يَا أَبَتِ، كَلْبِي»، فقال: «لَا تَقْتُلُوا كَلْبَ ابْنِي»، ثمّ أمر به فأُخذ[٨]، وروي أنّ عثمان أيضًا كان يأمر بقتل الكلاب[٩]، ولم يُرو عن أحد من الصحابة مخالفتهما، وفي هذا دلالة على أنّ ذلك لم يكن عندهم منسوخًا، ولكن ليس المراد جواز قتل الكلاب عبثًا؛ كيف؟! وقد روي فضل الإحسان بكلّ مخلوق، والترحّم عليه؛ كما روي: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»[١٠]، وروي: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ»[١١]، وروي: «إِنَّ بَغِيَّةً مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مَرَّتْ عَلَى بِئْرٍ، وَكَلْبٌ عَلَيْهَا يَلْهَثُ كَادَ أَنْ يَنْقَطِعَ عُنُقُهُ عَطَشًا، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا، فَاسْتَقَتْ لَهُ، فَسَقَتْهُ حَتَّى رَوَى، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهَا بِرَحْمَتِهَا الْكَلْبَ، وَتَابَ عَلَيْهَا»[١٢]، بل المراد جواز قتل الكلاب إذا كان في ذلك مصلحة، وهذا ما نبّه عليه سيّدنا المنصور حفظه اللّه تعالى؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
سَأَلْتُهُ عَنْ قَتْلِ الْكِلَابِ، فَقَالَ: كَثُرَتِ الْكِلَابُ فِي الْمَدِينَةِ، حَتَّى تَأَذَّى النَّاسُ مِنْهَا، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهَا، قُلْتُ: قَتْلِهَا جَمِيعًا، أَوْ قَتْلِ مَا يُؤْذِي مِنْهَا؟ قَالَ: إِنَّهَا إِذَا كَثُرَتْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ نَوْمٌ، أَلَمْ تَسْمَعْ نُبَاحَهَا بِاللَّيَالِي؟! أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ آذَتْنِي لَيْلَةً حَتَّى قُلْتُ: مَا بَالُهَا؟! قَاتَلَهَا اللَّهُ! فَإِذَا كَثُرَتْ عَلَى النَّاسِ بِمَا آذَاهُمْ جَازَ لِلْإِمَامِ تَقْلِيلُهَا، فَسَكَتَ هُنَيَّةً، ثُمَّ قَالَ: مَنْ قَتَلَ دَابَّةً عَبَثًا أَوْ عَذَّبَهَا عُذِّبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
بناء على هذا، يجوز قتل الكلاب إذا آذت الناس، أي أخلّت بأمنهم أو صحّتهم أو راحتهم، ولا يجوز قتلها في غير هذه الحالة، ولا يجوز تعذيبها مطلقًا.