هل الحجامة سنّة؟
الحجامة طريقة علاجيّة قديمة تعتمد على شفط الدّم بالكأس، ويتمّ إجراؤها بهدف علاج بعض الأمراض أو تخفيف بعض الآلام بطريقتين: الرطبة بإخراج الدّم من البدن، والجافّة بغير إخراج الدّم من البدن[١]. من الواضح أنّ هذه الطريقة العلاجيّة من العادات، وليست من العبادات أو الأخلاق حتّى يقال أنّها سنّة. إنّها كانت معمولًا بها في آشور منذ ٣٣٠٠ قبل الميلاد، وتدلّ نقوش المقابر على أنّ الفراعنة استخدموها منذ ٢٢٠٠ قبل الميلاد، وكذلك كانت معمولًا بها في الصين واليونان والعرب قبل الإسلام، ولذلك لا يمكن اعتبارها طريقة علاجيّة إسلاميّة؛ كما اعتبرها بعض الروايات شيئًا من «طبّ العرب»[٢]، وقد أعرض عنها أكثر الأطبّاء في زماننا هذا، وقالوا أنّها لا يوجد أيّ دليل علميّ على وجود أيّ فائدة صحّيّة لها، وقد بالغ بعضهم في رفضها حتّى اعتبروها علمًا زائفًا أو نوعًا من الدّجل، ولكن هناك روايات متواترة تدلّ على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأهل بيته كانوا يمارسونها ويجوّزونها، وفي هذا دلالة واضحة على أنّها ليست ممّا لا يرجى منه خير؛ لأنّهم كانوا أعقل وأحكم من أن يُخدَعوا بالأباطيل والإشاعات الكاذبة. نعم، من الممكن أن كان ذلك من باب الجري مع العرف والإعتماد على قول أطبّاء الزمان، ولذلك لا يمكن الإستناد إليه لإثبات أنّها نافعة حقًّا، ولكن هناك روايات تدلّ على أنّهم اعتبروها نافعة؛ كما جاء عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال بصراحة: «إِنَّ فِيهِ شِفَاءً»[٣]، فإن صحّت هذه الروايات فلا يمكن حملها على مجرّد الجري مع العرف والإعتماد على قول أطبّاء الزمان؛ لأنّ العرف وقول أطبّاء الزمان ليس ممّا يفيد العلم حتّى يجوز الحكم على أساسه، وحاشا أن يحكم النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بأنّ الحجامة نافعة بغير علم، وقد قال اللّه تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾[٤]، فإن ثبت منه هذا الحكم فلا مجال للشكّ في أنّ الحجامة نافعة قطعًا إذا تمّ إجراؤها بشكل صحيح وفي وقت مناسب ومع مراعاة مبادئ النظافة، لكنّ الإنصاف أنّه غير ثابت؛ لأنّ معظم الروايات لا تدلّ على أكثر من أنّه فعلها وجوّزها، والروايات الدّالّة على أنّه اعتبرها نافعة لا تبلغ حدّ التواتر؛ لا سيّما بالنظر إلى أنّ أكثرها غير صريحة؛ لأنّها وردت من بعض الطرق بسياق التردّد دون الحكم؛ كما روى أنس بن مالك وسمرة بن جندب أنّه قال: «خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ»[٥]، وروى جابر بن عبد اللّه وابن عمر أنّه قال: «إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ»[٦]، وروى أبو هريرة أنّه قال: «إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِمَّا تَدَاوَوْنَ بِهِ خَيْرٌ فَفِي الْحِجَامَةِ»[٧]، ولا شكّ أنّه أراد ما كان العرب يتداوون به في زمانه، ولم يرد ما يتداوى به الناس كلّهم إلى يوم القيامة، ولذلك ليس قوله هذا صريحًا في أنّ الحجامة نافعة حتمًا؛ إذ ليس من المعلوم أن كان في شيء ممّا كان العرب يتداوون به في ذلك الزمان خير، ومن الجائز أن يقال لما هو أقلّ شرًّا من غيره أنّه خير من غيره.
بناء على هذا، فإنّ الحجامة ليست ممّا سنّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حتّى يصحّ القول بأنّها سنّة، بل كانت من الطبّ المتداول بين العرب والعجم منذ ما قبل الإسلام، وليس من الثابت القطعيّ كونها نافعة، كما هو الحال في كثير من الأدوية والطرق العلاجيّة، وإنّما فعلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عندما وصفها له أطبّاء زمانه رجاء أن تكون نافعة بإذن اللّه، فقد روي أنّه كان يدعو الأطبّاء لنفسه وأصحابه؛ كما روت عائشة قالت: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ رَجُلًا مِسْقَامًا، وَكَانَ أَطِبَّاءُ الْعَرَبِ يَأْتُونَهُ»[٨]، وروى جابر بن عبد اللّه قال: «عَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَرِيضًا فَقَالَ: أَلَا تَدْعُو لَهُ طَبِيبًا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنْتَ تَأْمُرُنَا بِهَذَا؟! فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ مَعَهُ دَوَاءً»[٩]، وروى زيد بن أسلم قال: «أَنَّ رَجُلًا أَصَابَهُ جُرْحٌ، فَاحْتَقَنَ الدَّمُ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي أَنْمَارٍ، فَقَالَ: أَيُّكُمَا أَطَبُّ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ فِي الطِّبِّ خَيْرٌ؟ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ»[١٠]، وروى أبو هريرة قال: «احْتَفَّ بِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ طَبِيبَيْنِ كَانَا بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: عَالِجَاهُ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نُعَالِجُ وَنَحْتَالُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ فَمَا هُوَ إِلَّا التَّوَكُّلُ! فَقَالَ: عَالِجَاهُ، فَإِنَّ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ، ثُمَّ جَعَلَ فِيهِ شِفَاءً، فَعَالَجَاهُ فَبَرَأَ»[١١].
الحاصل أنّ الحجامة مباحة عند الحاجة إليها، ويرجى أن تكون نافعة إذا تمّت ممارستها بشكل صحيح وفي وقت مناسب ومع مراعاة مبادئ النظافة، ولعلّها إن تمّت ممارستها تأسّيًا بالنبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أن يبارَك فيها، وإنّما يعرف الحاجة إليها الطبيب كما هو الحال في سائر المعالجات الطبّيّة، وهذه نكتة مهمّة نبّه عليها السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى في بعض حِكَمه؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنِ الْحِجَامَةِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا إِذَا وَصَفَهَا الطَّبِيبُ، قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ أَنَّهَا سُنَّةٌ، فَقَالَ: إِنَّهَا سُنَّةٌ إِذَا وَصَفَهَا الطَّبِيبُ، وَكَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَطِبَّاءٌ يَصِفُونَ لَهُ حِينَ يُصِيبُهُ أَلَمٌ أَوْ دَاءٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا يُقَالُ لِشَيْءٍ يُدْرِكُهُ الْعُقُولُ أَنَّهُ سُنَّةٌ إِلَّا تَوَسُّعًا، إِنَّمَا السُّنَّةُ مَا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -يَعْنِي أَنَّهُ بَدَأَ بِعَمَلِهِ وَتَبِعَهُ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ- وَكَانَتِ الْحِجَامَةُ مِنَ الطِّبِّ الْقَدِيمِ.