الحديث ٤٢
«اتِّصَالُ الْوَصِيَّةِ بَيْنَ خُلَفَاءِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ»
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ [ت٣٢٩هـ] فِي «الْكَافِي»[١]، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ؛ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَابَوَيْهِ [ت٣٨١هـ] فِي «كَمَالِ الدِّينِ وَتَمَامِ النِّعْمَةِ»[٢]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ جَمِيعًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ:
«لَمَّا انْقَضَتْ نُبُوَّةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَكْمَلَ أَيَّامَهُ، أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ أَنْ يَا آدَمُ، قَدِ انْقَضَتْ نُبُوَّتُكَ وَاسْتَكْمَلْتَ أَيَّامَكَ، فَاجْعَلِ الْعِلْمَ الَّذِي عِنْدَكَ وَالْإِيمَانَ وَالْإِسْمَ الْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ الْعِلْمِ وَآثَارَ عِلْمِ النُّبُوَّةِ فِي الْعَقِبِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ عِنْدَ هِبَةِ اللَّهِ، فَإِنِّي لَنْ أَقْطَعَ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَالْإِسْمَ الْأَكْبَرَ وَآثَارَ النُّبُوَّةِ مِنَ الْعَقِبِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَنْ أَدَعَ الْأَرْضَ إِلَّا وَفِيهَا عَالِمٌ يُعْرَفُ بِهِ دِينِي، وَتُعْرَفُ بِهِ طَاعَتِي، وَيَكُونُ نَجَاةً لِمَنْ يُولَدُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ»، قَالَ: «ثُمَّ إِنَّ هِبَةَ اللَّهِ لَمَّا دَفَنَ أَبَاهُ أَتَاهُ قَابِيلُ، فَقَالَ: يَا هِبَةَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَبِي آدَمَ قَدْ خَصَّكَ مِنَ الْعِلْمِ بِمَا لَمْ أُخَصَّ بِهِ أَنَا، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي دَعَا بِهِ أَخُوكَ هَابِيلُ فَتُقُبِّلَ قُرْبَانُهُ، وَإِنَّمَا قَتَلْتُهُ لِكَيْلَا يَكُونَ لَهُ عَقِبٌ، فَيَفْتَخِرُونَ عَلَى عَقِبِي، فَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَبْنَاءُ الَّذِي تُقُبِّلَ قُرْبَانُهُ، وَأَنْتُمْ أَبْنَاءُ الَّذِي تُرِكَ قُرْبَانُهُ، فَإِنَّكَ إِنْ أَظْهَرْتَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي اخْتَصَّكَ بِهِ أَبُوكَ شَيْئًا قَتَلْتُكَ كَمَا قَتَلْتُ أَخَاكَ هَابِيلَ، فَلَبِثَ هِبَةُ اللَّهِ وَالْعَقِبُ مِنْهُ مُسْتَخْفِينَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِسْمِ الْأَكْبَرِ وَمِيرَاثِ النُّبُوَّةِ وَآثَارِ عِلْمِ النُّبُوَّةِ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ»، قَالَ: «ثُمَّ إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا انْقَضَتْ نُبُوَّتُهُ وَاسْتُكْمِلَتْ أَيَّامُهُ، أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ أَنْ يَا نُوحُ، قَدْ قَضَيْتَ نُبُوَّتَكَ وَاسْتَكْمَلْتَ أَيَّامَكَ، فَاجْعَلِ الْعِلْمَ الَّذِي عِنْدَكَ وَالْإِيمَانَ وَالْإِسْمَ الْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ الْعِلْمِ وَآثَارَ عِلْمِ النُّبُوَّةِ فِي الْعَقِبِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ، فَإِنِّي لَنْ أَقْطَعَهَا كَمَا لَمْ أَقْطَعْهَا مِنْ بُيُوتَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَنْ أَدَعَ الْأَرْضَ إِلَّا وَفِيهَا عَالِمٌ يُعْرَفُ بِهِ دِينِي، وَتُعْرَفُ بِهِ طَاعَتِي، وَيَكُونُ نَجَاةً لِمَنْ يُولَدُ فِيمَا بَيْنَ قَبْضِ النَّبِيِّ إِلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ الْآخَرِ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الظَّاهِرُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْفُضَيْلِ الَّذِي يَرْوِي عَنْ أَبِي حَمْزَةَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ الضَّبِّيُّ الثِّقَةُ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، لَهُ طُرُقٌ وَشَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ:
الشاهد ١
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ الْعَيَّاشِيُّ [ت٣٢٠هـ] فِي «تَفْسِيرِهِ»[٣]، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ حَبِيبٍ السِّجِسْتَانِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ فِي حَدِيثِ: «لَمَّا دَنَا أَجَلُ آدَمَ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَا آدَمُ، إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُ رُوحِكَ إِلَيَّ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَأَوْصِ إِلَى خَيْرِ وُلْدِكَ، وَهُوَ هِبَتِي الَّذِي وَهَبْتُهُ لَكَ، فَأَوْصِ إِلَيْهِ، وَسَلِّمَ إِلَيْهِ مَا عَلَّمْنَاكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْإِسْمِ الْأَعْظَمِ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ فِي تَابُوتٍ، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ لَا تَخْلُوَ أَرْضِي مِنْ عَالِمٍ يَعْلَمُ عِلْمِي وَيَقْضِي بِحُكْمِي، أَجْعَلُهُ حُجَّتِي عَلَى خَلْقِي»، قَالَ: «فَجَمَعَ آدَمُ إِلَيْهِ جَمِيعَ وُلْدِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا وُلْدِي، إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنَّهُ رَافِعٌ إِلَيْهِ رُوحِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أُوصِيَ إِلَى خَيْرِ وُلْدِي، وَأَنَّهُ هِبَةُ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ اخْتَارَهُ لِي وَلَكُمْ مِنْ بَعْدِي، اسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا أَمْرَهُ، فَإِنَّهُ وَصِيِّي وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا جَمِيعًا: نَسْمَعُ لَهُ وَنُطِيعُ أَمْرَهُ وَلَا نُخَالِفُهُ»، قَالَ: «فَأَمَرَ بِالتَّابُوتِ فَعُمِلَ، ثُمَّ جَعَلَ فِيهِ عِلْمَهُ وَالْأَسْمَاءَ وَالْوَصِيَّةَ، ثُمَّ دَفَعَهَا إِلَى هِبَةِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: إِذَا حَضَرَتْ وَفَاتُكَ وَأَحْسَسْتَ بِذَلِكَ مِنْ نَفْسِكَ، فَالْتَمِسْ خَيْرَ وُلْدِكَ وَأَلْزَمَهُمْ لَكَ صُحْبَةً وَأَفْضَلَهُمْ عِنْدَكَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَوْصِ إِلَيْهِ بِمِثْلِ مَا أَوْصَيْتُ بِهِ إِلَيْكَ، وَلَا تَدَعَنَّ الْأَرْضَ بِغَيْرِ عَالِمٍ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ. يَا بُنَيَّ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَهْبَطَنِي إِلَى الْأَرْضِ، وَجَعَلَنِي خَلِيفَتَهُ فِيهَا، حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ، فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَجَعَلْتُكَ حُجَّةً لِلَّهِ عَلَى خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ بَعْدِي، فَلَا تَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تَدَعَ لِلَّهِ حُجَّةً وَوَصِيًّا، وَتُسَلِّمَ إِلَيْهِ التَّابُوتَ وَمَا فِيهِ كَمَا سَلَّمْتُهُ إِلَيْكَ، وَأَعْلِمْهُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَجُلٌ اسْمُهُ نُوحٌ، يَكُونُ فِي نُبُوَّتِهِ الطُّوفَانُ وَالْغَرَقُ، فَمَنْ رَكِبَ فِي فُلْكِهِ نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ فُلْكِهِ غَرِقَ، وَأَوْصِ وَصِيَّكَ أَنْ يَحْفَظَ بِالتَّابُوتِ وَبِمَا فِيهِ، فَإِذَا حَضَرَتْ وَفَاتُهُ أَنْ يُوصِيَ إِلَى خَيْرِ وُلْدِهِ وَأَلْزَمِهِمْ لَهُ وَأَفْضَلِهِمْ عِنْدَهُ، وَيُسَلِّمَ إِلَيْهِ التَّابُوتَ وَمَا فِيهِ، وَلْيَضَعْ كُلُّ وَصِيٍّ وَصِيَّتَهُ فِي التَّابُوتِ، وَلْيُوصِ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَمَنْ أَدْرَكَ نُبُوَّةَ نُوحٍ فَلْيَرْكَبْ مَعَهُ، وَلْيَحْمِلِ التَّابُوتَ وَجَمِيعَ مَا فِيهِ فِي فُلْكِهِ، وَلَا يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ»، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ أَنَّ هِبَةَ اللَّهِ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ قَيْنَانِ، وَقَيْنَانَ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ مِهْلَائِيلَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا حَضَرَتْ نُوحًا الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ سَامَ، وَسَلَّمَ التَّابُوتَ وَجَمِيعَ مَا فِيهِ وَالْوَصِيَّةَ. قَالَ حَبِيبٌ السِّجِسْتَانِيُّ: ثُمَّ انْقَطَعَ حَدِيثُ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَهَا.
الشاهد ٢
وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ [ت٣٦٩هـ] فِي «الْعَظَمَةِ»[٤]، قَالَ: قَالَ جَدِّي: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي يَعْقُوبَ يُوسُفَ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ التَّمِيمِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ فِي حَدِيثٍ: «لَمَّا اسْتَكْمَلَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيَّامَ نُبُوَّتِهِ، أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ أَنْ يَا آدَمُ، إِنِّي قَدِ اسْتَكْمَلْتُ نُبُوَّتَكَ وَأَيَّامَكَ، فَانْظُرِ الْإِسْمَ الْأَكْبَرَ وَمِيزَانَ عِلْمِ النُّبُوَّةِ، فَادْفَعْهُ إِلَى ابْنِكَ شِيثٍ، فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ لِأَتْرُكَ الْأَرْضَ إِلَّا وَفِيهَا عَالِمٌ يَدُلُّ عَلَى طَاعَتِي وَيَنْهَى عَنْ مَعْصِيَتِي، فَدَفَعَ الْوَصِيَّةَ إِلَى ابْنِهِ شِيثٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْفِيَهَا مِنْ قَابِيلَ وَوُلْدِهِ، لِأَنَّ قَابِيلَ كَانَ قَدْ قَتَلَ هَابِيلَ حَسَدًا مِنْهُ، حِينَ خَصَّهُ آدَمُ بِالْعِلْمِ، وَاسْتَخْفَى شِيثٌ وَوُلْدُهُ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ قَابِيلَ وَوُلْدِهِ عِلْمٌ يَنْتَفِعُونَ بِهِ، فَلَمْ يَزَلْ هِبَةُ اللَّهِ يُدَبِّرُ أَمْرَ اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِحَلَالِ مَا اسْتُودِعَ وَيَنْهَى عَنْ حَرَامِهِ، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ، أَوْحَى عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَوْدِعَ عِلْمَ اللَّهِ وَنُورَهُ وَتَفْصِيلَ حِكْمَتِهِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ إِلَى أَنُوشَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمْ يَزَلْ أَنُوشُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُدَبِّرُ ذَلِكَ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ، يَأْمُرُ الْمُؤْمِنِينَ بِحَلَالِ مَا فِيهِ وَيَنْهَى عَنْ حَرَامِهِ، فَمَنْ آمَنَ مِنَ النَّاسِ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ كَانَ مُؤْمِنًا، وَمَنْ جَحَدَهُ بِمَا جَاءَ بِهِ كَانَ كَافِرًا، قَدْ أَخْرَجَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِيمَانِهِ بِجُحُودِهِ أَمْرَ وَلِيِّ اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ، أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَوْدِعَ نُورَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحِكْمَتَهُ وَعِلْمَهُ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَيْنَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمْ يَزَلْ قَيْنَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُدَبِّرُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا اسْتُودِعَ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ، وَيُعَلِّمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ حَلَالَ مَا فِيهِ وَيَنْهَى عَنْ حَرَامِهِ سِرًّا لَا يُعْلِمُ بِهِ مَخَافَةً عَلَى نَفْسِهِ مِنْ عُوجَ وَوُلْدِ قَابِيلَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتَارَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنُبُوَّتِهِ وَانْتَخَبَ لِرِسَالَتِهِ إِدْرِيسَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمِيعِ أَرْضِهِ، فَجَمَعَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ عِلْمَ الْمَاضِينَ كُلِّهِمْ مِنْ قَبْلِهِ، وَزَادَهُ مِنْ عِنْدِهِ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً، فَلَمْ يَزَلْ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُدَبِّرُ عِلْمَ اللَّهِ وَنُورَهُ وَتَفْصِيلَ حِكْمَتِهِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَيْهِ، أَوْحَى إِلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَوْدِعَ عِلْمَ اللَّهِ وَنُورَهُ وَتَفْصِيلَ حِكْمَتِهِ ابْنَهُ يَزْدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمْ يَزَلْ يَزْدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَحْفَظُ مَا اسْتُودِعَ مِنْ نُورِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، وَيُعَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَعَهُ حَلَالَ مَا اسْتُودِعَ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ حَرَامِهِ، فَمَنْ أَقَرَّ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بِوَلَايَتِهِ كَانَ مُؤْمِنًا، وَمَنْ جَحَدَ وَحَارَبَهُ كَانَ كَافِرًا، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ، أَوْحَى إِلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَوْدِعَ النُّورَ وَالْحِكْمَةَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ مَتُوشَلَخَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمْ يَزَلْ مَتُوشَلَخُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُدَبِّرُ عِلْمَ اللَّهِ وَنُورَهُ وَتَفْصِيلَ حِكْمَتِهِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، فَمَنْ أَقَرَّ مِنَ النَّاسِ بِوَلَايَتِهِ كَانَ مُؤْمِنًا، وَمَنْ جَحَدَ وَلَايَتَهُ كَانَ كَافِرًا لَا يَنْتَفِعُ بِإِيمَانِهِ وَلَوْ عَبَدَ اللَّهَ تَعَالَى حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ أَبَدًا حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ، أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَوْدِعَ نُورَهُ وَتَفْصِيلَ حِكْمَتِهِ ابْنَهُ لَمَكَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمْ يَزَلْ لَمَكُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُدَبِّرُ ذَلِكَ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَالنُّورَ، وَيَأْمُرُ بِحَلَالِ مَا اسْتُودِعَ وَيَنْهَى عَنْ حَرَامِهِ، حَتَّى اخْتَارَ الْجَبَّارُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنُبُوَّتِهِ وَانْتَخَبَ لِرِسَالَتِهِ نُوحًا صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا، فَجَمَعَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنُوحِ بْنِ لَمَكَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عِلْمَ الْمَاضِينَ كُلِّهِمْ، وَأَيَّدَهُ بِرُوحٍ مِنْهُ».
الشاهد ٣
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ [ت٢٧٤هـ] فِي «الْمَحَاسِنِ»[٥]، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنِ النُّعْمَانِ الرَّازِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: «لَمَّا انْقَضَتْ نُبُوَّةُ آدَمَ وَانْقَطَعَ أُكْلُهُ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا آدَمُ، إِنَّهُ قَدِ انْقَضَتْ نُبُوَّتُكَ وَانْقَطَعَ أُكْلُكَ، فَانْظُرْ إِلَى مَا عِنْدَكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَمِيرَاثِ النُّبُوَّةِ وَآثَارِ الْعِلْمِ وَالْإِسْمِ الْأَعْظَمِ، فَاجْعَلْهُ فِي الْعَقِبِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ، عِنْدَ هِبَةِ اللَّهِ، فَإِنِّي لَنْ أَدَعَ الْأَرْضَ بِغَيْرِ عَالِمٍ يُعْرَفُ بِهِ دِينِي، وَيُعْرَفُ بِهِ طَاعَتِي، وَيَكُونُ نَجَاةً لِمَنْ يُولَدُ مَا بَيْنَ قَبْضِ النَّبِيِّ إِلَى ظُهُورِ النَّبِيِّ الْآخَرِ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدِيثُ وَصِيَّةِ آدَمَ إِلَى ابْنِهِ، وَوَصِيَّةِ ابْنِهِ إِلَى ابْنِهِ، وَهَكَذَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ [ت٩٤هـ]: «إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرِضَ قَبْلَ مَوْتِهِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأَوْصَى إِلَى ابْنِهِ شِيثٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ، ثُمَّ دَفَعَ كِتَابَ وَصِيَّتِهِ إِلَى شِيثٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْفِيَهُ مِنْ قَابِيلَ وَوُلْدِهِ، لِأَنَّ قَابِيلَ قَدْ كَانَ قَتَلَ هَابِيلَ حَسَدًا مِنْهُ حِينَ خَصَّهُ آدَمُ بِالْعِلْمِ، فَاسْتَخْفَى شِيثٌ وَوُلْدُهُ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ قَابِيلَ وَوُلْدِهِ عِلْمٌ يَنْتَفِعُونَ بِهِ»[٦]، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ [ت١١٠هـ]: «إِنَّ آدَمَ لَمَّا بَلَّغَ دَعْوَةَ اللَّهِ، وَعَلَتْ حُجَّةُ اللَّهِ فِي بَنِيهِ وَفِي الْجِنِّ، وَكَثُرَتْ ذُرِّيَّتُهُ فِي الْأَرْضِ، فَتَكَمَّلَتْ أَيَّامُهُ، أَتَاهُ وَعْدُ اللَّهِ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، السَّلَامُ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُقِيمَ شِيثًا خَلِيفَةً مِنْ بَعْدِكَ فِي الْأَرْضِ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ، يُقِيمُ فِيهِمْ حُجَّةَ اللَّهِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، فَعَلِمَ آدَمُ أَنَّهُ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، فَأَوْصَى شِيثًا وَاسْتَخْلَفَهُ، فَقَامَ شِيثٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً بِأَمْرِ اللَّهِ يَصْدَعُ بِالْحَقِّ، فَلَمَّا بَلَّغَ شِيثٌ حَجَّةَ اللَّهِ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ اللَّهِ بِالصُّحُفِ خَمْسِينَ صَحِيفَةً وَخَمْسِينَ كِتَابًا، أَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِيثٍ أَنِ اتَّخِذْ ابْنَكَ أَنُوشَ صَفِيًّا وَوَصِيًّا، فَعَلِمَ أَنَّهُ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، فَأَوْصَى إِلَى ابْنِهِ أَنُوشَ وَاسْتَخْلَفَهُ، وَوَلِيَ أَمْرَ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا أَنُوشُ بْنُ شِيثٍ، فَحَكَمَ بِمَا فِي صُحُفِ شِيثٍ، فَعَمِلَ فِي الْأَرْضِ بِطَاعَةِ اللَّهِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْعُمُرَ الْمُسَمَّى فِي الدَّعْوَةِ، أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ قَيْنَانَ، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَعَمِلَ قَيْنَانُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَقَامَ بِحَقِّ اللَّهِ، فَلَمَّا بَلَغَ مِنَ الْعُمُرِ غَايَةَ دَعْوَةِ آدَمَ، أَوْصَى إِلَى مِهْلَائِيلَ ابْنِهِ، وَمَاتَ قَيْنَانُ وَوَلِيَ الْأَمْرَ ابْنُهُ»[٧]، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ [ت١٥١هـ]: «لَمَّا حَضَرَتْ آدَمَ الْوَفَاةُ دَعَا ابْنَهُ شِيثًا، فَعَهِدَ إِلَيْهِ عَهْدَهُ، وَعَلَّمَهُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَعْلَمَهُ عِبَادَةَ الْخَلْقِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْهُنَّ، وَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ الطُّوفَانَ سَيَكُونُ فِي الْأَرْضِ، يَلْبَثُ فِيهَا سَبْعَ سِنِينَ، وَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ، فَكَانَ شِيثٌ -فِيمَا ذُكِرَ- وَصِيَّ أَبِيهِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَصَارَتِ الرِّيَاسَةُ مِنْ بَعْدِ وَفَاةِ آدَمَ لِشِيثٍ»[٨]، وَقَالَ الْيَعْقُوبِيُّ [تبعد٢٨٤هـ]: «لَمَّا حَضَرَتْ آدَمَ الْوَفَاةُ، جَاءَهُ شِيثٌ ابْنُهُ وَوُلْدُهُ وَوُلْدُ وُلْدِهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِمْ، وَدَعَا لَهُمْ بِالْبَرَكَةِ، وَجَعَلَ وَصِيَّتَهُ إِلَى شِيثٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَحْفَظَ جَسَدَهُ وَيَجْعَلَهُ إِذَا مَاتَ فِي مَغَارَةِ الْكَنْزِ، وَأَنْ يُوصِيَ بَنِيهِ وَبَنِي بَنِيهِ، وَيُوصِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عِنْدَ وَفَاتِهِمْ، وَأَمَرَ شِيثًا ابْنَهُ أَنْ يَقُومَ بَعْدَهُ فِي وُلْدِهِمْ، فَيَأْمُرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ، وَيَنْهَاهُمْ أَنْ يُخَالِطُوا قَابِيلَ اللَّعِينَ وَوُلْدَهُ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى بَنِيهِ أُولَئِكَ وَأَوْلَادِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، ثُمَّ مَاتَ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ نِيسَانَ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فِي السَّاعَةِ الَّتِي خُلِقَ فِيهَا، وَكَانَتْ حَيَاتُهُ تِسْعَمِائَةِ سَنَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً اتِّفَاقًا»[٩]، وَقَالَ الْمَسْعُودِيُّ [ت٣٤٦هـ]: «فَوَاقَعَ آدَمُ حَوَّاءَ، فَحَمَلَتْ لِوَقْتِهَا، وَأَشْرَقَ جَبِينُهَا، وَتَلَأْلَأَ النُّورُ فِي مَخَايِلِهَا، وَلَمَعَ مِنْ مَحَاجِرِهَا، حَتَّى إِذَا انْتَهَى حَمْلُهَا، وَضَعَتْ نَسَمَةً كَأَسْرِ مَا يَكُونُ مِنَ الذُّكْرَانِ، وَأَتَمِّهُمْ وَقَارًا، وَأَحْسَنِهِمْ صُورَةً، وَأَكْمَلِهِمْ هَيْئَةً، وَأَعْدَلِهِمْ خُلُقًا، مُجَلَّلًا بِالنُّورِ وَالْهَيْبَةِ، مُوَشَّحًا بِالْجَلَالَةِ وَالْأُبَّهَةِ، فَانْتَقَلَ النُّورُ مِنْ حَوَّاءَ إِلَيْهِ، حَتَّى لَمَعَ فِي أَسَارِيرِ جَبْهَتِهِ، وَبَسَقَ فِي غُرَّةِ طَلَعَتِهِ، فَسَمَّاهُ آدَمُ شِيثًا، وَقِيلَ: شِيثُ هِبَةُ اللَّهِ، حَتَّى إِذَا تَرَعْرَعَ وَأَيْفَعَ وَكَمُلَ وَاسْتَبْصَرَ، أَوْعَزَ الْيْهِ آدَمُ وَصِيَّتَهُ، وَعَرَّفَهُ مَحَلَّ مَا اسْتَوْدَعَهُ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ حُجَّةُ اللَّهِ بَعْدَهُ، وَخَلِيفَتُهُ فِي الْأَرْضِ، وَالْمُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ إِلَى أَوْصِيَائِهِ، وَأَنَّهُ ثَانِي انْتِقَالِ الذَّرَّةِ الطَّاهِرَةِ وَالْجُرْثُومَةِ الزَّاهِرَةِ»[١٠].
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ قَالَ أَوَائِلُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَتَابَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ سَائِرُ الْقَوْمِ، حَتَّى أَصْبَحَ كَمُتَسَالَمٍ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ أَنَّ آدَمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى أَوْصَى إِلَى خَيْرِ أَهْلِهِ، فَاسْتَخْلَفَهُ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بَنُو آدَمَ، كُلَّمَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أَوْصَى إِلَى خَيْرِ أَهْلِهِ، فَاسْتَخْلَفَهُ، فَجَرَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ بَيْنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اتِّصَالِ الْوَصِيَّةِ بَيْنَ خُلَفَاءِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ رَجُلٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، وَهُوَ وَاللَّهِ حُجَّةٌ بَالِغَةٌ عَلَى الْقَوْمِ؛ لِأَنَّهُمْ مُسَلِّمُونَ بِهِ وَمُقِرُّونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَانَ كَذَلِكَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ اللَّهَ بَدَّلَ السُّنَّةَ الْأُولَى، أَوْ أَنَّ نَبِيَّهُ خَالَفَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، فَتَرَكَ الْوَصِيَّةَ الَّتِي كَانَتْ مُتَّصِلَةً بَيْنَهُمْ مِنْ لَدُنْ آدَمَ، كَالَّذِينَ ﴿يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾[١١]، وَهَذَا وَاللَّهِ ظَنُّ سَوْءٍ مِنْهُمْ أَرْدَاهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾[١٢]، وَقَالَ لَهُ مُشِيرًا إِلَى النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾[١٣]، وَمَا كَانَ نَبِيُّهُ لِيُخَالِفَ قَوْلَهُ أَبَدًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى أَوْصَى إِلَى خَيْرِ أَهْلِهِ، فَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى سُنَّةِ آدَمَ وَشِيثٍ، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾[١٤]؛ يَقُولُونَ: «لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَعَلِمَهُ أَسْلَافُنَا!» وَقَدْ عَلِمَهُ خَيْرُ أَسْلَافِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَجَاهَلُونَ! أَلَمْ يَكُنْ فِي أَسْلَافِهِمْ قَوْمٌ يَذْكُرُونَهُ؟! بَلَى، وَلَكِنَّهُمْ عَصَوْهُمْ، وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
الشاهد ٤
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَابَوَيْهِ [ت٣٨١هـ] فِي «كَمَالِ الدِّينِ وَتَمَامِ النِّعْمَةِ»[١٥]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، جَمِيعًا قَالُوا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ، وَالْهَيْثَمُ بْنُ أَبِي مَسْرُوقٍ النَّهْدِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ، جَمِيعًا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ السَّرَّادِ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ فِي حَدِيثٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ وَصِيًّا صَالِحًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا آدَمُ، أَوْصِ إِلَى شِيثٍ، فَأَوْصَى آدَمُ إِلَى شِيثٍ، وَهُوَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ آدَمَ، وَأَوْصَى شِيثٌ إِلَى ابْنِهِ»، فَذَكَرَ وَصِيَّةَ أَبْنَائِهِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى إِلَى خَيْرِ أَهْلِهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
الشاهد ٥
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ [ت٢٩٠هـ] فِي «بَصَائِرِ الدَّرَجَاتِ»[١٦]، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُكَيْرٍ الْهَجَرِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ وَصِيٍّ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ آدَمَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ مَضَى إِلَّا وَلَهُ وَصِيٌّ»، وَذَكَرَ أَنَّ وَصِيَّهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
الشاهد ٦
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الطُّوسِيُّ [ت٤٦٠هـ] فِي «أَمَالِيهِ»[١٧]، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْقَاسِمِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا حَتَّى أَمَرَهُ أَنْ يُوصِيَ إِلَى أَفْضَلِ عَشِيرَتِهِ مِنْ عَصَبَتِهِ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُوصِيَ»، وَذَكَرَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ عَلِيًّا كَانَ أَفْضَلَ عَشِيرَتِهِ مِنْ عَصَبَتِهِ.
الشاهد ٧
وَرَوَى الْبَغَوِيُّ [ت٣١٧هـ] فِي «مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ»[١٨]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي رَبِيعَةَ الْإِيَادِيِّ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ وَصِيٌّ وَوَارِثٌ، وَإِنَّ عَلِيًّا وَصِيِّي وَوَارِثِي».
الشاهد ٨
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ [ت١٥١هـ] فِي «سِيرَتِهِ»[١٩]، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُتَيْبَةَ الْعَيْذِيِّ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُورٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَلَهُ وَصِيٌّ وَسِبْطَانِ، فَمَنْ وَصِيُّكَ وَسِبْطَاكَ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَرْجِعْ شَيْئًا، فَانْصَرَفَ سَلْمَانُ يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ! يَا وَيْلَهُ! كُلَّمَا لَقِيَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: مَا لَكَ سَلْمَانُ الْخَيْرِ؟! فَيَقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَخِفْتُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَضَبٍ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ قَالَ: «ادْنُ يَا سَلْمَانُ»، فَجَعَلَ يَدْنُو وَيَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ، فَقَالَ: «سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَأْتِنِي فِيهِ أَمْرٌ، وَقَدْ أَتَانِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ بَعَثَ أَرْبَعَةَ آلَافِ نَبِيٍّ، وَكَانَ أَرْبَعَةُ آلَافِ وَصِيٍّ وَثَمَانِيَةُ آلَافِ سِبْطٍ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنَا خَيْرُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ وَصِيِّي لَخَيْرُ الْوَصِيِّينِ، وَسِبْطَايَ خَيْرُ الْأَسْبَاطِ»، يَعْنِي بِوَصِيِّهِ عَلِيًّا وَبِسِبْطَيْهِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ.
الشاهد ٩
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ [ت٣٦٠هـ] فِي «الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ»[٢٠]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ الثَّعْلَبِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى، عَنْ نَاصِحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِكُلِّ نَبِيٍّ وَصِيٌّ، فَمَنْ وَصِيُّكَ؟ فَسَكَتَ عَنِّي، فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ رَآنِي، فَقَالَ: «يَا سَلْمَانُ»، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ، قَالَ: «تَعْلَمُ مَنْ وَصِيُّ مُوسَى؟» قُلْتُ: نَعَمْ، يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، قَالَ: «لِمَ؟» قُلْتُ: لِأَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَهُمْ، قَالَ: «فَإِنَّ وَصِيِّي، وَمَوْضِعَ سِرِّي، وَخَيْرَ مَنْ أَتْرُكُ بَعْدِي، وَيُنْجِزُ عِدَتِي، وَيَقْضِي دَيْنِي، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ».
الشاهد ١٠
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ [ت٢٤١هـ] فِي «فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ»[٢١]، قَالَ: حَدَّثَنَا هَيْثَمُ بْنُ خَلَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الدُّورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَاذَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مَطَرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قُلْنَا لِسَلْمَانَ: سَلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَنْ وَصِيُّهُ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ وَصِيُّكَ؟ قَالَ: «يَا سَلْمَانُ، مَنْ كَانَ وَصِيَّ مُوسَى؟» قَالَ: يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، قَالَ: «فَإِنَّ وَصِيِّي، وَوَارِثِي، يَقْضِي دَيْنِي، وَيُنْجِزُ مَوْعُودِي، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ».
الشاهد ١١
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ [ت٤٦٣هـ] فِي «الْمُتَّفَقِ وَالْمُفْتَرَقِ»[٢٢]، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصُّورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّرْسِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأُشْنَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى السُّدِّيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ الْبَصْرِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْكِنْدِيِّ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: أَتَيْنَا سَلْمَانَ، فَقُلْنَا لَهُ: مَنْ وَصِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: مَنْ وَصِيُّكَ؟ قَالَ: «وَصِيِّي، وَمَوْضِعُ سِرِّي، وَخَلِيفَتِي فِي أَهْلِي، وَخَيْرُ مَنْ أُخَلِّفُ بَعْدِي، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ».
الشاهد ١٢
وَرَوَى ابْنُ الْمَغَازِلِيِّ [ت٤٨٣هـ] فِي «مَنَاقِبِ عَلِيٍّ»[٢٣]، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَطَّارُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْمُزَنِيُّ الْمُلَقَّبُ بِابْنِ السَّقَّاءِ الْحَافِظِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْعَبَّاسِ الْبَجَلِيُّ بِالْكُوفَةِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عِيسَى الْعُكْلِيُّ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ مُخَارِقٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: مَا أَنْتَ وَذَاكَ؟ لَا أُمَّ لَكَ! ثُمَّ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، خَيْرُهُمْ بَعْدَهُ مَنْ كَانَ يَحِلُّ لَهُ مَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ، قُلْتُ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: عَلِيٌّ، سَدَّ أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ وَتَرَكَ بَابَ عَلِيٍّ، وَقَالَ لَهُ: «لَكَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ مَا لِي، وَعَلَيْكَ فِيهِ مَا عَلَيَّ، وَأَنْتَ وَارِثِي، وَوَصِيِّي، تَقْضِي دَيْنِي، وَتُنْجِزُ عِدَاتِي، وَتُقْتَلُ عَلَى سُنَّتِي، كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُبْغِضُكَ وَيُحِبُّنِي».
الشاهد ١٣
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ [ت٥٧١هـ] فِي «تَارِيخِ دِمَشْقَ»[٢٤]، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْمُسْلِمِ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِىُّ بْنُ مُوسَى بْنِ السِّمْسَارِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُعْفِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَكَمِ الرَّافِعِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ أَبُو رَافِعٍ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وُلْدَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، فَقَالَ لَهُمْ: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ رَسُولًا إِلَّا جَعَلَ لَهُ مِنْ أَهْلِهِ أَخًا، وَوَزِيرًا، وَوَارِثًا، وَوَصِيًّا، وَمُنْجِزًا لِعِدَاتِهِ، وَقَاضِيًا لِدَيْنِهِ، فَمَنْ مِنْكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى أَنْ يَكُونَ أَخِي، وَوَزِيرِي، وَوَصِيِّي، وَمُنْجِزَ عِدَاتِي، وَقَاضِي دِينِي؟» فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَصْغَرُهُمْ، فَقَالَ لَهُ: «اجْلِسْ»، فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَعَادَ عَلَيْهِمُ الْقَوْلَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كُونُوا فِي الْإِسْلَامِ رُؤُوسًا، وَلَا تَكُونُوا أَذْنَابًا، فَمَنْ مِنْكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى أَنْ يَكُونَ أَخِي، وَوَزِيرِي، وَوَصِيِّي، وَقَاضِي دِينِي، وَمُنْجِزَ عِدَاتِي؟» فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: «اجْلِسْ»، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ أَعَادَ عَلَيْهِمُ الْقَوْلَ، فَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَبَايَعَهُ بَيْنَهُمْ، فَتَفَلَ فِي فِيهِ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: بِئْسَ مَا جَبَرْتَ بِهِ ابْنَ عَمِّكَ إِذْ أَجَابَكَ إِلَى مَا دَعَوْتَهُ إِلَيْهِ، مَلَأْتَ فَاهُ بُصَاقًا!
الشاهد ١٤
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ [ت٣١٠هـ] فِي «التَّارِيخِ»[٢٥]، وَفِي «تَهْذِيبِ الْآثَارِ»[٢٦]، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَدْعُوَكُمْ إِلَيْهِ، فَأَيُّكُمْ يُؤَازِرُنِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَخِي، وَوَصِيِّي، وَخَلِيفَتِي فِيكُمْ؟» فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ عَنْهَا جَمِيعًا، وَقُلْتُ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَكُونُ وَزِيرَكَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ بِرَقَبَتِي، وَقَالَ: «هَذَا أَخِي، وَوَصِيِّي، وَخَلِيفَتِي فِيكُمْ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا»، فَقَامَ الْقَوْمُ يَضْحَكُونَ، وَيَقُولُونَ لِأَبِي طَالِبٍ: قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تَسْمَعَ لِابْنِكَ وَتُطِيعَ!
الشاهد ١٥
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ [ت٣٦٠هـ] فِي «الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ»[٢٧]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُزَيْقِ بْنِ جَامِعٍ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلِيٍّ الْمَكِّيِّ الْهِلَالِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي شَكَاتِهِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا، فَإِذَا فَاطِمَةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَبَكَتْ حَتَّى ارْتَفَعَ صَوْتُهَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ طَرْفَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: «حَبِيبَتِي فَاطِمَةُ، مَا الَّذِي يُبْكِيكِ؟» فَقَالَتْ: أَخْشَى الضَّيْعَةَ مِنْ بَعْدِكَ، فَقَالَ: «يَا حَبِيبَتِي، أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اطَّلَعَ إِلَى الْأَرْضِ اطِّلَاعَةً، فَاخْتَارَ مِنْهَا أَبَاكِ، فَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ اطَّلَعَ اطِّلَاعَةً، فَاخْتَارَ مِنْهَا بَعْلَكِ، وَأَوْحَى إِلَيَّ أَنْ أُنْكِحَكِ إِيَّاهُ»، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ حَتَّى قَالَ: «أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَأَكْرَمُ النَّبِيِّينَ عَلَى اللَّهِ، وَأَحَبُّ الْمَخْلُوقِينَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَا أَبُوكِ، وَوَصِيِّي خَيْرُ الْأَوْصِيَاءِ وَأَحَبُّهُمُ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ بَعْلُكِ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا بَعْضُ مَا رَوَى أَسْلَافُهُمْ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَمَا أَوْصَى النَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِهِ إِلَى خَيْرِ أَهْلِيهِمْ، وَالرِّوَايَاتُ فِي ذَلِكَ مُتَوَاتِرَةٌ، وَقَدْ بَلَغَ مِنْ شُهْرَتِهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: «يَقُولُونَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ! لَقَدْ كَانَ رَأْسُهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، فَدَعَا بِالطَّسْتِ لِيَبُولَ فِيهَا، فَانْخَنَثَتْ نَفْسُهُ، وَمَا شَعَرْتُ! فَمَتَى أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ؟!»[٢٨]، وَكَانَتْ عَائِشَةُ امْرَأَةً، فَلَعَلَّهَا نَسِيَتْ، أَوْ شُبِّهَ لَهَا، وَلَمْ تَتَعَمَّدِ الْكِذْبَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِنْ بَلَغَ مِنْهَا بُغْضُ عَلِيٍّ كُلَّ مَبْلَغٍ؛ فَقَدْ قَالَ أَبُو غَطَفَانَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ أَحَدٍ؟ قَالَ: «تُوُفِّيَ وَهُوَ لَمُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِ عَلِيٍّ»، قُلْتُ: فَإِنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَتَعْقِلُ؟ وَاللَّهِ لَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَمُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِ عَلِيٍّ، وَهُوَ الَّذِى غَسَّلَهُ»[٢٩]، وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: «وَالَّذِي تَحْلِفُ بِهِ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ أَقْرَبَ النَّاسِ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا كَانَ غَدَاةَ قَبْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَجَاءَ عَلِيٌّ؟ أَجَاءَ عَلِيٌّ؟ مِرَارًا، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ عَرَفْنَا أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ حَاجَةً، فَخَرَجْنَا مِنَ الْبَيْتِ، وَكُنَّا عُدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَكُنْتُ فِي آخِرِ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْبَيْتِ، ثُمَّ جَلَسْتُ أَدْنَاهُنَّ مِنَ الْبَابِ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ عَلِيٌّ، فَكَانَ آخِرَ النَّاسِ بِهِ عَهْدًا، جَعَلَ يُسَارُّهُ وَيُنَاجِيهِ»![٣٠] فَكَأَنَّ عَائِشَةَ نَسِيَتْ ذَلِكَ مِنْ فَرْطِ بُغْضِهَا لِعَلِيٍّ، وَالْبُغْضُ إِذَا فَحُشَ يُنْسِي وَيُوهِمُ؛ كَمَا يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ الْغَيْرَى لَا تَدْرِي أَعْلَى الْوَادِي مِنْ أَسْفَلِهِ»![٣١]
الشاهد ١٦
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ [ت٢٥٦هـ] فِي «صَحِيحِهِ»[٣٢]، قَالَ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ؛ وَرَوَى مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ [ت٢٦١هـ] فِي «صَحِيحِهِ»[٣٣]، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، جَمِيعًا قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ! ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الْحَصَى، فَقُلْتُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟! قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ، فَقَالَ: «ائْتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا»، فَتَنَازَعُوا، وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ! -وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى[٣٤]: قَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ!- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ»، وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ»، قَالَ: وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ، أَوْ قَالَهَا فَأُنْسِيتُهَا!
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَعْنِي قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: «وَسَكَتَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الثَّالِثَةِ، أَوْ قَالَهَا فَأُنْسِيتُهَا!»، وَقَالَ سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ: «وَسَكَتَ سَعِيدٌ عَنِ الثَّالِثَةِ، فَلَا أَدْرِي أَسَكَتَ عَنْهَا عَمْدًا، أَوْ نَسِيَهَا!»[٣٥] وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ، فَكَتَمَ الرُّوَاةُ جُزْءًا مِنْ وَصِيَّتِهِ خَوْفًا أَوْ تَنَاسِيًا، وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَرْضَاهُ بَنُو أُمَيَّةَ لَمْ يَكْتُمُوهُ، فَهَلْ تَرَاهُ إلَّا الْوَصِيَّةَ بِطَاعَةِ عَلِيٍّ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ عِتْرَتِهِ أَهْلِ بَيْتِهِ؟! كَمَا أَوْصَى بِهَا مِنْ قَبْلُ إذْ قَالَ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدًا: كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي»[٣٦]، وَهُوَ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ: «ائْتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا»، فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ مَا قَالَهُ مِنْ قَبْلُ لِيَكُونَ أَمْرًا ثَابِتًا لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلِذَلِكَ مَنَعَهُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَكْرَهُ خِلَافَةَ عَلِيٍّ، وَقَالَ: «حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ» اعْتِرَاضًا عَلَى قَوْلِهِ: «كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي»؛ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ فِي أَوَّلِ خِلَافَتِهِ، وَقَدْ أُلْقِيَ لَهُ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ عَلَى خَصْفَةٍ، فَدَعَانِي إِلَى الْأَكْلِ، فَأَكَلْتُ تَمْرَةً وَاحِدَةً، وَأَقْبَلَ يَأْكُلُ حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ مِنْ جَرَّةٍ كَانَتْ عِنْدَهُ، وَاسْتَلْقَى عَلَى مِرْفَقَةٍ لَهُ، وَطَفِقَ يَحْمَدُ اللَّهَ يُكَرِّرُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ قُلْتُ: مِنَ الْمَسْجِدِ، قَالَ: كَيْفَ خَلَّفْتَ ابْنَ عَمِّكَ؟ فَظَنَنْتُهُ يَعْنِى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، فَقُلْتُ: خَلَّفْتُهُ يَلْعَبُ مَعَ أَتْرَابِهِ، قَالَ: لَمْ أَعْنِ ذَلِكَ، إِنَّمَا عَنَيْتُ عَظِيمَكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ -يَعْنِي عَلِيًّا! قُلْتُ: خَلَّفْتُهُ يَمْتَحُ بِالْغَرْبِ[٣٧] عَلَى نُخَيْلَاتٍ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، عَلَيْكَ دِمَاءُ الْبُدْنِ إنْ كَتَمْتَنِيهَا! هَلْ بَقِيَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الْخِلَافَةِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَيَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَأَزِيدُكَ، سَأَلْتُ أَبِي عَمَّا يَدَّعِيهِ، فَقَالَ: صَدَقَ! فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِهِ ذَرْوٌ[٣٨] مِنْ قَوْلٍ لَا يُثْبِتُ حُجَّةً وَلَا يَقْطَعُ عُذْرًا، وَلَقَدْ كَانَ يُرْبِعُ[٣٩] فِي أَمْرِهِ وَقْتًا مَا، وَلَقَدْ أَرَادَ فِي مَرَضِهِ أَنْ يُصَرِّحَ بِاسْمِهِ، فَمَنَعْتُ مِنْ ذَلِكَ إِشْفَاقًا وَحِيطَةً عَلَى الْإِسْلَامِ! لَا وَرَبِّ هَذِهِ الْبِنْيَةِ لَا تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ أَبَدًا، وَلَوْ وَلِيَهَا لَانْتَقَضَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنْ أَقْطَارِهَا، فَعَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنِّي عَلِمْتُ مَا فِي نَفْسِهِ، فَأَمْسَكَ، وَأَبَى اللَّهُ إلَّا إِمْضَاءَ مَا حَتَمَ»، ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي الْحَدِيدِ [ت٦٥٦هـ] فِي «شَرْحِ نَهْجِ الْبَلَاغَةِ»، وَقَالَ: «ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ [ت٢٨٠هـ] صَاحِبُ كِتَابِ تَارِيخِ بَغْدَادَ فِي كِتَابِهِ مُسْنَدًا»[٤٠].