هل يجوز التصدّق على المتسوّلين الذين نواجههم في الشوارع؟ على من يجب أن نتصدّق؟
إنّ التصدّق على المحتاجين ابتغاء مرضات اللّه تعالى هو من أعظم العبادات في الإسلام، وقد قرنه اللّه تعالى بالصلاة في آيات كثيرة، بل يمكن القول أنّه لم يوصِ بشيء بعد الصلاة كما أوصى به، وهو نوعان: الواجب، وهو الزكاة والخمس والمنذور، فيأثم تاركه، وغير الواجب، وهو ما دون ذلك، ولا يأثم تاركه، إلا إذا سأله مسلم مضطرّ؛ لأنّ الإنفاق عليه في حالة الإضطرار واجب، وإن لم يكن زكاة ولا خمسًا ولا منذورًا، بل هو واجب بمجرّد إظهار الإضطرار وإن لم يكن هناك علم بذلك؛ لأنّ اللّه تعالى نهى عن نهر السائل مطلقًا فقال: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾[١]، والظاهر أنّ ردّه مع القدرة على الإنفاق نهر، والمراد باضطرار المسلم عجزه عن توفير المقوّمات الأساسيّة لحياته من المأكل والملبس والمسكن والعلاج والحرّيّة بمعنى عدم الحبس في السجن لغير إثم، وعلى هذا يجب على المستطيع الإنفاق على كلّ مسلم يخبر عن اضطراره مع احتمال صدقه، وإن لم يكن صادقًا في الحقيقة؛ لأنّه مكلّف بالصّدق، والمستطيع مكلّف بالإنفاق، وكلّ منهما يُسئل عن تكليفه، ولا شكّ أنّ الأصل هو صدق المسلم فيما يخبر به من حاله، والإحتياط يقتضي الإنفاق عليه؛ كما روي عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السلام أنه قال لجارية عنده: «لَا تَرُدُّوا سَائِلًا»، فقال له بعض من بحضرته: «يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، إِنَّهُ قَدْ يَسْأَلُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ»، فقال: «إِنْ رَدَدْنَا مَنْ نَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ خِفْنَا أَنْ نَمْنَعَ مَنْ يَسْتَحِقُّ»[٢]، وفي رواية أخرى عن أهل البيت: «إِنَّا لَنُعْطِي غَيْرَ الْمُسْتَحِقِّ حَذَرًا مِنْ رَدِّ الْمُسْتَحِقِّ»[٣]، بل يقتضي ذلك قول اللّه تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾[٤]؛ لأنّه عطف السائلين على ذوي القربى واليتامى والمحتاجين، وهذا يدلّ على حُسن الإنفاق عليهم وإن لم يكونوا منهم، ويدلّ عليه أيضًا أحاديث كثيرة؛ كما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «لِلسَّائِلِ حَقٌّ، وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ»[٥]، وروي عن رجلين من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم «أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلَانِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَلَّبَ فِيهِمَا الْبَصَرَ، وَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ»[٦]، وعن أبي سعيد الخدريّ قال: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُقَسِّمُ ذَهَبًا إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي، فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ قَالَ: زِدْنِي، فَزَادَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ وَلَّى مُدْبِرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: يَأْتِينِي الرَّجُلُ، فَيَسْأَلُنِي، فَأُعْطِيهِ، ثُمَّ يَسْأَلُنِي، فَأُعْطِيهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ وَلَّى مُدْبِرًا، وَقَدْ جَعَلَ فِي ثَوْبِهِ نَارًا إِذَا انْقَلَبَ إِلَى أَهْلِهِ»[٧]، وعن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ قال: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَأْتِينِي، فَيَسْأَلُنِي، فَأُعْطِيهِ، فَيَنْطَلِقُ، وَمَا يَحْمِلُ فِي حِضْنِهِ إِلَّا النَّارَ»[٨]، وفي رواية أخرى: «قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلِمَ تُعْطِيهِمْ؟! قَالَ: إِنَّهُمْ يَأْبَوْنَ إِلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي، وَيَأْبَى اللَّهُ لِيَ الْبُخْلَ»[٩].
نعم، الأظهر أنّه لا يحسن الإنفاق عليهم من ذهب أو فضّة إذا كان كذبهم معلومًا بالتفصيل، وقلّما يكون ذلك، وما كان كذب أحد منهم معلومًا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالتفصيل، ثمّ ينفق عليه من ذهب أو فضّة؛ لأنّ الذين يسألون الناس وهم قادرون على توفير المقوّمات الأساسيّة لحياتهم سفهاء، ولا يجوز إيتاء المال للسفهاء إلا أن يكون متاعًا يستهلكونه في العاجل كالطعام والكسوة؛ لقول اللّه تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾[١٠]؛ كما أنّ إيتاء المال للذين يسألون الناس لتوفير ما ينفقون في الأعمال المحرّمة كشرب الخمر واستعمال المخدّرات هو إعانة على الإثم والعدوان، وقد نهى اللّه تعالى عن ذلك فقال: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[١١]، ولا شكّ أنّ أفضل الإنفاق هو الإنفاق على المسلمين الذين لا يسألون الناس بالرغم من فاقتهم، بل يقومون بأعمال شاقّة ومزعجة مقابل أجور بخسة، وهم يُعرفون بتلك الأعمال وأمارات الفاقة في مظهرهم؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾[١٢].
نسأل اللّه الرحيم أن يغني جميع المسلمين المحتاجين، وإنّما يمكن ذلك إذا ملك خليفته في الأرض، فأقام العدل وأزال التمييز واستعمل كلّ واحد منهم فيما يستأهله وعزله عمّا لا يستأهله، وإنّما يملك خليفته في الأرض إذا اجتمع عدد كافٍ من المسلمين لطلبه وإعانته، فليسبق إلى ذلك الفقراء والمساكين والغارمون والمستضعفون منهم؛ لأنّهم أحوج إلى ذلك، وإن لم يفعلوه فكيف يفعله الأغنياء منهم؟! ولذلك كان أكثر أنصار الأنبياء من أهل الفاقة، وكانوا هم السابقين إلى الإيمان والهجرة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما أحراهم أن يكونوا أوّل ناصر للمهديّ عليه السلام.