إنّ اللّه تعالى يقول: «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا» (النّساء/ ١٠١). أجد في الآية جملة شرطية إذا عكست تكون هكذا: «عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن لم تخافوا أن يفتنكم الذين كفروا». السؤال: فما يفعل المسلمون الآن بمخالفتهم هذه الآية الواضحة الدلالة؟! أم هناك ما خفي عني في مكان آخر من القرآن؟
لقد جاءت أخبار متواترة بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قصر الصلاة في السفر وإن لم يكن خائفًا من فتنة الكافرين؛ كما روي عن يعلى بن أميّة أنّه قال: «قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ» وفي رواية أخرى: «قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقَصْرَ فِي الْخَوْفِ، فَأَنَّى الْقَصْرُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ؟» وفي رواية أخرى: «قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِقْصَارُ النَّاسِ الصَّلَاةَ الْيَوْمَ وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، فَقَدْ ذَهَبَ ذَاكَ الْيَوْمَ» فقال عمر: «عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»[١] وليست سنّة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم هذه مخالفة لكتاب اللّه؛ لأنّ قوله تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾[٢] خرج مخرج الغالب وليس له مفهوم مخالف؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾[٣]؛ لأنّ الغالب كان عدم وجدان الكاتب في السفر ولذلك لا دلالة فيه على عدم جواز الرهن في الحضر وكذلك كان الغالب في السفر خوفهم من فتنة الكافرين ولذلك لا دلالة فيه على عدم جواز القصر في السفر مع عدم الخوف من فتنتهم؛ لا سيّما بالنظر إلى أنّ الخوف في السفر لا ينحصر في الخوف من فتنة الكافرين، بل السفر لا ينفكّ عن الخوف طبعًا بمقتضى خروج الإنسان من وطنه وابتعاده عمّا أنس به من أهله وماله وتعرّضه لخطر المسير والغربة، وعليه فإنّ قوله تعالى يدلّ بفحواه على اعتبار الخوف مطلقًا، لوحدة المناط؛ كقول الرجل لفتاه: «ليس عليك جناح أن تخرج من البيت مبكّرًا إن خفت أن يفوتك شراء الخبز» إذا كان الغالب عليه خوفه من ذلك؛ لأنّه لا يدلّ على أنّ عليه جناحًا في الخروج من البيت مبكّرًا إن خاف أن يفوته شراء شيء آخر يحتاج إليه أحيانًا؛ بغضّ النظر عن عدم دلالته على أنّ عليه جناحًا في الخروج من البيت مبكّرًا إن لم يخف شيئًا؛ لقول العقلاء أنّ إثبات الشيء لا ينفي ماعداه.
هذا مبنيّ على القول بأنّ الآية مبيّنة لحكم صلاة المسافر ولكن هناك قول بأنّها مبيّنة لحكم صلاة الخوف ولا تعلّق لها بصلاة المسافر أصلًا؛ كما روي عن جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام أنه سئل عن قول اللّه عز وجل: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فقال: «هُوَ أَنْ يَرُدَّ الرَّجُلُ رَكْعَتَيْنِ إِلَى رَكْعَةٍ»[٤] وعلى هذا القول يمكن أن يقال: إنّ قصر الصلاة في السفر ليس بقصر حقيقة؛ لأنّ الصلاة ركعتان وإنّما زيد عليها في الحضر ولم ينقص منها في السفر؛ كما روي عن عائشة أنّها قالت: «أَوَّلُ مَا فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ» وقالت: «فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ» وقالت: «فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا وَتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْأُولَى» وقالت: «قَدْ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ زَادَ مَعَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمَغْرِبَ فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ وَصَلَاةَ الْفَجْرِ لِطُولِ قِرَاءَتِهَا وَكَانَ إِذَا سَافَرَ صَلَّى الصَّلَاةَ الْأُولَى»[٥] وروي عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد عليهما السلام أنّه قال: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ فَأَضَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرَّكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَإِلَى الْمَغْرِبِ رَكْعَةً فَصَارَتْ عَدِيلَ الْفَرِيضَةِ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُنَّ إِلَّا فِي سَفَرٍ وَأَفْرَدَ الرَّكْعَةَ فِي الْمَغْرِبِ فَتَرَكَهَا قَائِمَةً فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فَأَجَازَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَصَارَتِ الْفَرِيضَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ رَكْعَةً»[٦] وهذا قول يسقط الشبهة من أساسها.
قوله تعالى: «وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّنْ مَّطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا» (النّساء/ ١٠٢)، يدلّ على أنّ صلاة القصر ركعة واحدة فقطّ: قيام فسجود وكذلك أنّ الصلاة تتمّ بعد نهاية السجود مباشرة: «فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ». ففعلنا الآن بماذا يتوجّه؟!
إنّ قوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ إلى آخره مبيّن لكيفيّة صلاة الخوف ولا تعلّق له بالصلاة في غير الخوف كما هو ظاهر من ذكر الحذر والأسلحة. نعم، يظهر منه أنّ صلاة الخوف ركعة واحدة؛ كما روي عن ابن عباس أنّه قال: «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً»[١] وروي عن يزيد بن صهيب أنّه قال: «سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَقْصُرُهُمَا؟ قَالَ جَابِرٌ: إِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ لَيْسَتَا بِقَصْرٍ، إِنَّمَا الْقَصْرُ رَكْعَةٌ عِنْدَ الْقِتَالُ، قَالَ: ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْقِتَالِ إِذْ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَصَفَّ طَائِفَةً خَلْفَهُ وَقَامَتْ طَائِفَةٌ وُجُوهُهَا قِبَلَ وُجُوهِ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ إِنَّ الَّذِينَ صَلَّوْا خَلْفَهُ انْطَلَقُوا، فَقَامُوا مَقَامَ أُولَئِكَ، فَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَفُّوا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ، فَسَلَّمَ وَسَلَّمَ الَّذِينَ خَلْفَهُ وَسَلَّمُوا أُولَئِكَ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَةً رَكْعَةً»[٢] وبه قال الحسن البصري وطاوس ومجاهد وأصحاب الظاهر وهو رواية عن أهل البيت وقال ابن الجنيد: إن كانت الحالة مصافة الحرب والمواقفة والتعبئة والتهيؤ للمناوشة من غير بداية، صلّى الإمام بالفرقة الأولى ركعة وسجد سجدتين ثم انصرفوا وسلّم القوم بعضهم على بعض في مصافهم وقد روي عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم صلّى كذلك بعسفان وقال بعض الرواة: فكانت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ركعتان ولكلّ طائفة ركعة وقال جمهور العلماء: لكلّ طائفة ركعتان وهو الرواية المشهورة عن أهل البيت ويمكن جمعه مع قول اللّه تعالى؛ لأنّ قوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ غير صريح بالسجود في الركعة الأولى، فلعلّ المراد به السجود في الركعة الثانية.
أمّا قولك بأنّ صلاة الخوف قيام وسجود فهو وهم؛ لأنّ اللّه تعالى لم يكن في مقام بيان أعمال صلاة الخوف كلّها، بل كان في مقام بيان أوّلها وآخرها، لتعلّق الحكم بهما؛ فذكر أوّلها فقال: ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ﴾ وذكر آخرها فقال: ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ ولا شكّ أنّ إثبات الشيء لا ينفي ماعداه والأمر لا يخصّص بالسكوت وقد أمر اللّه تعالى بالركوع في آيات أخرى فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ﴾[٣] وقال: ﴿وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾[٤]، وعليه فإنّ الركوع واجب في كلّ صلاة والركعة لا يقال لها ركعة إلا باعتبار الركوع.
نعيذك باللّه -يا أخانا- من تفسير القرآن بالرأي والقول فيه بغير علم واتّباع ما تشابه منه؛ فإنّما يفعل ذلك الذين في قلوبهم زيغ ويبتغون الفتنة وقد روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[٥] وروي عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «مَا عَلِمْتُمْ فَقُولُوا وَمَا لَمْ تَعْلَمُوا فَقُولُوا اللَّهُ أَعْلَمُ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْتَزِعُ الْآيَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَخِرُّ فِيهَا أَبْعَدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»[٦].