ما هو حدّ الحجاب في الإسلام؟
أمّا الحجاب الذي يجب على الرجل عند سائر الرجال، وعلى المرأة عند سائر النساء، فهو ستر الفرج؛ لقول اللّه تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾[١]؛ نظرًا لأنّ الظاهر منه وجوب غضّ البصر عن فروج الناس، وحفظ الفرج عن أنظارهم، والفرج السوءتان؛ كما يشهد على ذلك قول اللّه تعالى في آدم وحواء عليهما السلام: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾[٢]، يعني على قبلهما ودبرهما، وأمّا الحجاب الذي يجب على الرجل عند غير المحارم من النساء، فهو ستر البدن كلّه ما عدا الرأس والوجه واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين، ويقال: ستر ما بين السرّة والركبة، وهو مردود في غير الضرورة؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
كَانَ الْحَمَّامُ فِي صَحْنِ الدَّارِ، فَخَرَجْتُ مِنْهُ وَأَنَا سَاتِرٌ مَا بَيْنَ سُرَّتِي وَرُكْبَتِي، فَرَآنِيَ الْمَنْصُورُ فِي الصَّحْنِ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا فُلَانُ؟! أَلَا تَخَافُ أَنْ تَرَاكَ بَعْضُ بَنَاتِ الْجِيرَانِ، فَتَشْهُوَكَ؟! قُلْتُ: لَقَدْ سَتَرْتُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، فَقَالَ: ذَلِكَ يَكْفِيكَ فِي الضَّرُورَةِ.[٣]
وأمّا الحجاب الذي يجب على المرأة عند غير المحارم من الرجال، فهو ستر البدن كلّه ما عدا الوجه والكفّين؛ لقول اللّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾[٤]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[٥]، إلّا العجائز من النساء اللاتي لا يرجون نكاحًا، فلا بأس بأن يضعن خمرهنّ وجلابيبهنّ غير متبرّجات بزينة؛ كما قال اللّه تعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ۖ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[٦].
أليس ستر الوجه واجبًا على المرأة عند السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى؟ يقول بعض الفقهاء أنّ المرأة عورة كلّها.
لم يقل أكثر الفقهاء بوجوب ستر الوجه على المرأة، وذلك لقول اللّه تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾[١]؛ نظرًا لأنّه استثنى ممّا يجب ستره عليهنّ شيئًا، وفي هذا دلالة واضحة على أنّه لا يجب عليهنّ ستر البدن كلّه؛ خلافًا لمن قال: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ كُلُّهَا»، والمستثنى ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ في العشرة عادةً، ومنه الوجه؛ لأنّ المرأة تُعرف بوجهها، ولا بدّ لها من أن تُعرف في كثير من الشؤون اليوميّة، وأنّها ترى ببصرها وتتكلّم بفمها وتشمّ بأنفها، ولو سترت هؤلاء لشقّ عليها الرؤية والكلام والإستشمام أحيانًا، وقد قال اللّه تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾[٢]، وهذه حكمة بالغة نبّه عليها السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى فيما أخبرنا به بعض أصحابه، قال:
قَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ: لِمَاذَا كَتَبَ اللَّهُ السَّتْرَ عَلَى رَأْسِ الْمَرْأَةِ وَلَمْ يَكْتُبْهُ عَلَى وَجْهِهَا، وَالْوَجْهُ أَجْمَلُ؟! قَالَ: لِأَجْلِ الْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَالْإِسْتِشْمَامِ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْهَا حَرَجٌ فِي ذَلِكَ، وَلِكَيْ تُعْرَفَ، ثُمَّ قَالَ: لَا قِيَاسَ فِي الدِّينِ، قَدْ تَبَيَّنَ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ.
هذا دليل، والدليل الآخر قول اللّه تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾[٣]، و«الخمار» ما يستر الرأس، ولا يستر الوجه والجيب، فأمر اللّه بستر الجيب مع الرأس، ولم يأمر بستر الوجه معهما، وفي هذا دلالة على أنّ ستره غير واجب؛ لأنّه لو كان واجبًا لذكره كما ذكر الجيب، ويؤيّد ذلك ما روي عن ابن عباس، قال: «كُنَّ النِّسَاءُ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ يَسْدُلْنَ خُمُرَهُنَّ مِنْ وَرَائِهِنَّ كَمَا يَصْنَعُ النَّبَطُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سَدَلْنَ الْخُمُرَ عَلَى الصَّدْرِ وَالنَّحْرِ»[٤]، وروي عن عائشة، قالت: «إِنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: يَا أَسْمَاءُ، إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ»[٥]، وروي عن مسعدة بن زياد، قال: «سَمِعْتُ جَعْفَرًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسُئِلَ عَمَّا تُظْهِرُ الْمَرْأَةُ مِنْ زِينَتِهَا، فَقَالَ: الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ»[٦].
نعم، يستحبّ للمرأة أن تستر وجهها، لا سيّما إذا كانت جميلة؛ لقول اللّه تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾[٧]، وما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «إِنَّ اللَّهَ سِتِّيرٌ يُحِبُّ السَّتْرَ»[٨].
هل يدخل الكحل والخاتم وحلقة الأنف في قول اللّه تعالى: «مَا ظَهَرَ مِنْهَا»؟
في هذا خلاف بين أهل العلم؛ فقال ابن عبّاس، وأبو هريرة، وقتادة، ومجاهد، والسدّيّ، والشعبيّ، وعكرمة، وعطاء، وسعيد بن جبير، ومسور بن مخرمة، أنّه يدخل، وقال ابن مسعود، وابن عمر، وعبيدة، وإبراهيم، ومكحول، وأبو الأحوص، والحسن البصريّ، أنّه لا يدخل، وهما روايتان عن عائشة، وأهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، والصحيح عند السيّد المنصور حفظه اللّه تعالى أنّه لا يدخل، والدليل على ذلك أنّ اللّه تعالى نهى القواعد من النساء اللاتي لا يجب عليهنّ الحجاب عن «التبرّج بزينة»، فقال: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾[١]، وهذا يدلّ على أنّه لا يجوز للنساء تزيين ما لا يجب عليهنّ ستره عند غير المحارم، فلا يجوز لهنّ تزيين الوجه والكفّين؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾، مَا هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ الْوَجْهُ؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ فِي الشَّهَادَةِ، وَالْكَفُّ؛ لِأَنَّهَا تَظْهَرُ فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ، قُلْتُ: أَلَيْسَ مِنْهُ الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ؟ قَالَ: لَا.