نحن لمّا رأينا راياتكم السود قد ظهرت في خراسان لا لشيء إلا لتمهيد ظهور المهديّ، واطّلعنا على دعوتكم إلى حكومته دون سائر الناس، تذكّرنا قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «إذا رأيتم الرايات السود قد أقبلت من خراسان فأتوها ولو حبوًا على الثلج، فإنّ أصحابها يسألون الحقّ فلا يعطونه، ثمّ يسألونه فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون، فيعطون ما سألوه، فيؤدّونه إلى المهديّ»، وفي رواية أخرى: «تجيء رايات سود من قبل المشرق كأنّ قلوبهم زبر الحديد، فمن سمع بهم فليأتهم، ولو حبوًا على الثلج، فإنّهم أنصار المهديّ في آخر الزمان، يوطّئون له سلطانه»، فنرجو أن تكونوا هم.
هذا معنى الحديث المعروف بين أهل الحديث بـ«حديث الرايات»، وهو أقدم وأشهر وأصحّ ما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأصحابه وأهل بيته في باب علامات ظهور المهديّ عليه السلام، بحيث أنّه كان مصدر إلهام لكثير من الثورات في تاريخ الإسلام، كثورة عبد الرحمن بن الأشعث (ت٨٥هـ) ضدّ عبد الملك بن مروان[١]، وثورة حارث بن سريج (ت١٢٨هـ) ضدّ نصر بن سيّار[٢]، وثورة أبي مسلم الخراسانيّ (ت١٣٧هـ) ضدّ بني أميّة[٣]، وانعكس في كتب جميع المذاهب الإسلاميّة؛ كما رواه من السنّة رجال مثل ابن حمّاد (ت٢٢٨هـ) في «الفتن»[٤]، وابن أبي شيبة (ت٢٣٥هـ) في «مصنّفه»[٥]، وأحمد بن حنبل (ت٢٤١هـ) في «مسنده»[٦]، وابن ماجه (ت٢٧٣هـ) في «سننه»[٧]، وأبو داود (ت٢٧٥هـ) في «سننه»[٨]، وأحمد بن عمرو البزار (ت٢٩٢هـ) في «مسنده»[٩]، والرويانيّ (ت٣٠٧هـ) في «مسنده»[١٠]، وأبو سعيد الشاشيّ (ت٣٣٥هـ) في «مسنده»[١١]، ومكرم البزاز (ت٣٤٥هـ) في «فوائده»[١٢]، والمطهّر بن طاهر المقدسيّ (تنحو٣٥٥هـ) في «البدء والتاريخ»[١٣]، والطبرانيّ (ت٣٦٠هـ) في «المعجم الأوسط»[١٤] و«المعجم الكبير»[١٥]، وابن عديّ (ت٣٦٥هـ) في «الكامل»[١٦]، والحاكم (ت٤٠٥هـ) في «المستدرك على الصّحيحين»[١٧]، والبيهقيّ (ت٤٥٨هـ) في «دلائل النبوّة»[١٨]، والخطيب البغداديّ (ت٤٦٣هـ) في «الرحلة في طلب الحديث»[١٩]، وابن كثير (ت٧٧٤هـ) في «النهاية في الفتن والملاحم»[٢٠]، ومن الشيعة رجال مثل محمّد بن سليمان الكوفيّ (تبعد٣٢٠هـ) في «مناقب أمير المؤمنين»[٢١]، ومحمّد بن إبراهيم النعمانيّ (تنحو٣٦٠هـ) في «الغيبة»[٢٢]، والقاضي النعمان المغربيّ (ت٣٦٣هـ) في «شرح الأخبار»[٢٣]، ومحمّد بن جرير الطبريّ الصغير (تبعد٤١١هـ) في «دلائل الإمامة»[٢٤]، ومحمّد بن الحسن الطوسيّ (ت٤٦٠هـ) في «الغيبة»[٢٥]، وابن طاووس (ت٦٦٤هـ) في «الملاحم والفتن»[٢٦]، وابن أبي حاتم العامليّ (ت٦٦٤هـ) في «الدرّ النظيم»[٢٧]، بأسانيد عديدة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؛ كما روى كثير منهم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نظر يومًا إلى فتية من بني هاشم، فتغيّر لونه واغرورقت عيناه، فقيل: يا رسول اللّه، لا نزال نرى في وجهك شيئًا نكرهه، فقال:
إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اخْتَارَ لَنَا اللَّهُ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا وَإِنَّ أَهْلَ بَيْتِي سَيَلْقَوْنَ بَعْدِي بَلَاءً وَتَشْرِيدًا وَتَطْرِيدًا، حَتَّى يَأْتِيَ قَوْمٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ -أَوْ قَالَ: مِنْ قِبَلِ خُرَاسَانَ- مَعَهُمْ رَايَاتٌ سُودٌ يَسْأَلُونَ الْحَقَّ فَلَا يُعْطَوْنَهُ، ثُمَّ يَسْأَلُونَهُ فَلَا يُعْطَوْنَهُ، ثُمَّ يَسْأَلُونَهُ فَلَا يُعْطَوْنَهُ، فَيُقَاتِلُونَ فَيُنْصَرُونَ، فَيُعْطَوْنَ مَا سَأَلُوا، فَمَنْ أَدْرَكَهُمْ مِنْكُمْ أَوْ مِنْ أَعْقَابِكُمْ، فَلْيَأْتِهِمْ وَلْيُبَايِعْهُمْ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ، فَإِنَّهَا رَايَاتُ هُدًى، يَدْفَعُونَهَا إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا.
وهذا حديث صحيح الإسناد؛ لأنّ رواته من الرجال المشهورين والمرضيّين بين المسلمين؛ كمعاوية بن هشام القصّار أبي الحسن الكوفيّ المتوفّى عام ٢٠٤ أو ٢٠٥ للهجرة، وهو من رجال الصحاح غير البخاريّ، وعليّ بن صالح أبي محمّد الهمدانيّ الكوفيّ المتوفّى عام ١٥١ أو ١٥٤ للهجرة، وهو أيضًا من رجال الصحاح، ووثّقه قوم وصحّح حديثه آخرون، ويزيد بن أبي زياد القرشيّ أبي عبد اللّه الكوفيّ المتوفّى عام ١٣٦ أو ١٣٧ للهجرة، وكان عند محمّد بن الفضيل «من أئمّة الشيعة الكبار»، وعند البخاريّ ومسلم صدوقًا، وعند يعقوب بن سفيان عادلًا ثقة، وإبراهيم بن يزيد النخعيّ الكوفيّ المتوفّى عام ٩٦ للهجرة، وهو فقيه كبير من رجال الصحاح المتّفق على وثاقتهم، وعلقمة بن قيس النخعيّ المتوفّى عام ٦٢ للهجرة، تابعيّ من رجال الصحاح، بل الحقّ أنّ هذا الحديث بالغ مبلغ التواتر؛ لأنّ رواته عن يزيد بن أبي زياد يبلغون عشرة رجال، وهم عليّ بن صالح، وصباح بن يحيى المزنيّ، ومحمّد بن الفضيل، وعبد اللّه بن إدريس، وجرير بن عبد الحميد، وخالد بن عبد اللّه، وفطر بن خليفة، ومندل بن عليّ، وخلف، وعمرو بن القاسم بن حبيب، ولم ينفرد يزيد بن أبي زياد بروايته عن إبراهيم النخعيّ، بل رواه عنه رجال آخرون أيضًا كحكم بن عتيبة وعمارة بن القعقاع، وكانا من كبار المسلمين وثقاتهم، ولم ينفرد بروايته إبراهيم النخعيّ، بل رواه رجال آخرون أيضًا كزيد بن رفيع والحسن البصريّ وجابر بن يزيد، ورواته عنهم كشريك وعلاء بن عتبة وحمزة النصيبيّ والجزريّ أيضًا يعدّون من رواة الحديث في هذه الطبقة، فيبلغون سبعة رجال، ولم ينفرد علقمة بروايته عن عبد اللّه بن مسعود، بل رواه عنه رجال آخرون أيضًا كأسود بن يزيد، وعبيدة السلمانيّ، وأبي عبيدة عامر بن عبد اللّه بن مسعود، ولم ينفرد عبد اللّه بن مسعود بروايته عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، بل رواه عنه رجال آخرون أيضًا كعبد اللّه بن عباس، وثوبان، وذي مخمر، ورواته عنهم كأبي أسماء الرحبيّ، وسعيد بن المسيّب، وتميم بن حذلم، وعبد الواحد، وزيد بن الحسن أيضًا يعدّون من رواة الحديث في هذه الطبقة، فيبلغون تسعة رجال، وقد روي باختلاف يسير عن أهل البيت كعليّ وأبي جعفر الباقر عليهما السلام أيضًا، فلا ينبغي الشكّ في أنّه حديث متواتر لفظيًّا، وهو أعلى مراتب التواتر؛ بغضّ النظر أنّ معناه الكلّيّ قد روي بواسطة رجال آخرين أيضًا كعمّار بن ياسر، وعبّاس بن عبد المطلب، وعبد اللّه بن عمرو، وعمرو بن مرّة الجهنيّ، وعبد اللّه بن الحرث بن الجزء الزبيديّ، وأبي هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وبواسطة رجال آخرين أيضًا كأبي رومان، وعامر بن واثلة، ومحمّد بن الحنفيّة، وحارث الهمدانيّ، وأصبغ بن نباتة، وسجّة بن عبد اللّه عن عليّ عليه السلام، وبواسطة رجال آخرين أيضًا كجابر بن يزيد، وداود الدجاجيّ، وأبي بكر الحضرميّ، وإسرائيل بن عبّاد، ومعروف بن خرّبوذ عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، وبواسطة رجال آخرين أيضًا كأبي بصير، وفضيل بن يسار، وعبد الحميد بن أبي العلاء، وعبّاد بن محمّد المدائنيّ عن جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام، ولذلك فإنّ «تواتره المعنويّ» واضح جدًّا، ومن ثمّ يمكن اعتباره حديثًا ثابتًا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأهل بيته، والحقّ أنّه لا يوجد في هذا الباب حديث آخر له مثل هذه القدمة والشهرة والأسناد والتأثيرات التاريخيّة.
وفقًا لهذا الحديث، يجب على كلّ مسلم اللحوق بحركة تظهر في خراسان الكبرى من شرق دار الإسلام مع رايات سود، فتدعو إلى أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عمومًا وإلى المهديّ عليه السلام خصوصًا وتمهّد لحكومة المهديّ عليه السلام، وهي حركة يعتقد كثير من أهل العلم أنّها حركة المنصور الهاشمي الخراساني؛ لأنّ حركة هذا العالم الصالح الجليل قد ظهرت في خراسان الكبرى من شرق دار الإسلام مع رايات سود، فتدعو إلى أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عمومًا وإلى المهديّ عليه السلام خصوصًا وتمهّد لحكومة المهديّ عليه السلام، ولم تظهر قبلها في هذه المنطقة حركة بهذه الصفة، ولو ظهرت بعدها في هذه المنطقة حركة بهذه الصفة فرضًا ستكون لا محالة تابعة ومواصلة لها؛ لأنّها ستفعل ما بدأته من قبل، ولا معنى لإعادة بدئه كما هو واضح، وعليه فلا يمكن ظهور حركة أخرى في هذه المنطقة بهذه الصفة إلا أن تكون تابعة لحركة المنصور الهاشمي الخراساني، ولا شكّ أنّ اللحوق بالمتبوع أولى من اللحوق بالتابع، بل ليس من المعقول أن لا يأمر اللّه بلحوق المتبوع ثمّ يأمر بلحوق التابع؛ كما قال: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾[٢٨]، ولا شكّ أنّ تقديم المسبوق على السابق قبيح يخالف عدل اللّه وحكمته؛ كما قال: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾[٢٩]، وقال: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾[٣٠]. لذلك، يعتقد المتعقّلون من أهل العلم أنّه لو لم تكن حركة المنصور الهاشمي الخراساني الظاهرة في هذه المنطقة للدعوة إلى المهديّ والتمهيد لظهوره تأويل هذا الحديث، فلن تكون أيّ حركة بعدها تأويل هذا الحديث؛ لأنّ كلّ حركة ظهرت بعدها في هذه المنطقة لن تخلو من إحدى الحالتين: إمّا ستكون مثلها داعية إلى المهديّ وممهّدة لظهوره، فلن تكون تأويل هذا الحديث مثلها، أو ستكون غير داعية إلى المهديّ وغير ممهّدة لظهوره، فلن تكون تأويل هذا الحديث من باب أولى؛ لأنّ هذا الحديث قد جعل الدعوة إلى المهديّ والتمهيد لظهوره أهمّ صفة تأويله، فإذا لم تكن الحركة التي تدعو إلى المهديّ وتمهّد لظهوره تأويله، فكيف تكون الحركة التي لا تدعو إلى المهديّ ولا تمهّد لظهوره تأويله؟!
من هنا يعلم أنّ القول بتحقّق هذا الحديث في حركة المنصور الهاشمي الخراساني قول في غاية القوّة، بل القطع به الحاصل للمتعقّلين من أهل العلم هو في غاية الوجاهة، وهذا بغضّ النظر عن سائر الأوصاف والعلامات المرويّة التي اجتمعت في هذا العالم الصالح الجليل. مع ذلك كلّه، فإنّه لا يدّعي بصراحة أنّه تأويل هذا الحديث، ولعلّ ذلك من الورع؛ إذ يكره الإدّعاء في نفسه لكي لا يتشبّه بالمتكلّفين، أو من التقيّة؛ إذ يخاف على نفسه من الكفّار والظالمين، أو من رأيه أنّ الأخذ بالقدر المتيقّن كافٍ لنصرته؛ نظرًا لأنّ نصرته اعتبارًا لدعوته إلى المهديّ وتمهيده لظهوره تفي بالغرض وإن لم تكن عن اعتقاد بأنّه تأويل الحديث[٣١]، وكيفما كان فإنّ الناس يمكنهم المعرفة بأنّ الحديث هل تحقّق فيه أم لا إذا نظروا في مكان ظهوره وماهيّة دعوته وسائر أوصافه وعلاماته بغضّ النظر عن أنّه يدّعي ذلك أم لا، ومن الواضح أنّ معرفة الموضوع هي ممّا يجب عليهم، وما توفيقهم إلا باللّه، وهو يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.