يقول السيّد المنصور في كتاب «العودة إلى الإسلام» (ص٢١٦) بوجوب عرض الروايات على القرآن، كما جاء في الحديث؛ لأنّه يرى أنّ الروايات ليس لها أن تنسخ القرآن أو تخصّصه أو تعمّمه. فهل حديث عرض الروايات على القرآن ثابت وفق معايير أهل الحديث؟ فقد رأيت أناسًا منهم يدافعون عن الروايات في تراثهم، ويقولون إنّ حديث العرض غير ثابت وهو ضعيف الإسناد. فما الجواب؟
إنّ هؤلاء قوم أضلّهم اللّه على علم؛ لأنّهم يتجاهلون، ومنهم مقلّدون قد أعماهم التعصّب للمذاهب والرجال، ولا رغبة لهم في طلب العلم أصلًا، ومن أجل ذلك يضعّفون كلّ حديث يخالف أهواءهم، ولو كان موافقًا لها لأخذوا به مسرعين، وممّا يخالف أهواءهم ما جاء عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في وجوب عرض الأحاديث على القرآن لمعرفة صحيحها وسقيمها، وإنّما يكرهونه لعلمهم بأنّ كثيرًا من الأحاديث التي بنوا عليها آراءهم مخالفة لكتاب اللّه؛ فلو كان حقًّا لوجب ترك هذه الأحاديث والآراء المبنيّة عليها، وذلك كبير إلّا على الذين هدى اللّه، ولا شكّ أنّه حقّ وإن كانوا له كارهين، ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾[١]، وممّا يدلّ على أنّه حقّ الأمور التالية:
١ . صحّة إسناده
ادّعاء القوم بأنّ الحديث ضعيف الإسناد غير صحيح؛ لأنّ بعض أسانيده قويّة وفقًا لمعايير أهل الحديث؛ كما روى المستغفريّ في «فضائل القرآن»[٢]، قال: أخبرنا أبو عليّ زاهر بن أحمد؛ وروى أبو إسماعيل الهرويّ في «ذمّ الكلام وأهله»[٣]، قال: أخبرنا أبو يعقوب، أخبرنا زاهر بن أحمد؛ أخبرنا محمّد بن إدريس، حدّثنا أبو كريب، حدّثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زرّ بن حبيش، عن عليّ بن أبي طالب، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «سَيَكُونُ عَلَيَّ رُوَاةٌ يَرْوُونَ عَنِّي أَحَادِيثَ، فَاعْرِضُوهَا عَلَى الْقُرْآنِ، فَإِنْ وَافَقَتِ الْقُرْآنَ فَخُذُوهَا، وَإِلَّا فَدَعُوهَا»، وهذا إسناد حسن من أجل عاصم، وهو ابن أبي النجود، وبقية رجاله رجال الصحيح، وأبو بكر بن عيّاش من رجال البخاريّ[٤]، وروى له مسلم في «المقدّمة»[٥]، وهو ثقة، إلّا أنّه لمّا كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح، وقد جاء الحديث من غير طريقهما، فلا ريب في أنّه صحيح بمجموع طرقه.
٢ . كثرة طرقه
لقد جاء هذا الحديث من طريق عليّ بن أبي طالب، وعبد اللّه بن جعفر، وجابر بن عبد اللّه، وعبد اللّه بن عمر، وعبد اللّه بن بُحينة، وثوبان، وأبي هريرة، وجاء مرسلًا من طريق محمّد بن عليّ، وجعفر بن محمّد، وزيد بن عليّ، والحسن البصريّ، وغيرهم، وله عن بعضهم طرق، وهذه طرق كثيرة تؤيّد بعضها بعضًا، بل قد تجعله متواترًا، والمتواتر لا يضرّه ضعف رواته؛ لأنّ كثرتهم تفيد العلم بأنّهم لم يكذبوا ولم يخطئوا.
٣ . شواهده
لهذا الحديث شواهد كثيرة تغافل عنها أهل الحديث، وهي في معناه؛ منها ما جاء عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه كان يقول في خطبته: «إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ»، وهو في صحيح البخاريّ ومسلم[٦]، ولا معنى له إلّا أنّ سائر الأحاديث إذا تعارضت مع كتاب اللّه سقطت؛ لأنّ كتاب اللّه أحسن، ومنها ما جاء عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه صعد المنبر فقال: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟! مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ»، وهو في صحيح البخاريّ ومسلم[٧]، وبعمومه يشمل النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؛ فقد قال اللّه تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[٨]، ولذلك لم يكن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يشترط على الناس شرطًا ليس في كتاب اللّه، ومنها ما روي عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا إِلَّا الْقُرْآنَ، فَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ»[٩]، وإسناده صحيح على شرط البخاريّ ومسلم، وهو يدلّ على أنّ السنّة لا تعادل القرآن، فكيف تنازعه؟! ومنها ما روي عن أبي هريرة، قال: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَكْتُبُ الْأَحَادِيثَ، فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي تَكْتُبُونَ؟ قُلْنَا: أَحَادِيثَ سَمِعْنَاهَا مِنْكَ، قَالَ: أَكِتَابًا غَيْرَ كِتَابِ اللَّهِ تُرِيدُونَ؟! مَا أَضَلَّ الْأُمَمَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِلَّا مَا اكْتَتَبُوا مِنَ الْكُتُبِ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ»[١٠]، وهو صريح في أنّ الأحاديث لا يُشتغل بها من دون القرآن، فكيف يجوز نسخه أو تخصيصه أو تعميمه بها؟! وكذلك ما روي عن ابن عبّاس وابن عمر، قالا: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَعْصُوبًا رَأْسُهُ، فَرَقِيَ دَرَجَاتِ الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَكْتُبُونَهَا؟! أَكِتَابٌ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ؟! يُوشِكُ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِكِتَابِهِ فَيُسْرِيَ عَلَيْهِ لَيْلًا، فَلَا يَتْرُكَ فِي وَرَقَةٍ وَلَا قَلْبٍ مِنْهُ حَرْفًا إِلَّا ذَهَبَ بِهِ»[١١]، وكذلك ما روي عن عبد اللّه بن عمرو، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «مِنِ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْأَشْرَارُ، وَيُوضَعَ الْأَخْيَارُ، وَيُفْتَحَ الْقَوْلُ، وَيُحْبَسَ الْعَمَلُ، وَيُقْرَأَ فِي الْقَوْمِ الْمَثْنَاةُ، قِيلَ: وَمَا الْمَثْنَاةُ؟ قَالَ: مَا كُتِبَ سِوَى كِتَابِ اللَّهِ»[١٢]، وإسناده صحيح، وفي رواية أخرى قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، تَعَلَّمُوهُ، وَتَفَقَّهُوا فِيهِ، وَإِيَّايَ وَالْمَثْنَاةُ، قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْمَثْنَاةُ؟ قَالَ: الْكُتُبُ»[١٣]، وكذلك ما روي عن أبي موسى الغافقيّ أنّه سمع عقبة بن عامر الجهنيّ يحدّث على المنبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أحاديث، فقال أبو موسى: «إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَحَافِظٌ أَوْ هَالِكٌ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيْنَا أَنْ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَسَتَرْجِعُونَ إِلَى قَوْمٍ يُحِبُّونَ الْحَدِيثَ عَنِّي، فَمَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ حَفِظَ عَنِّي شَيْئًا فَلْيُحَدِّثْهُ»[١٤]، ومنها ما روي عن زيد بن أرقم، قال: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ، فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَهْلُ بَيْتِي»، وهو في صحيح مسلم[١٥]، وفيه دلالة على أنّ القرآن يجب أن يؤخذ به ويستمسك به أوّلًا، والسنّة متأخّرة عنه، فلا تقدّم عليه أبدًا، وكذلك ما روي عن أبي سعيد، وأبي ذرّ، وحذيفة بن أسيد، وغيرهم، قالوا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ، كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»[١٦]، وإسناده صحيح، وهو صريح في أنّ القرآن أكبر من السنّة، وأنّ السنّة لا تفارقه في شيء، فكيف يمكن أن تنسخه أو تخصّصه أو تعمّمه؟! وكذلك ما روي عن معقل بن يسار، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «اعْمَلُوا بِالْقُرْآنِ، وَأَحِلُّوا حَلَالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَاقْتَدُوا بِهِ، وَلَا تَكْفُرُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَمَا تَشَابَهَ عَلَيْكُمْ مِنْهُ فَرَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِي كَيْمَا يُخْبِرُوكُمْ»[١٧]، وإسناده حسن، وهو في معنى حديث الثقلين؛ لأنّ المراد بأولي الأمر من بعده عترته أهل بيته، وهم المبيّنون للناس سنّته، ومنها ما روي عن معاذ بن جبل أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال له حين بعثه إلى اليمن: «كَيْفَ تَصْنَعُ إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟» قال: «أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ»، قال: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟» قال: «فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ»، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ»[١٨]، وهو حديث معتبر عند أهل العلم[١٩]، وفيه دلالة واضحة على أنّ كتاب اللّه مقدّم على السنّة، ولا يؤخذ بالسنّة إلّا فيما لا يعلم حكمه من كتاب اللّه، ومنها ما جاء عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه كان يسئل عن الشيء، فيقول: «لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ»، فيتوقّف حتّى ينزل عليه في ذلك قرآن؛ كما سألته خولة بنت ثعلبة بن مالك عن كفّارة الظهار، فقال: «مَا أُمِرْتُ بِشَيْءٍ فِي شَأْنِكِ، فَإِنْ يُنْزِلِ اللَّهُ شَيْئًا فِي شَأْنِكِ بَيَّنْتُهُ لَكِ»، فأنزل اللّه عليه سورة المجادلة[٢٠]، ولو كان مستقلًّا في التشريع كما يزعم هؤلاء لم يفعل ذلك، وقد جاء في صحيح البخاريّ ومسلم أنّه سئل عن الحمر يربطها الرجل في سبيل اللّه، فقال: «لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾[٢١]»[٢٢]، فأخذ بعموم القرآن فيما لم ينزل عليه حكمه، ولو كان مستقلًّا في التشريع كما يزعمون لم يكن محتاجًا إلى ذلك، ومنها ما روي عن عبيد بن عمير الليثيّ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ أَوْ إِلَى جَانِبِ الْحُجَرِ، فَحَذَّرَ النَّاسَ الْفِتَنَ، ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ حَتَّى إِنَّ صَوْتَهُ لَيَخْرُجُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ لَا يُمْسِكُ النَّاسُ عَلَيَّ شَيْئًا، أَلَا إِنِّي لَا أُحِلُّ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَلَا أُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ»[٢٣]، وإسناده صحيح، وهو صريح في أنّ السنّة لا تزيد في حلال القرآن أو حرامه، فلا يجوز التمسّك بها في مقابلة القرآن، وكذلك ما روي عن أنس بن مالك، قال: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: عَلَيَّ بِالنَّاسِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا اجْتَمَعَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ كِتَابَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، فَأَحَلَّ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، فَمَا أَحَلَّ فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ فَهُوَ حَلَالٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا حَرَّمَ فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تُعَلِّقُوا عَلَيَّ بِشَيْءٍ»[٢٤]، وإسناده حسن، وكذلك ما روي عن عوف بن مالك، قال: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِالْهَجِيرِ وَهُوَ مَرْعُوبٌ، فَقَالَ: أَطِيعُونِي مَا كُنْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، وَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، أَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ»[٢٥]، وكذلك ما روي عن معاذ بن جبل، قال: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ، فَقَالَ: أَنَا مُحَمَّدٌ، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلَامِ وَخَوَاتِمَهُ، فَأَطِيعُونِي مَا دُمْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، فَإِذَا ذُهِبَ بِي فَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، أَحِلُّوا حَلَالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ»[٢٦]، وكذلك ما روي عن سلمان الفارسيّ، قال: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ، فَقَالَ: الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ»[٢٧]، وإسناده حسن، وكذلك ما روي عن أبي الدرداء، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾[٢٨]»[٢٩]، وكذلك ما روي عن أبي سعيد الخدريّ، قال: «لَمْ نَعْدُ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ فَوَقَعْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْبَقْلَةِ الثُّومِ، وَالنَّاسُ جِيَاعٌ، فَأَكَلْنَا مِنْهَا أَكْلًا شَدِيدًا، ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الرِّيحَ، فَقَالَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ شَيْئًا فَلَا يَقْرَبْنَا فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ النَّاسُ: حُرِّمَتْ! حُرِّمَتْ! فَبَلَغَ ذَاكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا»[٣٠]، وإسناده صحيح، ومنها ما روي عن محمّد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «مَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي مِمَّا تَعْرِفُونَ فَخُذُوا بِهِ، وَمَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي مِمَّا تُنْكِرُونَهُ فَلَا تَأْخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَا أَقُولُ الْمُنْكَرَ، وَلَسْتُ مِنْ أَهْلِهِ»[٣١]، ولا شكّ في أنّ المعروف ما عرّفه القرآن، وأنّ المنكر ما أنكره القرآن، فلا يجوز نسخ القرآن أو تخصيصه أو تعميمه بما يحدَّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؛ لأنّه لا يقول المنكر، وليس من أهله، وكذلك ما روي عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا يُوَافِقُ الْحَقَّ فَأَنَا قُلْتُهُ»[٣٢]، ومن المعلوم أنّ كتاب اللّه هو الحقّ، فلا بدّ للحديث أن يوافقه، والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن يحصى، وكلّها تدلّ على ما يدلّ عليه حديث العرض، وهو وجوب موافقة القرآن في كلّ شيء، وعدم جواز مخالفته بشكل كلّيّ أو جزئيّ، ولذلك لا يكذّب هؤلاء بحديث العرض فقطّ، ولكنّهم يكذّبون بجميع هذه الأحاديث، وهي متواترة، وفيها صحاح وحسان حسب قواعدهم!
٤ . موافقته لكتاب اللّه
لقد صدّق كتاب اللّه هذا الحديث إذ قال: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾[٣٣]؛ فدلّ على أنّ كتاب اللّه أحسن من كلّ حديث يخالفه، فيقدّم عليه، لقوله: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[٣٤]، وقال: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾[٣٥]؛ فدلّ على أنّ من لم ينفعه كتاب اللّه لم ينفعه حديث غيره، وقال: ﴿هَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ﴾[٣٦]؛ فدلّ على وجوب اتّباع الكتاب وإن خالفه حديث، وقال: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾[٣٧]، فدلّ على أنّ اتّباع الكتاب واجب، واتّباع شيء من دونه حرام، والحديث شيء من دونه إذا كان مخالفًا له، وقال: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾[٣٨]، فدلّ على أنّ الكتاب والسنّة إذا تعارضا وجب اتّباع الكتاب؛ لأنّه أحسن ما أُنزل، وقال: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾[٣٩]، فدلّ على أنّ المتمسّكين بالكتاب هم مصلحون وإن خالفوا بذلك حديثًا، وقال: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾[٤٠]، فدلّ على ضلالة الذين يأخذون من الكتاب بما وافقه الحديث، ويتركون منه ما خالفه؛ لأنّهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وقال: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾[٤١]، وقال: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾[٤٢]، فدلّ على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان عليه أن يحكم بما أنزل اللّه في الكتاب فقطّ، ولم يكن له ترك بعضه، وقال: ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي﴾[٤٣]، وقال: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾[٤٤]، فدلّ على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان متّبعًا للقرآن في كلّ شيء، ولم يكن ليبدّل حكمه حكمًا آخر، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾[٤٥]، فدلّ على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم يكن له أن يحرّم ما أحلّ اللّه، فإذا نهى عن شيء لم يحرّمه اللّه فإنّه نهي تنزيه، كما نهى عن الحمار الأهليّ، فهو مكروه، وليس بحرام، وقال: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[٤٦]، فدلّ على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان مبيّنًا للقرآن فقطّ، ولم يكن معارضًا له بنسخ أو تخصيص أو تعميم، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّا، ومن العجائب قول سفهائهم: «نَحْنُ نَعْرِضُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَنَعْتَمِدُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا عَرَضْنَاهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَجَدْنَاهُ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَلَّا نَقْبَلَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ، بَلْ وَجَدْنَا كِتَابَ اللَّهِ يُطْلِقُ التَّأَسِّيَ بِهِ وَالْأَمْرَ بِطَاعَتِهِ، وَيُحَذِّرُ الْمُخَالَفَةَ عَنْ أَمْرِهِ جُمْلَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ»، حكاه ابن عبد البرّ في «جامع بيان العلم وفضله»[٤٧]، وهو مغالطة فاحشة؛ لأنّ حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لا يساوي قوله وفعله، بل هو أعمّ منهما؛ لأنّ منه كذبًا وغلطًا من الرواة كما هو مسلّم به، وقد أمر كتاب اللّه بطاعة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في قوله وفعله، ولم يأمر بطاعة كلّ ما يحدَّث عنه، وحديث العرض يقول أنّ ما يحدَّث عنه وهو مخالف لكتاب اللّه كذب أو غلط من الرواة، ولا يقول أنّه من قوله وفعله، ولكن لا يجب طاعته فيه! فإنّ الحديث موافق لكتاب اللّه كما بيّنّاه، ولكنّهم قوم لا يفقهون!
٥ . موافقته للعقل السليم
هذا الحديث ما يقتضيه العقل السليم من جهتين: الأولى أنّ القرآن فاق كلّ حديث في الإعجاز والتواتر والشهرة العامّة، ولذلك ليس من المناسب نسخه أو تخصيصه أو تعميمه بحديث، بل هو إغراء بالجهل وتأخير للبيان عن وقت الحاجة، وهما قبيحان، والثانية أنّ اللّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾[٤٨]، ففرض طاعة القرآن والسنّة جميعًا، وهي غير ممكنة إلّا إذا كانا متوافقين في كلّ شيء؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
قَالَ رَجُلٌ لِلْمَنْصُورِ: أَنْتَ الَّذِي يَقُولُ أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَزِيدُ الْقُرْآنَ وَلَا تَنْقُصُهُ؟ قَالَ: أَنَا؟! وَمَنْ أَنَا حَتَّى أَقُولَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ شَيْئًا؟! إِنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ! قَالَ الرَّجُلُ: مَتَى قَالَ اللَّهُ ذَلِكَ؟! قَالَ: إِذْ قَالَ: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا مُتَوَافِقَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنْ تَخَالَفَا فِي شَيْءٍ فَلَا يُطَاعُ أَحَدُهُمَا إِلَّا بِمَعْصِيَةِ الْآخَرِ، قَالَ الرَّجُلُ: صَدَقْتَ.
هذا ما يقتضيه العقل السليم، وقد قال اللّه تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[٤٩].
٦ . ثبوته عن أهل البيت
لقد ثبت هذا الحديث عن أهل البيت، وهم الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرًا، وأوجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم التمسّك بهم إلى يوم القيامة؛ كما روى أبو يوسف، قال: «حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي كَرِيمَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ دَعَا الْيَهُودَ فَسَأَلَهُمْ، فَحَدَّثُوهُ حَتَّى كَذَبُوا عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَصَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: إِنَّ الْحَدِيثَ سَيَفْشُو عَنِّي، فَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فَهُوَ عَنِّي، وَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَلَيْسَ عَنِّي»[٥٠]، وابن أبي كريمة ثقة، والظاهر أنّ أبا جعفر هو محمّد بن عليّ بن الحسين، فالإسناد إليه صحيح، وقد روي عنه بإسناد صحيح آخر، قال: «قَرَأْتُ فِي كِتَابٍ لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّهُ سَيَكْذِبُ عَلَيَّ كَاذِبٌ كَمَا كُذِبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَمَا جَاءَكُمْ عَنِّي مِنْ حَدِيثٍ وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ حَدِيثِي، وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَلَيْسَ مِنْ حَدِيثِي»[٥١]، وهذا كحديث متّصل؛ لأنّه قرأه في كتاب لعليّ عليه السلام، وروي بإسناد صحيح آخر، عن جعفر بن محمّد، قال: «خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَا جَاءَكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ، وَمَا جَاءَكُمْ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَقُلْهُ»[٥٢]، وروي بإسناد صحيح آخر، عن جعفر بن محمّد، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي بِالْحَدِيثِ فَأَنْحِلُونِي أَهْنَأَهُ وَأَسْهَلَهُ وَأَرْشَدَهُ، فَإِنْ وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَقُلْهُ»[٥٣]، وروي بإسناد صحيح آخر، عن جعفر بن محمّد، قال: «كُلُّ شَيْءٍ مَرْدُودٌ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكُلُّ حَدِيثٍ لَا يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ زُخْرُفٌ»[٥٤]، وروي أنّه كان يقول: «الْوُقُوفُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ خَيْرٌ مِنَ الْإِقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَةِ، وَتَرْكُ رِوَايَةِ حَدِيثٍ لَمْ تَحْفَظْ خَيْرٌ لَكَ مِنْ رِوَايَةِ حَدِيثٍ لَمْ تُحْصِي، إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً وَعَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُورًا، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ، وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَدَعُوهُ، وَلَنْ يَدَعَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَالَمِ»[٥٥]، وروي أنّه كان يقول: «إِنَّ رُوَاةَ الْكِتَابِ كَثِيرٌ، وَإِنَّ رُعَاتَهُ قَلِيلٌ، وَكَمْ مِنْ مُسْتَنْصِحٍ لِلْحَدِيثِ مُسْتَغِشٍّ لِلْكِتَابِ، فَالْعُلَمَاءُ يَحْزُنُهُمْ تَرْكُ الرِّعَايَةِ وَالْجُهَّالُ يَحْزُنُهُمْ حِفْظُ الرِّوَايَةِ، فَرَاعٍ يَرْعَى حَيَاتَهُ، وَرَاعٍ يَرْعَى هَلَكَتَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتَلَفَ الرَّاعِيَانِ وَتَغَايَرَ الْفَرِيقَانِ»[٥٦]، وروي عن عليّ بن موسى الرضا أنّه قال في الحديث الذي يخالف كتاب اللّه: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ حَرَامًا، وَأَحَلَّ حَلَالًا، وَفَرَضَ فَرَائِضَ، فَمَا جَاءَ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، أَوْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، أَوْ دَفْعِ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ رَسْمُهَا بَيِّنٌ قَائِمٌ بِلَا نَاسِخٍ نَسَخَ ذَلِكَ، فَذَلِكَ مَا لَا يَسَعُ الْأَخْذُ بِهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِيُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَلَا لِيُحَلِّلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا لِيُغَيِّرَ فَرَائِضَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهُ، كَانَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُتَّبِعًا مُسَلِّمًا مُؤَدِّيًا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾[٥٧]، فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مُتَّبِعًا لِلَّهِ مُؤَدِّيًا عَنِ اللَّهِ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، فَمَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَبَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَاعْرِضُوهُمَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَمَا كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَوْجُودًا حَلَالًا أَوْ حَرَامًا فَاتَّبِعُوا مَا وَافَقَ الْكِتَابَ»[٥٨]، وروي عن صفوان بن يحيى، قال: «سَأَلَنِي أَبُو قُرَّةَ الْمُحَدِّثُ أَنْ أُدْخِلَهُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا، فَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْأَحْكَامِ، حَتَّى بَلَغَ سُؤَالُهُ إِلَى التَّوْحِيدِ، فَقَالَ أَبُو قُرَّةَ: إِنَّا رُوِّينَا أَنَّ اللَّهَ قَسَمَ الرُّؤْيَةَ وَالْكَلَامَ بَيْنَ نَبِيَّيْنِ، فَقَسَمَ الْكَلَامَ لِمُوسَى وَلِمُحَمَّدٍ الرُّؤْيَةَ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا: فَمَنِ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ إِلَى الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾[٥٩]، ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾[٦٠]، وَ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[٦١]؟! أَلَيْسَ مُحَمَّدٌ؟! قَالَ: بَلَى، قَالَ: كَيْفَ يَجِيءُ رَجُلٌ إِلَى الْخَلْقِ جَمِيعًا، فَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَيَقُولُ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾، ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾، وَ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي، وَأَحَطْتُ بِهِ عِلْمًا، وَهُوَ عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ؟! أَمَا تَسْتَحْيُونَ؟! مَا قَدَرَتِ الزَّنَادِقَةُ أَنْ تَرْمِيَهُ بِهَذَا، أَنْ يَكُونَ يَأْتِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ يَأْتِي بِخِلَافِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ! قَالَ أَبُو قُرَّةَ: فَتُكَذِّبُ بِالرِّوَايَاتِ؟! فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا: إِذَا كَانَتِ الرِّوَايَاتُ مُخَالِفَةً لِلْقُرْآنِ كَذَّبْتُهَا»[٦٢]، وإسناده صحيح، وروي عن عاصم، قال: «شَهِدْتُ جِنَازَةً فِيهَا زَيْدُ بْنْ عَلِيٍّ، فَأَنْشَأَ يُحَدِّثُ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ: إِنَّ الدُّخَانَ يَجِيءُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ بِأَنْفِ الْمُؤْمِنِ الزُّكَامُ، وَيَأْخُذُ بِمَسَامِعِ الْكَافِرِ، قَالَ: قُلْتُ رَحِمَكَ اللَّهُ، إِنَّ صَاحِبَنَا عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ- قَدْ قَالَ غَيْرَ هَذَا، قَالَ: إِنَّ الدُّخَانَ قَدْ مَضَى، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[٦٣]، قَالَ: أَصَابَ النَّاسَ جَهْدٌ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ دُخَانًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿فَارْتَقِبْ﴾، وَكَذَا قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ ﴿مُؤْمِنُونَ﴾[٦٤]، قَالَ: ﴿إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا﴾[٦٥]، قُلْتُ لِزَيْدٍ: فَعَادُوا، فَأَعَادَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَدْرًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾[٦٦]، فَذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ، قَالَ: فَقَبِلَ وَاللَّهِ، قَالَ عَاصِمٌ: فَقَالَ رَجُلٌ يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ زَيْدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: إِنَّكُمْ سَيَجِيئُكُمْ رُوَاةٌ، فَمَا وَافَقَ الْقُرْآنَ فَخُذُوا بِهِ، وَمَا كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَدَعُوهُ»[٦٧]، وإسناده حسن، والروايات عن أهل البيت في هذا الباب متواترة، وقد جاء عن عليّ عليه السلام أنّه قال: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْفَقِيهِ حَقِّ الْفَقِيهِ؟ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، وَلَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ»[٦٨]، وإسناده صحيح، وهو صريح في أنّ القرآن لا يترك لغيره، سواء كان حديثًا أو قياسًا أو غير ذلك، ومن تركه لشيء من ذلك فليس بفقيه، وإن تسمّى بالفقيه، وهذا هو مذهب أهل البيت، ومن اتّبعهم لم يضلّ؛ لأنّ اللّه قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾[٦٩]، وأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللَّهِ وَأَهْلَ بَيْتِي، إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»[٧٠].
٧ . عمل الصحابة والتابعين بمضمونه
لقد عمل الفقهاء من الصحابة والتابعين بهذا الحديث؛ كما روي عن عمر أنّه كان يجعل للمطلّقة ثلاثًا السكنى والنفقة، فقالت فاطمة ابنة قيس: «طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا، فَلَمْ يَجْعَلْ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً»، فقال عمر: «لَا نَأْخُذُ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي صَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ، وَنَدَعُ كِتَابَ اللَّهِ»[٧١]، وهذا ظاهر في أنّ مذهب عمر كان عدم الأخذ بالحديث إذا خالف كتاب اللّه، وقد أظهره بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، فكان ذلك كإجماع منهم، وروي أنّ عثمان جلس على المقاعد، فجاء المؤذّن فآذنه بصلاة العصر، فدعا بماء فتوضّأ، ثمّ قال: «وَاللَّهِ لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا، لَوْلَا أَنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ»، ثمّ قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا مِنِ امْرِئٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلَاةَ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى حَتَّى يُصَلِّيَهَا»، قال مالك: «أُرَاهُ يُرِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾[٧٢]»[٧٣]، وهذا ظاهر في أنّ مذهب عثمان كان عدم الأخذ بالحديث إلّا فيما وافق كتاب اللّه، وروي أنّ فاطمة جاءت إلى أبي بكر تطلب ميراثها وجاء معها عليّ، فقال أبو بكر: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»، فقال عليّ: «﴿وَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ﴾[٧٤]، وَقَالَ زَكَرِيَّاءُ: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾[٧٥]»، قال أبو بكر: «هُوَ هَكَذَا، وَأَنْتَ وَاللَّهِ تَعْلَمُ مِثْلَمَا أَعْلَمُ»، فقال عليّ: «هَذَا كِتَابُ اللَّهِ يَنْطِقُ»[٧٦]، وهذا ظاهر في أنّ مذهب عليّ كان عدم الأخذ بالحديث إذا خالف كتاب اللّه وإن جاء به أبو بكر، وروي أنّ عائشة سمعت بحديث عمر: «أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»، فقالت: «يَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ، لَا وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»، ثمّ قالت: «حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ: ﴿لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾[٧٧]»[٧٨]، وهذا ظاهر في أنّ مذهبها كان عدم الأخذ بالحديث إذا خالف كتاب اللّه وإن جاء به عمر، وروي عن ابن عبّاس أنّه قال: «إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَلَمْ تَجِدُوا تَصْدِيقَهُ فِي الْقُرْآنِ فَأَنَا مِنَ الْكَاذِبِينَ»[٧٩]، وهذا ظاهر في أنّ مذهبه كان عدم الأخذ بالحديث إلّا فيما وافق كتاب اللّه، وروي عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال: «إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِحَدِيثٍ أَنْبَأْتُكُمْ بِتَصْدِيقِ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أُجْلِسَ فِيهِ فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيُثَبِّتُهُ اللَّهُ، فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَدِينِي الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾[٨٠]، فَإِذَا مَاتَ الْكَافِرُ أُجْلِسَ فِي قَبْرِهِ فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، قَالَ: فَيَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ وَيُعَذَّبُ فِيهِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾[٨١]»[٨٢]، وهذا ظاهر في أنّ مذهبه كان عدم الأخذ بالحديث إلّا فيما وافق كتاب اللّه، وروي عن أبي جعفر أنّه قال: «إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَاسْأَلُونِي عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: إِنَّ اللَّهَ نَهَى عَنِ الْقِيلِ وَالْقَالِ، وَفَسَادِ الْمَالِ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، فَقَالُوا: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾[٨٣]، وَقَالَ: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾[٨٤]، وَقَالَ: ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾[٨٥]»[٨٦]، وهذا ظاهر في أنّ مذهبه كان عدم الأخذ بالحديث إلّا فيما وافق كتاب اللّه، وروي عن محمّد بن كعب القرظيّ أنّه قال: «كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ حَدِيثًا عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الْتَمَسْتُهُ فِي الْقُرْآنِ»[٨٧]، وهذا ظاهر في أنّ مذهبه كان عدم الأخذ بالحديث إلّا فيما وافق كتاب اللّه. هكذا كان مذهب الفقهاء من الصحابة والتابعين، ولذلك كانوا يكرهون الإشتغال بالحديث ويحرّضون على الإهتمام بكتاب اللّه؛ كما روي أنّ عمر أراد أن يكتب الأحاديث، فاستخار اللّه تعالى شهرًا، ثمّ أصبح وقد عُزم له، فقال: «إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَكْتُبَ السُّنَنَ، وَإِنِّي ذَكَرْتُ قَوْمًا كَانُوا قَبْلَكُمْ، كَتَبُوا كُتُبًا فَأَكَبُّوا عَلَيْهَا وَتَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُلْبِسُ كِتَابَ اللَّهِ بِشَيْءٍ أَبَدًا»، وفي رواية أخرى، قال: «إِنِّي قَدْ كُنْتُ ذَكَرْتُ لَكُمْ مِنْ كِتَابِ السُّنَنِ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ، ثُمَّ تَذَكَّرْتُ، فَإِذَا أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَكُمْ قَدْ كَتَبُوا مَعَ كِتَابِ اللَّهِ كُتُبًا، فَأَكَبُّوا عَلَيْهَا وَتَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُلْبِسُ كِتَابَ اللَّهِ بِشَيْءٍ أَبَدًا»، فترك كتابة الأحاديث[٨٨]، وروي أنّ رجلًا جاء عبد اللّه بن مسعود بكتاب، فنظر فيه عبد اللّه، ثمّ قال: «إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاتِّبَاعِهِمُ الْكُتُبَ وَتَرْكِهِمْ كِتَابَهُمْ»، ثم دعا بطست فيه ماء، فماثه فيه، فقال الرجل: «انْظُرْ فِيهِ، فَإِنَّ فِيهِ أَحَادِيثَ حِسَانًا»، فجعل يميثه فيه، ويقول: «الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ، فَأَشْغِلُوهَا بِالْقُرْآنِ، وَلَا تُشْغِلُوهَا بِغَيْرِهِ»، وقال: «أَقَصَصًا أَحْسَنَ مِنْ قَصَصِ اللَّهِ تُرِيدُونَ؟! أَوَ حَدِيثًا أَحْسَنَ مِنْ حَدِيثِ اللَّهِ تُرِيدُونَ؟!»[٨٩]، ووجد عند بعض أصحابه صحيفة، فأخذها، وقال لهم: «إِنَّمَا أَهْلَكَ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ قَبْلَكُمْ مِثْلُ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَشْبَاهُهَا، تَوَارَثُوهَا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، حَتَّى جَعَلُوا كِتَابَ اللَّهِ خَلْفَ ظُهُوَرِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، فَأَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا عَلِمَ مَكَانَ صَحِيفَةٍ إِلَّا أَتَانِي، فَوَاللَّهِ لَوْ عَلِمْتُهَا بِدَيْرِ هِنْدَ لَانْتَقَلْتُ إِلَيْهَا»[٩٠]، وبلغه أنّ عند ناس كتابًا، فلم يزل بهم حتّى أتوه به، فلمّا أتوه به محاه، ثمّ قال: «إِنَّمَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ أَقْبَلُوا عَلَى كُتُبِ عُلَمَائِهِمْ، وَتَرَكُوا كِتَابَ رَبِّهِمْ»، أو قال: «تَرَكُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ حَتَّى دَرَسَا وَذَهَبَ مَا فِيهِمَا مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ»[٩١]، وروي عن ابن عبّاس أنّه كان يحذّر من كتب الأحاديث ويقول: «إِنَّمَا أَضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمُ الْكُتُبُ»[٩٢]، وروي عن أبى موسى الأشعريّ أنّه كان يقول: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَتَبُوا كِتَابًا وَاتَّبَعُوهُ وَتَرَكُوا التَّوْرَاةَ»[٩٣]، وروي أنّ ناسًا سألوا أبا سعيد الخدريّ أن يُكتبهم الحديث، فأبى عليهم، وقال: «أَتَجْعَلُونَهُ مَصَاحِفَ تَقْرَؤُونَهَا؟!»، وقال: «أَتَتَّخِذُونَهُ قُرْآنًا؟!»، وقال: «لَنْ أُكْتِبَكُمُوهُ، وَلَنْ أَجْعَلَهُ قُرْآنًا»[٩٤]، وروي عن عبد اللّه بن عمرو أنّه قال: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُتْلَى الْمَثْنَاةُ، فَلَا يُوجَدُ مَنْ يُغَيِّرُهَا»، قيل له: «وَمَا الْمَثْنَاةُ؟» فقال: «مَا اسْتُكْتِبَ مِنْ كِتَابٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ»[٩٥]، وروي عن الضحاك بن مزاحم أنّه قال: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكْثُرُ فِيهِ الْأَحَادِيثُ، حَتَّى يَبْقَى الْمُصْحَفُ بِغُبَارِهِ لَا يُنْظَرُ فِيهِ»[٩٦]، وفي رواية أخرى، قال: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُعَلِّقُونَ الْمُصْحَفَ، حَتَّى يُعَشِّشَ فِيهِ الْعَنْكَبُوتُ، لَا يُنْتَفَعُ بِمَا فِيهِ، وَتَكُونُ أَعْمَالُ النَّاسِ بِالْأَحَادِيثِ»[٩٧]، وروي عن أبي خالد الأحمر أنّه قال: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تُعَطَّلُ فِيهِ الْمَصَاحِفُ، لَا يُقْرَأُ فِيهَا، يَطْلُبُونَ الْحَدِيثَ وَالرَّأْيَ»، ثمّ قال: «إِيَّاكُمْ وَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُصْفِقُ الْوَجْهَ، وَيُكْثِرُ الْكَلَامَ، وَيَشْغَلُ الْقَلْبَ»[٩٨]، وروي عن هارون بن معروف أنّه قال: «رَأَيْتُ فِيَ الْمَنَامِ أَنَّ مَنْ آثَرَ الْحَدِيثَ عَلَى الْقُرْآنِ عُذِّبَ، فَآثَرْتُ الْحَدِيثَ عَلَى الْقُرْآنِ، فَذَهَبَ بَصَرِي»[٩٩]، وروي عن عبد اللّه بن عون أنّه كان يقول: «إِنِّي أَرَى هَذِهِ الْكُتُبَ سَتُضِلُّ النَّاسَ»[١٠٠] يعني كتب الحديث، وروي عن شعبة بن الحجّاج وهو من كبار المحدّثين أنّه كان يقول لأصحاب الحديث: «اعْلَمُوا يَا قَوْمِ أَنَّكُمْ كُلَّمَا تَقَدَّمْتُمْ فِي الْحَدِيثِ تَأَخَّرْتُمْ مِنَ الْقُرْآنِ»، وربّما ضرب بيده رأسه وهو يقول بالفارسيّة: «خَاكْ بِسَرِ شُعْبَةَ»، يعني التراب على رأس شعبة[١٠١]، وروي عن محرز بن عون، قال: سألت فضيل بن عياض عن حديث، فقال لي: «وَأَنْتَ أَيْضًا مِنْهُمْ؟! عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ لَوْ بَلَغَنَا أَنَّ حَرْفًا مِنْ كَلَامِ رَبِّنَا نَزَلَ بِالْيَمَنِ لَذَهَبْنَا حَتَّى نَسْمَعَهُ، وَلَكِنْ وَجَدْتُمْ هَذَا الْأَمْرَ أَيْسَرَ عَلَيْكُمْ»[١٠٢]. هكذا كانت طريقة السلف الصالح، ولكنّ هؤلاء الذين جاؤوا من بعدهم قد قلبوها ظهرًا لبطن، ثمّ يحسبون أنّهم على آثارهم مهتدون! ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾[١٠٣]!
لقد تبيّن ممّا قدّمنا أنّ حديث عرض الأحاديث على كتاب اللّه صحيح متنًا وإسنادًا، ولذلك لا بدّ من العمل به، والحقّ أنّ الإعراض عنه من أهمّ أسباب الإنحراف في المسلمين؛ لأنّ كثيرًا من عقائدهم وأعمالهم الباطلة قد نشأت من أحاديث مكذوبة أو مغلوطة تخالف كتاب اللّه، وهم يحسبون أنّها صحيحة، ولو أنّهم عرضوها على كتاب اللّه لاستبان لهم كذبها أو غلطها، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾[١٠٤].