١ . أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّالَقَانِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ الْهَاشِمِيَّ الْخُرَاسَانِيَّ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾[١]، فَقَالَ: إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ خَلِيفَةٍ اللَّهُ جَاعِلُهُ، وَلَوْ خَلَتْ لَسَاخَتْ بِأَهْلِهَا، وَمَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ هَذَا الْخَلِيفَةَ فَقَدْ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَقُومَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ: لَا يَزَالُ اللَّهُ يَجْعَلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً مُنْذُ قَالَهُ، وَلَوْ قَالَ: «إِنِّي أَجْعَلُ» لَكَانَ مِنْهُ جَعْلٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ﴾، وَالْجَاعِلُ مَنْ يَسْتَمِرُّ مِنْهُ الْجَعْلُ، وَكُلُّ خَلِيفَةٍ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ مَهْدِيٌّ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا لِيَضَعَهُ حَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى مَهْدِيِّ زَمَانِهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا.
٢ . أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: سَأَلَ الْمَنْصُورَ رَجُلٌ وَأَنَا حَاضِرٌ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، فَقَالَ: لَا يَزَالُ اللَّهُ جَاعِلًا فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً مُنْذُ وَعَدَهُ، إِمَّا ظَاهِرًا مَشْهُورًا وَإِمَّا خَائِفًا مَغْمُورًا، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، قَالَ الرَّجُلُ: إِنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا فِي الْعِرَاقِ خَلِيفَةً وَلَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنَّهُ الْخَلِيفَةُ[٢]! قَالَ: كَذَبُوا أَعْدَاءُ اللَّهِ، مَا قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: «إِنَّكُمْ جَاعِلُونَ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»، وَلَكِنْ قَالَ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ﴾، فَلَوْ جَعَلُوا فِيهَا خَلِيفَةً دُونَ الْخَلِيفَةِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهَا لَكَانُوا بِذَلِكَ مُشْرِكِينَ، قَالَ الرَّجُلُ: وَمَنْ هَذَا الْخَلِيفَةُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهَا؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ وُلْدِ فَاطِمَةَ يُقَالُ لَهُ الْمَهْدِيُّ[٣].
٣ . أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُودَ الْفَيْضآبَادِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ يَقُولُ: ﴿سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا﴾[٤]، وَعَدَ أَنْ يَجْعَلَ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قُلْتُ: إِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ! قَالَ: إِنَّهُ فِيهَا وَإِنْ أَنْكَرَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي نُبِّئْتُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ[٥]، قُلْتُ: نَعَمْ، وَسَفَكُوا لَهُ الدِّمَاءَ، قَالَ: هُوَ خَلِيفَةُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَخَلِيفَةُ اللَّهِ هُوَ الْمَهْدِيُّ.
٤ . أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْجُوزَجَانِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ إِذْ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، قَالَ: لَا يَكُونُ مَنْ يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ خَلِيفَةً، وَلَكِنَّ الْخَلِيفَةَ مَنْ يَعْدِلُ، فَمَكَثَ هُنَيَّةً ثُمَّ قَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الْبَغْدَادِيَّ يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ.
٥ . أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهَرَوِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا أَرَادَ بِالْخَلِيفَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ يَجْعَلْ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِ، قَالَ: كَذَبُوا، فَمَنِ الْقَائِلُ لِدَاوُودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى﴾[٦]؟! قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: كَانَ ذَلِكَ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَلِيفَةً كَآدَمَ وَدَاوُودَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، قَالَ: كَذَبُوا، فَمَنِ الْقَائِلُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾[٧]؟! قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا أَرَادَ الَّذِينَ مَلَكُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَبَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي عَبَّاسٍ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، قَالَ: كَذَبُوا، فَهَلْ مَلَكَ مِنْهُمْ إِلَّا كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ؟! إِنَّ اللَّهَ وَعَدَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فَمَنْ أَشْرَكَ فِي إِيمَانِهِ أَوْ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ فَلَيْسَ مِمَّنِ اسْتَخْلَفَهُ اللَّهُ وَإِنْ مَلَكَ وَتَسَمَّى بِخَلِيفَةٍ! قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يَسْتَخْلِفُهُمْ بِتَغَلُّبٍ أَوِ اخْتِيَارٍ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، قَالَ: كَذَبُوا، بَلْ يَسْتَخْلِفُهُمْ ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أَمْثَالَ آدَمَ وَدَاوُودَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَمَا اسْتَخْلَفَهُمْ بِتَغَلُّبٍ وَلَا اخْتِيَارٍ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَلَكِنِ اسْتَخْلَفَهُمْ بِوَحْيٍ مِنْهُ، كَمَا أَوْحَى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾، ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾[٨]، فَأَخَذَنِي الْبُكَاءُ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟! قُلْتُ: عِلْمُكَ بِالْكِتَابِ وَجَهْلُهُمْ بِكَ! قَالَ: لَا يُبْكِيَنَّكَ ذَلِكَ، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ الْكِتَابَ لَأَعْلَمَهُ بِي، وَإِنْ كَانَ فِي مَغَارَةٍ!
٦ . أَخْبَرَنَا ذَاكِرُ بْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: سَمِعَ الْمَنْصُورُ قَارِئًا يَقْرَأُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى﴾، فَرَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ: اسْمَعُوا! اسْمَعُوا! إِنَّمَا خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى، فَلَا يَغُرَّنَّكُمُ الَّذِينَ يَتَكَلَّفُونَ الْخِلَافَةَ وَهُمْ ظَالِمُونَ! ثُمَّ هَمَسَ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا تَعْدِمُ خَلِيفَةً مِثْلَ دَاوُودَ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَاوُودَ!
٧ . أَخْبَرَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَبْدِ الْقَيُّومِ، قَالَ: قُلْتُ لِلْمَنْصُورِ: إِنَّ لِي جَارًا عَلَّامَةً قَدْ حَفِظَ أَلْفَ حَدِيثٍ بِإِسْنَادِهِ، وَلَا تَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا وَيُخْبِرُكَ بِهِ، وَيَعْلَمُ الْفِقْهَ وَاللُّغَةَ وَالتَّفْسِيرَ! فَقَالَ: أَيَعْلَمُ أَنَّ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً؟! قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّهُ مِنَ الْجَاهِلِينَ!
٨ . أَخْبَرَنَا هَاشِمُ بْنُ عُبَيْدٍ الْخُجَنْدِيُّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْمَنْصُورِ، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ: يَا هَاشِمُ! أَلَا تَرَى إِلَى هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبَيِّنِ الْخِلَافَةَ فِي الْقُرْآنِ؟! أَتَرَاهُمْ يَجْهَلُونَ أَمْ يَتَجَاهَلُونَ؟! قُلْتُ: لَا أَدْرِي جُعِلْتُ فِدَاكَ، لَعَلَّهُمْ يَجْهَلُونَ، قَالَ: وَيْلَهُمْ، كَيْفَ يَجْهَلُونَ؟! وَقَدْ يَقْرَؤُونَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، أَيُرِيدُونَ قَوْلًا أَبْيَنَ مِنْ هَذَا؟! أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ قَدْ أَخْلَفَ وَعْدَهُ فَلَمْ يَسْتَخْلِفْ فِيهِمْ كَمَا اسْتَخْلَفَ فِي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟! قُلْتُ: وَمَنِ اسْتَخْلَفَ فِي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ قَالَ: دَاوُودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَلَا يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي الْقُرْآنِ إِذْ يَقُولُ: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾؟! فَاسْتَخْلَفَهُ وَأَمْثَالَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّهُمْ أَضَلُّ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدِ اسْتَخْلَفَ فِيهِمْ كُلَّ مَنْ بَايَعُوهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِالْخِلَافَةِ! قَالَ: وَيْلَهُمْ، وَهَلْ بَايَعُوا بَعْدَ الْحَسَنِ[٩] إِلَّا كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ؟! إِنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَعِدَهُمْ خَيْرًا ثُمَّ يُعْطِيَهُمْ شَرًّا، بَلْ يُنْجِزُ وَعْدَهُ وَيَسْتَخْلِفُ فِي كُلِّ قَرْنٍ رَجُلًا مِثْلَ دَاوُودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ أَكْثَرُهُمْ إِيمَانًا وَعَمَلًا لِلصَّالِحَاتِ، فَهَلْ يَعْرِفُونَهُ لِيَخْتَارُوهُ؟! كَلَّا، بَلِ اللَّهُ يَعْرِفُهُ وَيَخْتَارُهُ، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾[١٠].
٩ . أَخْبَرَنَا وَلِيدُ بْنُ مَحْمُودٍ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: سَمِعَ الْمَنْصُورُ قَارِئًا يَقْرَأُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[١١]، فَقَالَ: يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ وَلَا يَتَدَبَّرُونَهُ، كَأَنَّهُمْ بَبَّغَاوَاتٌ نَاطِقَةٌ! أَنَّى لَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا الدِّينَ كُلَّهُ وَلَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ إِمَامٌ وَاحِدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُعَلِّمُهُمْ كُلَّهُ وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ؟! قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ يَكْفِيَانِهِمْ لِذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْإِمَامِ، قَالَ: وَيْلَهُمْ، أَلَيْسَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مُنْذُ أَرْبَعَةِ عَشَرَ قَرْنًا يَخُوضُونَ فِيهِمَا لَيْلًا وَنَهَارًا؟! فَمَا لَهُمْ لَا يُقِيمُونَ الدِّينَ كُلَّهُ وَهُمْ فِيهِ مُتَفَرِّقُونَ؟! فَهَلْ يَفْقِدُونَ إِلَّا إِمَامًا وَاحِدًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ كُلَّهُمَا وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ؟! وَيْلَهُمْ، كَيْفَ يَقُولُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ كَافِيَانِ لِإِقَامَةِ الدِّينِ؟! وَمَا الدِّينُ إِلَّا الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، وَكَيْفَ يَقُولُونَ أَنَّهُمَا كَافِيَانِ لِرَفْعِ الْخِلَافِ؟! وَمَا الْخِلَافُ إِلَّا فِيهِمَا! ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾[١٢]؟! ﴿بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ﴾[١٣]، وَمَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾[١٤]! كَلَّا، بَلْ لَا يَزَالُونَ يُضَيِّعُونَ الدِّينَ وَيَتَفَرَّقُونَ فِيهِ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُعَلِّمُهُمْ وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، كَمَا اجْتَمَعُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانَ فِيهِمْ.
١٠ . أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ حَبْلِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾[١٥]، فَقَالَ: مَا يَقُولُ هَؤُلَاءُ؟ قُلْتُ: يَقُولُونَ إِنَّهُ الْقُرْآنُ، فَقَالَ: الْقُرْآنُ كِتَابُ اللَّهِ، وَكَانَ حَبْلُهُ النَّبِيَّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَرَّقُوا مَا دَامَ النَّبِيُّ فِيهِمْ، فَلَمَّا مَاتَ تَفَرَّقُوا وَالْقُرْآنُ فِيهِمْ؟! فَكَانَ حَبْلُ اللَّهِ النَّبِيَّ مَا دَامَ فِيهِمْ، فَلَمَّا مَاتَ كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يُبَيِّنُ لَهُمْ سُنَّتَهُ كَامِلَةً، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ حَبْلَ اللَّهِ خَلِيفَتُهُ فِي الْأَرْضِ، فَإِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ لَنْ تَتَفَرَّقُوا، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا لَنْ تَجْتَمِعُوا! أَلَا وَاللَّهِ قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ بَيَانًا شَافِيًا، فَلَا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ!
١١ . أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَارِئِ الْقَنْدَهَارِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾[١٦]، فَقَالَ: الْحَبْلُ مِنَ اللَّهِ كِتَابُهُ وَالْحَبْلُ مِنَ النَّاسِ خَلِيفَتُهُ، قُلْتُ: أَمَّا كِتَابُهُ فَقَدْ عَرَفْتُهُ، وَلَكِنْ مَنْ خَلِيفَتُهُ؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ كِتَابَهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»[١٧]؟! قُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ لَقَوْلٌ قَوِيٌّ، وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينَ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا! قَالَ: أَفَتَعْبُدُ الْمُفَسِّرِينَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِلَيْهِمْ تُحْشَرُ فَيُعَذِّبُونَكَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَيُغْنُونَ عَنْكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَقُلْ بِالْحَقِّ وَدَعْ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ!
١٢ . أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهَرَوِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾[١٨]، فَقَالَ: مَا أَبْيَنَ ذَلِكَ! لَا يَخْلُو قَوْمٌ مِمَّنْ يَهْدِيهِمْ بِأَمْرِ اللَّهِ، قُلْتُ: وَمَا الْقَوْمُ؟ قَالَ: الْقَرْنُ -يَعْنِي أَهْلَ زَمَانٍ وَاحِدٍ.
١٣ . أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾[١٩]، فَقَالَ: هُمْ أَئِمَّةُ الْهُدَى وَالْعَدْلِ، ثُمَّ قَالَ: لَا يَزَالُ فِي الْخَلْقِ رَجُلٌ يَهْدِي بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُ، إِنْ يُطِيعُوهُ يُفْلِحُوا، وَإِنْ يَعْصُوهُ يَهْلِكُوا! وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَبَيِّنٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ!
١٤ . أَخْبَرَنَا جُبَيْرُ بْنُ عَطَاءٍ الْخُجَنْدِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾[٢٠]، فَقَالَ: إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ صَادِقٍ مَفْرُوضٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا مَعَهُ، لَا يَتَقَدَّمُوا عَلَيْهِ وَلَا يَتَأَخَّرُوا، فَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ مَعَ صَادِقِ زَمَانِهِ فَقَدْ مَاتَ عَاصِيًا لِرَبِّهِ، وَهَذَا مَقْصُودُ أُولِي الْأَلْبَابِ إِذْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾[٢١]!
١٥ . أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الدَّامْغَانِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ أُولِي الْأَلْبَابِ: ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾، فَقَالَ: إِنَّ الزَّمَانَ لَا يَخْلُو مِنْ إِمَامِ بِرٍّ مَنْ تُوُفِّيَ مَعَهُ فَقَدْ أَفْلَحَ، فَلَازِمُوا إِمَامَ الْبِرِّ فِي زَمَانِكُمْ تُفْلِحُوا! قُلْتُ: وَمَنْ إِمَامُ الْبِرِّ فِي زَمَانِنَا؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ الْمَهْدِيُّ، قُلْتُ: كَيْفَ نُلَازِمُهُ وَلَا نَعْرِفُهُ؟! قَالَ: إِذَا أَحَسَّ مِنْكُمُ الْمُلَازَمَةَ عَرَّفَكُمْ نَفْسَهُ، كَمَا غَابَ عَنْكُمْ إِذْ أَحَسَّ مِنْكُمُ الْمُفَارَقَةَ!
١٦ . أَخْبَرَنَا عَبْدُ الشَّكُورِ بْنُ زُلْمَيَ الْوَرْدَكِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾[٢٢]، فَقَالَ: فَاسْأَلْ خَبِيرًا بِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ فِي النَّاسِ رَجُلًا خَبِيرًا بِاللَّهِ كُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ لِيُخْبِرَهُمْ عَنِ اللَّهِ، فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَعْرِفِ الرَّجُلَ فَقَدْ مَاتَ فِي جَهْلٍ وَضَلَالٍ، قُلْتُ: أَنَّى لَهُمْ أَنْ يَعْرِفُوهُ؟! قَالَ: لَوْ تَمَسَّكُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَمَنْ عَرَفُوهُ مِنْ خُلَفَائِهِ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ، لَكِنَّهُمْ أَعْرَضُوا، فَـ﴿طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۖ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[٢٣].
١٧ . أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ السَّمَرْقَنْدِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ يَقُولُ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ شَيْئًا لَا يَسَعُ النَّاسَ الْقِيَامُ بِهِ، وَقَدْ أَنْزَلَ فِيهِ: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[٢٤]، فَلَا يَخْلُو زَمَانٌ مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الذِّكْرِ يَسْأَلُهُ النَّاسُ عَمَّا لَا يَعْلَمُونَ فَيُجِيبُهُمْ بِالصَّوَابِ، وَلَئِنْ قُلْتَ لِهَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ: اعْرِفُوا هَذَا الرَّجُلَ وَاسْأَلُوهُ لَيَقُولُنَّ: «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْتَدِعُونَ»! قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ كُلَّهُمْ أَهْلُ الذِّكْرِ، فَقَالَ: أَكُلُّهُمْ يُصِيبُونَ فِي الْجَوَابِ إِذَا سُئِلُوا؟! قُلْتُ: لَا، قَالَ: لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِسُؤَالِ قَوْمٍ قَدْ لَا يُصِيبُونَ فِي الْجَوَابِ!
١٨ . أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّبْزَوَارِيُّ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ[٢٥] فِي مَسْجِدٍ وَكَانَ مَعَنَا رِجَالٌ مِنَ السَّلَفِيَّةِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْدَثَ لَكُمْ ذِكْرًا فَاتَّبِعُوهُ، وَلَا تَتَّبِعُوا السَّلَفَ، فَإِنَّ السَّلَفَ لَمْ يَتَّبِعُوا السَّلَفَ، وَلَكِنِ اتَّبَعُوا ذِكْرَهُمْ، وَإِنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى سَلَفٍ وَلَمْ يَتَّبِعْ مَا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ مِنْ ذِكْرٍ فَقَدْ قَطَعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، ﴿أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾[٢٦]! قَالَ رَجُلٌ مِنَ السَّلَفِيَّةِ: أَلَيْسَ كُلُّ مُحْدَثٍ بِدْعَةً؟! فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ وَقَالَ: الْبِدْعَةُ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ فِي الدِّينِ، وَالذِّكْرُ مَا أَحْدَثَ اللَّهُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾[٢٧]، قَالَ الرَّجُلُ: وَمَا ذِكْرٌ مُحْدَثٌ؟! قَالَ: إِمَامٌ يُحْدِثُهُ اللَّهُ فِي كُلِّ قَرْنٍ يَهْدِي بِأَمْرِهِ، لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيُحِقَّ الْقَوْلَ عَلَى الْكَافِرِينَ، قَالَ الرَّجُلُ: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، إِنْ هَذَا إِلَّا بِدْعَةٌ! قَالَ: وَيْحَكَ، أَتَأْبَى إِلَّا أَنْ تُضَاهِئَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا؟! قَالُوا: ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾[٢٨]! وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ مُسْلِمًا يَقُولُ بِهَذَا حَتَّى سَمِعْتُكُمْ تَقُولُونَ بِهِ يَا مَعْشَرَ السَّلَفِيَّةِ!
١٩ . أَخْبَرَنَا ذَاكِرُ بْنُ مَعْرُوفٍ وَعَلِيُّ بْنُ دَاوُودَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ وَغَيْرُهُمْ، قَالُوا: كُنَّا جَمَاعَةً عِنْدَ الْمَنْصُورِ وَهُوَ يَنْكُتُ الْأَرْضَ وَيَقُولُ بِهَمْسٍ: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ! مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ! مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ! ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْنَا وَقَالَ: اكْتُبُوا! فَأَخَذْنَا نَكْتُبُ، فَقَالَ: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا: «مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ خَلِيفَةٍ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ»، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ جَعَلَ فِي الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِهَا، وَمَا كَانَ لِيُبَدِّلَ سُنَّتَهُ إِلَّا إِذَا أَخْبَرَ عَنْ تَبْدِيلٍ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ خَتْمِ النُّبُوَّةِ، وَلَمْ يُخْبِرْ عَنْ خَتْمِ الْخِلَافَةِ، بَلْ قَالَ فِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ: ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، فَقَدْ بَقِيَتْ سُنَّتُهُ فِي اسْتِخْلَافِ رِجَالٍ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ثَابِتَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا ذَكَّرْتُ بِهَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَسُوهَا يُطَالِبُونَنِي بِالْبَيِّنَةِ، وَمَا الْبَيِّنَةُ إِلَّا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ تَبْدِيلَ سُنَّةٍ يُقِرُّونَ بِثُبُوتِهَا فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَأَنَا أُنْكِرُهُ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَلَيْسَتْ عَلَى الْمُنْكِرِ! ثُمَّ إِنِّي قَدْ جِئْتُهُمْ بِبَيِّنَةٍ، وَهِيَ مَا أَتْلُو عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ، فَيُحَاجُّونَنِي بِفِعْلِ آبَائِهِمْ! يَقُولُونَ: «أَنْتَ أَفْقَهُ أَمِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ؟!»، وَهُمْ يَرْوُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ وَلَا فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ»[٢٩]، وَيَقُولُونَ: «هَذِهِ بِدْعَةٌ»، وَمَا الْبِدْعَةُ إِلَّا مَا أَحْدَثَ آبَاؤُهُمْ فِي السَّقِيفَةِ[٣٠]، إِذْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ كَمَا نَسَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ[٣١]، فَقَالُوا: «مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ»[٣٢]، ثُمَّ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ، فَقَالَ عُمَرُ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ: «كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً[٣٣] وَقَى اللَّهُ شَرَّهَا، فَمَنْ عَادَ إِلَى مِثْلِهَا فَلَا بَيْعَةَ لَهُ»[٣٤]، فَعَادَ إِلَى مِثْلِهَا كُلُّ عَائِدٍ فَبَايَعُوهُ وَقَالُوا: «هَكَذَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ»! فَاتَّبَعُوا عُمَرَ فِيمَا أَخْطَأَ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ فِيمَا أَصَابَ! فَإِذَا ذَكَّرْتُهُمْ بِهَذَا لِيَتُوبُوا وَيُصْلِحُوا تَأْخُذُهُمُ الْحَمِيَّةُ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ، يَقُولُونَ: «يَا وَيْلَتَى! أَتُخَطِّئُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ؟!» وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا نَبِيَّيْنِ مِنْ بَعْدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا كَانَا رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ أَصَابَا فِي شَيْءٍ وَأَخْطَئَا فِي شَيْءٍ، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَتَّبِعَهُمَا فِيمَا أَخْطَئَا فِيهِ، وَقَدْ خَالَفَهُمَا الصَّحَابَةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ، وَأَفْتَى الْفُقَهَاءُ بِخِلَافِ مَا أَفْتَيَا بِهِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، فَلَمْ يُنْكِرْ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَقُولُوا: «يَا وَيْلَتَى! خَطَّؤُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ»! حَتَّى إِذَا جَمَعْتُ لَهُمْ مَا فَرَّقُوهَا عَلَيْهِمْ وَجِئْتُهُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً كَبُرَتْ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: «هَذَا دِينٌ جَدِيدٌ»! وَمَا هُوَ بِدِينٍ جَدِيدٍ، بَلْ هُوَ الدِّينُ الْأَوَّلُ، إِلَّا أَنْ يُرِيدُوا بِالْجَدِيدِ مَا يَرْوُونَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ فِيهِمْ رِجَالًا يُجَدِّدُونَ لَهُمْ دِينَهُمْ[٣٥]، فَقَدْ جَدَّدْتُ لَهُمْ دِينَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا انْدَرَسَ، وَلَا أَمْلِكُ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَمَا أَنَا عَلَيْهِمْ بِحَفِيظٍ!
٢٠ . أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْجُوزَجَانِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ يَقُولُ: إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ رَجُلٍ عَادِلٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا، وَهَذَا عَهْدٌ عَهِدَهُ اللَّهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذِ ابْتَلَاهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[٣٦]، فَمَاذَا يُنْكِرُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ الضُّلَّالُ الْمَفْتُونُونَ؟! أَيُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ضَلُّوا؟! ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ﴾[٣٧]، وَهُمْ يَرْوُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: «لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ»[٣٨]! فَمَاذَا يُنْكِرُونَ بَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ وَقَوْلِ رَسُولِهِ؟! أَيُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ قَدْ أَخْطَؤُوا؟! وَقَدْ أَخْطَأَ أَكْثَرُهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، إِذْ يُصْعِدُونَ وَلَا يَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ فَأَثَابَهُمْ غَمًّا بِغَمٍّ[٣٩] وَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾[٤٠]، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ، إِذْ أَعْجَبَتْهُمْ كَثْرَتُهُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ[٤١]، وَهُمْ يَرْوُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي فَيُنَحَّوْنَ عَنِ الْحَوْضِ فَلَأَقُولَنَّ: يَا رَبِّ، أَصْحَابِي، فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَى»[٤٢]، فَمَاذَا يُنْكِرُونَ بَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ وَقَوْلِ رَسُولِهِ؟! أَمِ اتَّخَذُوا الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَمَا اتَّخَذَ الْيَهُودُ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ[٤٣]؟! ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا ۖ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[٤٤]!
٢١ . أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَتْلَانِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا ۚ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾[٤٥]، فَقَالَ: شَهَادَةُ اللَّهِ كِتَابُهُ، وَإِنَّ بَيْنَ الرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ شَهِيدَيْنِ: كِتَابَ اللَّهِ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ، وَهُوَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِيهِمْ بَعْدَ الرَّسُولِ، وَلَا تَعْدِمُهُمَا أُمَّتُهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، قُلْتُ: جَعَلَنِيَ اللَّهُ فِدَاكَ، فَقَدْ أَظْهَرْتَ لِي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا يُخْفُونَهُ! قَالَ: لَا يُخْفُونَهُ، وَلَكِنْ لَا يَتَدَبَّرُونَهُ، أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[٤٦]! فَأَخَذَنِي الْبُكَاءُ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟! قُلْتُ: آسَفُ عَلَى النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَكَ، وَإِنَّهُ الْحِكْمَةُ وَفَصْلُ الْخِطَابِ، وَلَوْ سَمِعُوهُ لَاهْتَدَوْا، فَقَالَ: لَا تَأْسَفْ عَلَيْهِمْ، ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾[٤٧]!
٢٢ . أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْقَاسِمِ وَوَلِيدُ بْنُ مَحْمُودٍ وَصَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُمْ، قَالُوا: كُنَّا جَمَاعَةً عِنْدَ الْمَنْصُورِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا وَقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ شَهِيدَيْنِ: كِتَابَ اللَّهِ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ، وَلَا يَكْفِيهِمْ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَهَذَا قَوْلُ اللَّهِ: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَيَّنْتُ؟! فَدَاخَلَنَا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ لَمَّا قَالَ هَذَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا وَقَالَ: إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ، لِيَكُونَا شَهِيدَيْنِ بَيْنَ الرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ رَجُلٌ مِنْ عِتْرَةِ الرَّسُولِ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهَذَا قَوْلُهُ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ نَظْرَةً أُخْرَى فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ وَفَّيْتُ؟! فَأَخَذْنَا نَرْتَعِدُ مِنْ هَيْبَتِهِ لَمَّا قَالَ هَذَا كَأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا!
٢٣ . أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّالَقَانِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾[٤٨]، فَقَالَ: مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَيَخْلُفُهُ فِي كُلِّ قَرْنٍ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهِ، وَيَتْلُوهُ يَخْلُفُهُ، أَلَا تَرَى قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾[٤٩] أَيْ جَاءَ بَعْدَهَا؟! فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْيُؤْمِنْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلْيَتَّبِعْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَلْيَكُنْ مَعَ الشَّاهِدِ مِنْ أَهْلِهِ، كَمَا قَالَ الْحَوَارِيُّونَ: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾[٥٠]!
٢٤ . أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَخْتِيَارَ السَّمَرْقَنْدِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾[٥١]، فَقَالَ: إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ رَجُلٍ يَتَّبِعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
٢٥ . أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشِّيرَازِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[٥٢]، فَقَالَ: لَا يَزَالُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا رَجُلٌ طَاعَتُهُ مُفْتَرَضَةٌ عَلَيْهِمْ كَطَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ، مَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَالرَّسُولَ، وَمَنْ عَصَاهُ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَالرَّسُولَ، وَهُوَ مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ وَالرَّسُولُ، وَلَيْسَ مَنْ وَلَّاهُ النَّاسُ بِأَهْوَائِهِمْ، قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، قَالَ: صَدَقُوا! قُلْتُ: كَيْفَ صَدَقُوا وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ؟! قَالَ: كُلُّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَهُمْ دُونَ الَّذِي وَلَّاهُ اللَّهُ وَالرَّسُولُ فَلَيْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ هُوَ مِنَ الْفَاسِقِينَ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْفَاسِقِينَ! ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا ۚ لَا يَسْتَوُونَ﴾[٥٣]! ثُمَّ قَالَ: أَزِيدُكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّمَا أُولُوا الْأَمْرِ مَالِكُوهُ، وَهُمُ الَّذِينَ وَلَّاهُمُ اللَّهُ وَالرَّسُولُ، وَأَمَّا مَنْ يَقُومُ بِهِ مِنْ دُونِهِمْ فَهُوَ غَاصِبُهُ، وَلَيْسَ الْغَاصِبُ مِنَ الْمَالِكِينَ، ﴿لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾[٥٤]! قُلْتُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ زَوَّدْتَنِي بِحِكْمَتَيْنِ بَالِغَتَيْنِ لَمْ أَسْمَعْ بِهِمَا قَطُّ أَبَدًا! قَالَ: ﴿ذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ﴾[٥٥]! ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ بَعْدَ شُهُورٍ، فَقُلْتُ: إِنِّي حَدَّثْتُ بِحِكْمَتَيْكَ رَجُلًا فِي إِيرَانَ، فَقَالَ: لَعَنَهُ اللَّهُ! مَا أَعْلَمَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ! قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَلَمْ تَعْلَمْ أَنِّي عِنْدَ أَهْلِ إِيرَانَ كَمَا كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ؟! خَدَعَهُمْ بَنُو أُمَيَّةَ بِالْبُهْتَانِ حَتَّى لَعَنُوهُ بِغَيْرِ ذَنْبٍ نَحْوَ سِتِّينَ سَنَةً!
٢٦ . أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهَرَوِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾[٥٦]، فَقَالَ: كِفْلَانِ مِنْ رَحْمَتِهِ هُمَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَالنُّورُ إِمَامٌ يُبَيِّنُهُمَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ إِمَامًا يُبَيِّنُهُمَا لَكُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.
٢٧ . أَخْبَرَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَبْدِ الْقَيُّومِ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[٥٧]، فَقَالَ: هَادِيهَا، وَنُورُ اللَّهِ هُدَاهُ، وَهُوَ ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾[٥٨]، وَهِيَ بُيُوتُ الْأَنْبِيَاءِ، ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾[٥٩]، وَهُمْ أَهْلُ بُيُوتِ الْأَنْبِيَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ أَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ؟ فَهُمْ أَهْلُهَا، وَلَا يَخْرُجُ هُدَى اللَّهِ مِنْ بُيُوتِ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَابْتَغُوهُ عِنْدَ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ، وَلَا تَبْتَغُوهُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَتَضِلُّوا.
شرح القول:
هذه الحكم البالغة والنكت الشافية كرامات قوليّة لهذا العبد الصالح، وقد يعلم أهل التتبّع والإطّلاع أنّها كنوز لا يوجد لها نظير في أقوال العلماء والحكماء، ولا يمكن مقارنتها إلا بأقوال النبيّين والصدّيقين الذين اجتباهم اللّه وهداهم وأيّدهم بروح منه وعلّمهم من لدنه علمًا. فإن كنت من المتوسّمين، فستبيّن ما فيها من الآيات؛ فقد قال اللّه: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾[٦٠]، وإن كنت من الذين طبع اللّه على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فستولّي مستكبرًا كأن لم تسمعها، كأنّ في أذنيك وقرًا، ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾[٦١].
فإن كنت من الطائفة الأولى فقم بنشر هذه الأنوار المضيئة وإبلاغها الغافلين من أهلك وأصدقائك وسائر الناس، شكرًا للّه على ما هداك، ولعلّهم يتذكّرون؛ فإنّ ذلك حقّ واجب عليك، وإن كنت من الطائفة الأخرى فاصنع ما شئت، فـ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[٦٢]، و﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾[٦٣].
لمزيد المعرفة عن هذا، راجع: دروس السيّد العلامة المنصور الهاشمي الخراساني حفظه اللّه تعالى، دروس في أنّ الأرض لا تخلو من رجل عالم بالدّين كلّه، جعله اللّه فيها خليفة وإمامًا وهاديًا بأمره.