هل يعتقد المنصور أنّ المهديّ موجود وحيّ الآن؟ إذا كان الأمر كذلك فما دليله على هذا الإعتقاد؟
يعتقد المنصور الهاشمي الخراساني اعتقادًا جازمًا بأنّ المهديّ موجود وحيّ في الوقت الحاضر، وممّا يدلّ على ذلك ما أخبرنا به بعض أصحابه، قال:
«دَخَلْتُ عَلَى الْمَنْصُورِ الْهَاشِمِيِّ الْخُرَاسَانِيِّ وَهُوَ فِي مَسْجِدٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمُ الْمَهْدِيَّ وَلِيًّا، فَاتَّخِذُوهُ وَلِيًّا، وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ! فَقَامَ رَجُلٌ أَحْوَلُ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ فَقَالَ: وَهَلْ خَلَقَ اللَّهُ الْمَهْدِيَّ؟! قَالَ: نَعَمْ، وَإِنَّهُ لَيَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ! قَالَ الرَّجُلُ: وَهَلْ رَأَيْتَهُ أَنْتَ بِعَيْنَيْكَ؟! فَسَكَتَ الْمَنْصُورُ وَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى سَأَلَهُ الرَّجُلُ ثَلَاثًا، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَدْعُوَكُمْ إِلَى مَنْ لَمْ أَرَهُ! قَالَ الرَّجُلُ: فَلِمَ لَا يَخْرُجُ إِلَيْنَا لِنَتَّبِعَهُ؟! قَالَ: يَخَافُ! قَالَ الرَّجُلُ: مِمَّ؟! قَالَ: مِنَ الْقَتْلِ -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ»[١].
هذا صريح في أنّه على بيّنة من وجود المهديّ في الوقت الحاضر، وإن كان غائبًا عن النّاس أي غير معروف لهم بسبب الخوف منهم على نفسه، وهذا أمر ممكن عقلًا وشرعًا، بل قريب جدًّا بالنظر إلى ظهور العلامات الواردة في الأحاديث المتواترة لوقت خروجه من غلبة الظلم والجور على الدّنيا وكثرة البلايا وغير ذلك، فلا داعي لتكذيبه، ومن يكذّبه فإنّما يكذّبه بغير علم، بالإضافة إلى أنّه كقانط من رحمة اللّه، ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾[٢]، ومن الواضح أنّه ليس للجاهل حجّة على العالم، والمنصور عالم بوجود المهديّ، ولم يكتف بالإخبار عن رؤيته، وإن كان ثقة في ذلك لعدالته وجلالته، بل قد أقام على وجوده حجّة من العقل والشرع. أمّا حجّته من العقل فهي ضرورة وجود خليفة للّه تعالى في الأرض لتعليم الإسلام كلّه وإقامته بشكل خالص وكامل، بالنظر إلى أنّ هذا التعليم والإقامة ضروريّان وليسا ممكنين إلا إذا كان هناك خليفة للّه في الأرض؛ كما قال في كتاب «العودة إلى الإسلام»:
«قد يُتوهّم أنّ العمل بكلّ الإسلام غير ممكن، ولذلك لا يوجد خيار سوى العمل ببعضه، وإذا كان العمل ببعضه غير مجزٍ ينعدم الخيار، وذلك غير ممكن، لكن من الواضح أنّ هذا وهم لا أساس له؛ لأنّه من المسلّم به أنّ اللّه، بمقتضى حكمته ورحمته، لم يجعل في الإسلام شيئًا لا يمكن العمل به، بل كان جعل كلّ شيء في الإسلام لأجل العمل به، ومن الواضح أنّ جعل شيء في الإسلام لا يمكن العمل به عبث، والعبث لا يصدر من اللّه. بالإضافة إلى ذلك، لا شكّ أنّ اللّه قد أمر بكلّ الإسلام، لا بجزء منه فقطّ، ومن الواضح أنّ أمره بالمحال محال؛ لأنّه يناقض حكمته... الوجه الوحيد الذي يمكن ذكره لاستحالة العمل بكلّ الإسلام، هو استحالة العلم بكلّه؛ بالنّظر إلى أنّ العلم بكلّ الإسلام ضروريّ للعمل بكلّه، في حين أنّه ممكن فقطّ لمن شرعه، ولذا فإنّ علم المسلمين بكلّه وتبعًا لذلك عملهم بكلّه غير ممكن. لكنّ الحقّ أنّ هذا الوجه أيضًا مرفوض؛ لأنّه من المسلّم به أنّ اللّه قد أوجب على المسلمين العمل بكلّ الإسلام، وعلى هذا فيلزم من توقّف ذلك على العلم بكلّ الإسلام ضرورة تعليم كلّ الإسلام من قبل اللّه، لا رفع وجوب العمل بكلّ الإسلام؛ بمعنى أنّه نظرًا لضرورة العمل بكلّ الإسلام وتوقّف ذلك على العلم بكلّه وانفراد اللّه بهذا العلم ذاتيًّا، لا بدّ أن يجعل اللّه هذا العلم ممكنًا للمسلمين بطريقة ما، لكي لا تكون لهم حجّة عليه في تركهم العمل بكلّ الإسلام وتبعًا لذلك وقوعهم في الشقاء والمشاكل. من الواضح أنّ هذا التعليم أمر حتميّ لا مردّ له، وهو ممكن بطريقتين: إمّا أن يعلّم اللّه الإسلام كلّه لجميع المسلمين بشكل مباشر، أو يختار لذلك بعضهم ليتلقّى الآخرون العلم بكلّ الإسلام منهم بشكل غير مباشر، ولكن بما أنّه من المسلّم به أنّ اللّه لم يعلّم الإسلام كلّه لجميع المسلمين بشكل مباشر، يتبيّن أنّه قد علّمه لبعضهم، وبالتّالي يجب على الآخرين معرفتهم والتعلّم منهم، وبما أنّ العلم بكلّ الإسلام عند اللّه وحده، فهم لا محالة إمّا أنبياء تلقّوا العلم بكلّ الإسلام من اللّه مباشرة، أو مرتبطون بالأنبياء تلقّوا العلم بكلّ الإسلام من اللّه بواسطة الأنبياء؛ كما أنّهم باعتبار نيابتهم عن اللّه في تعليم الإسلام كلّه، يُعتبرون خلفاء اللّه بين المسلمين. من هنا يعلم أنّ اللّه قد جعل في الأرض خليفة»[٣].
أمّا حجّته من الشرع فهي قول اللّه تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾[٤]؛ لأنّه من وعده الذي لا يمكن إخلافه، ومن سنّته التي لا يمكن تبديلها؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
«سَأَلْتُ الْمَنْصُورَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، فَقَالَ: إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ خَلِيفَةٍ اللَّهُ جَاعِلُهُ، وَلَوْ خَلَتْ لَسَاخَتْ بِأَهْلِهَا، وَمَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ هَذَا الْخَلِيفَةَ فَقَدْ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَقُومَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ: لَا يَزَالُ اللَّهُ يَجْعَلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً مُنْذُ قَالَهُ، وَلَوْ قَالَ: <إِنِّي أَجْعَلُ> لَكَانَ مِنْهُ جَعْلٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ﴾، وَالْجَاعِلُ مَنْ يَسْتَمِرُّ مِنْهُ الْجَعْلُ، وَكُلُّ خَلِيفَةٍ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ مَهْدِيٌّ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا لِيَضَعَهُ حَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى مَهْدِيِّ زَمَانِهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا»[٥].
هذا يعني أنّ الأرض لا تخلو أبدًا من خليفة جعله اللّه تعالى فيها، ومن المعلوم أنّ الخليفة الوحيد للّه تعالى في آخر الزمان هو المهديّ؛ لأنّه لم يرد عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم خبر ثابت في خلافة غيره للّه تعالى في آخر الزمان، وبالتالي لا يمكن اليقين بخلافة أحد غيره بعد السلف الصالح، في حين أنّه لا شيء سوى اليقين يعتبر كافيًا في الإسلام، وهذا يعني أنّه لا يمكن خلافة أحد غير المهديّ في الوقت الحاضر؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
«سَأَلَ الْمَنْصُورَ رَجُلٌ وَأَنَا حَاضِرٌ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، فَقَالَ: لَا يَزَالُ اللَّهُ جَاعِلًا فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً مُنْذُ وَعَدَهُ، إِمَّا ظَاهِرًا مَشْهُورًا وَإِمَّا خَائِفًا مَغْمُورًا، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ! قَالَ الرَّجُلُ: إِنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا فِي الْعِرَاقِ خَلِيفَةً وَلَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنَّهُ الْخَلِيفَةُ! قَالَ: كَذَبُوا أَعْدَاءُ اللَّهِ، مَا قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: <إِنَّكُمْ جَاعِلُونَ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً> وَلَكِنْ قَالَ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ﴾، فَلَوْ جَعَلُوا فِيهَا خَلِيفَةً دُونَ الْخَلِيفَةِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهَا لَكَانُوا بِذَلِكَ مُشْرِكِينَ! قَالَ الرَّجُلُ: وَمَنْ هَذَا الْخَلِيفَةُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهَا؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ وُلْدِ فَاطِمَةَ يُقَالُ لَهُ الْمَهْدِيُّ»[٦].
بناءً على هذا، يمكن الإعتقاد بوجود المهديّ وحياته في الوقت الحاضر، وهذا الإعتقاد لا يعتبر مخالفًا للإسلام أو مخالفًا للعقل، وإن كان مستلزمًا للإعتقاد بطول عمره؛ لأنّ طول العمر ليس أمرًا مستحيلًا عقلًا أو شرعًا، بل ليس أمرًا غريبًا بالنسبة لخلفاء اللّه تعالى في الأرض بعد قول اللّه تعالى في نوح عليه السلام: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾[٧] ومن المعلوم ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[٨]، وقد وافق المنصور على قوله هذا جماعة، منهم محمّد بن طلحة الشافعي (ت٦٥٢هـ) في مطالب السؤول[٩]، وسبط بن الجوزي الحنبلي (ت٦٥٤هـ) في تذكرة الخواص[١٠]، ومحمّد بن يوسف الشافعي (ت٦٥٨هـ) في البيان[١١]، وابن صبّاغ المالكي (ت٨٥٥هـ) في الفصول المهمّة[١٢]، وعبد الوهاب الشعراني (ت٩٧٣هـ) في اليواقيت والجواهر[١٣]، والشبراوي الشافعي (ت١١٧١هـ) في الإتحاف[١٤]، والقندوزي الحنفيّ (ت١٢٩٤هـ) في ينابيع المودّة[١٥]، والشبلنجي الشافعي (ت١٣٠٨هـ) في نور الأبصار[١٦]، وقال ابن عربيّ (ت٦٣٨هـ) في الفتوحات المكّيّة بعد ذكر المهديّ: «قد جاءكم زمانه وأظلّكم أوانه، وظهر في القرن الرابع اللّاحق بالقرون الثلاثة الماضية، قرن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وهو قرن الصّحابة، ثمّ الذي يليه، ثمّ الذي يلي الثاني»[١٧]، وقال: «وهو في زماننا اليوم موجود، عرفت به سنة خمس وتسعين وخمسمائة، ورأيت العلامة التي له قد أخفاها الحقّ فيه عن عيون عباده، وكشفها لي بمدينة فاس حتّى رأيت خاتم الولاية منه، وهو خاتم النبوّة المطلقة، لا يعلمها كثير من الناس، وقد ابتلاه اللّه بأهل الإنكار عليه فيما يتحقّق به من الحقّ في سرّه من العلم به»[١٨]، وهذا كقول المنصور بأنّ المهديّ موجود وقد رءاه.
مع ذلك، يجب الإنتباه إلى أنّ المنصور لم يؤسّس دعوته إلى التمهيد لظهور المهديّ على الإعتقاد بوجوده وحياته في الوقت الحاضر، بل صرّح في كتابه بأنّ التمهيد لظهوره، حتّى مع عدم وجوده وحياته في الوقت الحاضر، أمر ضروريّ؛ بالنظر إلى أنّ في هذه الحالة، سيكون وجوده وحياته منوطًا بقابليّة الناس بمعنى استعدادهم، وإن كان منوطًا بفاعليّة اللّه تعالى بمعنى خلقه، وسوف يخلقه اللّه تعالى في وقت يتمكّن فيه من الظهور لهم. لذلك، إذا لم يكن هو موجودًا وحيًّا في الوقت الحاضر، فمن الضروريّ التمهيد لوجوده وحياته، مثل التمهيد لظهوره، وهذا يرجع إلى قول اللّه تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[١٩].
الحاصل أنّه سواء كان المهديّ موجودًا وحيًّا في الوقت الحاضر أو لم يكن، فمن الواجب على جميع المسلمين التمهيد لظهوره، والمراد بذلك اتّخاذ الترتيبات اللازمة لتأمين سلامته وتحقيق حكومته، كما بيّن المنصور تفاصيلها في كتابه القيّم «العودة إلى الإسلام»[٢٠].