ما حكم صيام شهر رمضان بالنسبة للحامل؟
الظاهر عدم خلاف بين المسلمين في أنّ الحامل إذا خافت على حملها ضررًا لم يكن عليها صيام شهر رمضان، وإنّما اختلفوا فيما يجب عليها إذا ذهب عنها الخوف، ولهم في ذلك ثلاثة أقوال:
الأوّل أنّ عليها القضاء والكفّارة، وهي طعام مسكين لكلّ يوم، وبه قال الشافعيّ، وأحمد بن حنبل، ونسبه الشيبانيّ إلى «أهل المدينة»[١]، وهو رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام، ووجه ذلك عندهم أنّ الحامل غير مريضة؛ لأنّ المريض يخاف على نفسه، وهي لا تخاف على نفسها، ولكن تخاف على حملها، وحملها غيرها، وإنّما رخّص اللّه في الإفطار للمريض، ولذلك يجب عليها القضاء والكفّارة، كما هو القاعدة في كلّ من أفطر يومًا من شهر رمضان بغير عذر، ولكنّ الحقّ أنّ الحامل مريضة؛ لأنّ حملها بضعة منها حتّى تضعه، فإذا خافت عليه فقد خافت على نفسها في الحقيقة، ولو لا أنّها مريضة لما جاز لها الإفطار في كتاب اللّه؛ لأنّ المعذور فيه المريض فقطّ، ومن الواضح أنّ الكفّارة تجب على من أفطر بغير عذر، والحامل إذا خافت على حملها فهي معذورة، فلا وجه لإيجاب الكفّارة عليها أصلًا.
الثاني أنّ عليها القضاء ولا إطعام عليها، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، وكثير من الفقهاء، وهو رواية عليّ بن مهزيار عن عليّ بن محمّد، ووجه ذلك عندهم أنّ الحامل إذا خافت على حملها فهي مريضة، والمريضة عليها القضاء فقطّ، لقول اللّه تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾[٢]، وهذا قول وجيه إذا سلّمنا بأنّ المريض لا بدّ له من القضاء، والحقّ أنّه مخيّر بين القضاء والإطعام، لقول اللّه تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾[٣]؛ كما أخبرنا بعض أصحابنا، قال:
قُلْتُ لِلْمَنْصُورِ: مَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ۚ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[٤]؟ قَالَ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَصُومُوا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ، وَهِيَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَ أَنْ يَصُومُوا عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ إِذَا أَرَادُوا أَنْ لَا يَصُومُوهَا فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ، فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَفْدُوا، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
الثالث أنّ عليها الإطعام ولا قضاء عليها، وبه قال سعيد بن جبير، والقاسم بن محمّد، وقتادة، وإسحاق بن راهويه، وهو مرويّ عن ابن عمر، وابن عبّاس، ولا نعرف له وجهًا غير ما ذهب إليه المنصور حفظه اللّه تعالى، وهو أنّ المريض إذا أفطر يومًا من شهر رمضان فله أن يطعم مسكينًا، وإذا فعل ذلك سقط عنه وجوب القضاء؛ لأنّ ذلك فدية، والفدية ما يسقط بها الواجب، بخلاف الكفّارة، وعلى هذا لم يرد القوم أنّ الحامل لا بدّ لها من الإطعام، وليس لها أن تقضي؛ إذ لا وجه لذلك أصلًا، ولكنّهم أرادوا أنّ لها أن تطعم، وليس عليها القضاء بعد الإطعام، وهذا ما يقول به المنصور حفظه اللّه تعالى، ودليله على ذلك أنّ الضمير يرجع إلى أقرب المراجع مع الإمكان، وأقرب المراجع منه في قول اللّه تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، فأراد بذلك أنّ من أطاق الصيام في أيّام أخر من مريض أو مسافر فله فدية طعام مسكين، ولم يرد الصحيح والحاضر في شهر رمضان، حتّى يلزم من ذلك أن يكون قوله منسوخًا، ولم يرد الشيخ الذي لا يطيق الصيام، حتّى يلزم من ذلك أن يكون قوله: ﴿يُطِيقُونَهُ﴾ بمعنى: لا يطيقونه، أو كانوا يطيقونه في السابق!
هذا ما يقول به المنصور حفظه اللّه تعالى في دروسه، ولكنّ العمل عنده بالقول الثاني، وبه يفتي؛ لأنّه الإحتياط؛ كما أخبرنا بعض أصحابه، قال:
قُلْتُ لِلْمَنْصُورِ: مَرِضْتُ يَوْمًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَأَفْطَرْتُهُ، قَالَ: اقْضِهِ، قُلْتُ: سَمِعْتُكَ تَذْكُرُ الْفِدْيَةَ، وَهِيَ أَيْسَرُ عَلَيَّ، قَالَ: اقْضِهِ، قُلْتُ: أَعَلَى الْإِحْتِيَاطِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وما يوجب الإحتياط أنّ اللّه قال في الآية التالية: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾[٥]، ولم يذكر الفدية التي ذكرها في الآية السابقة، وهذا يوهم النسخ؛ كما يُروى عن ابن عبّاس أنّه قال: «أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الصَّوْمِ الْآخِرِ: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الصَّوْمِ الْآخِرِ فِدْيَةً طَعَامَ مِسْكِينٍ، فَنُسِخَتِ الْفِدْيَةُ»[٦]، وليس هذا شيئًا بيّنًا حتّى يمكن الجزم بوجوب القضاء من دون الإحتياط؛ لأنّ عدم الذكر لا يعني النسخ بالضرورة، وقد يكتفي الحكيم بما قاله من قبل، ولا يكرّر، ولذلك يُشترط في الناسخ أن يكون مثل المنسوخ في الظهور، وليس السكوت نسخًا لما تقدّم ذكره إلّا مع قرينة، ولا قرينة في الآية التالية، بل لعلّ القرينة فيها لعدم النسخ، وهي قول اللّه تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾[٧]؛ لأنّه يقتضي التخفيف، ولا يقتضي التشديد، وعليه فإنّ النسخ غير ثابت، والأصل عدمه، فلا يبقى إلّا الإحتياط، وهو حسن، لقول اللّه تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾[٨]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾[٩]، وقوله تعالى: ﴿هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[١٠]، وما جاء عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»[١١]، وقال: «حَلَالٌ بَيِّنٌ، وَحَرَامٌ بَيِّنٌ، وَشُبُهَاتٌ بَيْنَ ذَلِكَ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبَهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى فَيُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ»[١٢].