الحديث ٤٧
الحاجة إلى الإمام، وإن كان غير ظاهر.
رَوَى عَلِيُّ بْنُ بَابَوَيْهِ [ت٣٢٩هـ] فِي «الْإِمَامَةِ وَالتَّبْصِرَةِ»[١]، عَنِ الْحِمْيَرِيِّ، عَنِ السِّنْدِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ رَزِينٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ -يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْبَاقِرَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ:
«لَا تَبْقَى الْأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ إِلَّا بِإِمَامٍ حَيٍّ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ عِبَادَتَهُ فِيهَا إِقَامَةُ حُدُودِهِ وَتَنْفِيذُ أَحْكَامِهِ وَإِدَارَةُ أَمْوَالِهِ وَجِهَادُ أَعْدَائِهِ وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى إِمَامٍ حَيٍّ ظَاهِرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ إِمَامًا حَيًّا ظَاهِرًا فَمَا أَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا جَعَلَ لَهُمْ طَرِيقًا إِلَى عِبَادَتِهِ. فَإِنْ تَرَكُوا عِبَادَتَهُ فَلَيْسَ لِلَّهِ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ، إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ إِمَامًا حَيًّا ظَاهِرًا، فَحَمَلُوهُ عَلَى الْإِخْتِفَاءِ بِظُلْمِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ثُمَّ تَرَكُوا عِبَادَةَ اللَّهِ فَقَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْهِمْ حُجَّةً؛ كَمَا قَالَ: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾[٢]، وَقَالَ: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾[٣]، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِنْ جَعَلَ لَهُمْ إِمَامًا حَيًّا ظَاهِرًا فَقَتَلُوهُ بِظُلْمِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا حَمَلُوهُ عَلَى الْإِخْتِفَاءِ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُظْهِرُوهُ إِذَا تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَلَكِنَّهُمْ إِنْ قَتَلُوهُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُحْيُوهُ وَالْإِمَامُ إِذَا كَانَ مُخْتَفِيًا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى التَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ بِدُعَائِهِ وَبَرَكَاتِهِ وَاتِّصَالِهِ بِبَعْضِ الصَّالِحِينَ وَرُبَمَا يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ دُونِ أَنْ يَعْرِفُوهُ وَلَكِنَّهُ إِنْ مَاتَ لَا يَسْتَطِيعُ شَيْئًا وَلِذَلِكَ يَجُوزُ فِي عَدْلِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ أَنْ يُخْفِيَ الْإِمَامَ إِذَا عَلِمَ مِنْ عِبَادِهِ الشَّرَّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمِيتَهُ مِنْ دُونِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ بَدِيلًا.
الشاهد ١
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النُّعْمَانِيُّ [تنحو٣٦٠هـ] فِي «الْغَيْبَةِ»[٤]، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ، جَمِيعًا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ بَعْضِ رِجَالِهِ، عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خَبَرٌ تَدْرِيهِ خَيْرٌ مِنْ عَشْرٍ تَرْوِيهِ، إِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً، وَلِكُلِّ صَوَابٍ نُورًا»، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّا وَاللَّهِ لَا نَعُدُّ الرَّجُلَ مِنْ شِيعَتِنَا فَقِيهًا حَتَّى يُلْحَنَ لَهُ فَيَعْرِفَ اللَّحْنَ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ -يَعْنِي عَلِيًّا- عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ: إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا مَظْلِمَةً عَمْيَاءَ مُنْكَسِفَةً لَا يَنْجُو مِنْهَا إِلَّا النُّوَمَةُ، قِيلَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا النُّوَمَةُ؟ قَالَ: الَّذِي يَعْرِفُ النَّاسَ وَلَا يَعْرِفُونَهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَيُعْمِي خَلْقَهُ عَنْهَا بِظُلْمِهِمْ وَجَوْرِهِمْ وَإِسْرَافِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ خَلَتِ الْأَرْضُ سَاعَةً وَاحِدَةً مِنْ حُجَّةٍ لِلَّهِ لَسَاخَتْ بِأَهْلِهَا، وَلَكِنَّ الْحُجَّةَ يَعْرِفُ النَّاسَ وَلَا يَعْرِفُونَهُ، كَمَا كَانَ يُوسُفُ يَعْرِفُ النَّاسَ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، ثُمَّ تَلَا: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾[٥]».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا حَدِيثٌ جَيِّدٌ، وَهُوَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَمَى النَّاسِ عَنْ خَلِيفَةِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيهِمْ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ يَعِيشُ فِيهِمْ مَسْتُورًا مُتَنَكِّرًا، وَعِلَّةُ ذَلِكَ ظُلْمُهُمْ وَجَوْرُهُمْ وَإِسْرَافُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا يُخِيفُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَتْ حِكْمَةً خَفِيَّةً مِنَ اللَّهِ اقْتَضَتْ ذَلِكَ كَمَا يَزْعُمُونَ؛ فَلَوْ تَابُوا عَنْ ظُلْمِهِمْ وَجَوْرِهِمْ وَإِسْرَافِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ تَوْبَةً تُؤَمِّنُهُ عَلَى نَفْسِهِ، لَتَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ كَمَا تَعَرَّفَ يُوسُفُ إِلَى إِخْوَتِهِ، إِذْ ﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ﴾[٦].
الشاهد ٢
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ [ت٣٢٩هـ] فِي «الْكَافِي»[٧]، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ؛ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَابَوَيْهِ [ت٣٨١هـ] فِي «كَمَالِ الدِّينِ وَتَمَامِ النِّعْمَةِ»[٨]، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ؛ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: «إِنَّ فِي صَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ شَبَهًا مِنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ»، قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّكَ تَذْكُرُ حَيَاتَهُ وَغَيْبَتَهُ، فَقَالَ لِي: «وَمَا تُنْكِرُ مِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَشْبَاهُ الْخَنَازِيرِ؟! إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا أَسْبَاطًا أَوْلَادَ الْأَنْبِيَاءِ، تَاجَرُوا يُوسُفَ وَبَايَعُوهُ وَخَاطَبُوهُ، وَهُمْ إِخْوَتُهُ وَهُوَ أَخُوهُمْ، فَلَمْ يَعْرِفُوهُ حَتَّى قَالَ لَهُمْ: ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾، فَمَا تُنْكِرُ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْمَلْعُونَةُ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِحُجَّتِهِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ كَمَا فَعَلَ بِيُوسُفَ؟! إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِلَيْهِ مُلْكُ مِصْرَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ مَسِيرَةُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَهُ لَقَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، لَقَدْ سَارَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوُلْدُهُ عِنْدَ الْبِشَارَةِ تِسْعَةَ أَيَّامٍ مِنْ بَدْوِهِمْ إِلَى مِصْرَ، فَمَا تُنْكِرُ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِحُجَّتِهِ كَمَا فَعَلَ بِيُوسُفَ؟! أَنْ يَمْشِيَ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَيَطَأَ بُسُطَهُمْ، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ نَفْسَهُ كَمَا أَذِنَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ قَالَ لَهُمْ: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ﴾[٩]».