الحديث ٢٧
إنّ الأرض لا تخلو من إمام يهدي بالحقّ وبه يعدل.
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيُّ [ت٣٢٩هـ] فِي «الْكَافِي»[١]، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْوَشَّاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ:
سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾[٢]، قَالَ: «هُمُ الْأَئِمَّةُ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مُعَلَّى بْنُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ لِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ آخَرُ:
شاهد
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ [ت٢٩٠هـ] فِي «بَصَائِرِ الدَّرَجَاتِ»[٣]، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَفْوَانَ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنِ الْحُجْرِ، عَنْ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ -يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْبَاقِرَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾، قَالَ: «هُمُ الْأَئِمَّةُ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ مُنَاسِبٌ لِلْأَئِمَّةِ، إِذْ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَهْدُوا النَّاسَ وَيَعْدِلُوا بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَأْنَيْنِ: الْأَوَّلُ هِدَايَةُ النَّاسِ بِالْحَقِّ، وَهِيَ تَعْلِيمُهُمُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ دُونَ خَطَإٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالْحَقِّ حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ، وَالثَّانِي الْعَدْلُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ، وَهُوَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ دُونَ خَطَإٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالْحَقِّ حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ، وَهُمَا لَا يَتِمَّانِ إِلَّا فِي مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرًا، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ إِمَامٍ هَادٍ عَادِلٍ بِالْحَقِّ؛ كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ عُقَلَاءُ الْقَوْمِ قَدِيمًا وَجَدِيدًا؛ مِثْلُ الْجُبَّائِيِّ [ت٣٠٣هـ] إِذْ قَالَ: «هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو زَمَانٌ الْبَتَّةَ عَمَّنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ وَيَعْمَلُ بِهِ وَيَهْدِي إِلَيْهِ»[٤]، وَالنَّحَّاسِ [ت٣٣٨هـ] إِذْ قَالَ: «دَلَّ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا تَخْلُو الدُّنْيَا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ»[٥]، وَالْقُرْطُبِيِّ [ت٦٧١هـ] إِذْ قَالَ: «دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُخَلِّي الدُّنْيَا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ»[٦]، وَالْخَازِنِ [ت٧٤١هـ] إِذْ قَالَ: «فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو زَمَانٌ مِنْ قَائِمٍ بِالْحَقِّ يَعْمَلُ بِهِ وَيَهْدِي إِلَيْهِ»[٧]، وَقَالَ ابْنُ الْجُوزِيِّ [ت٥٩٧هـ]: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُخَلِّي الْأَرْضَ مِنْ قَائِمٍ لَهُ بِالْحُجَّةِ، جَامِعٍ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، عَارِفٍ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، خَائِفٍ مِنْهُ، فَذَلِكَ قُطْبُ الدُّنْيَا، وَمَتَى مَاتَ أَخْلَفَ اللَّهُ عِوَضَهُ، وَرُبَمَا لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَرَى مَنْ يَصْلُحُ لِلنِّيَابَةِ عَنْهُ فِي كُلِّ نَائِبَةٍ، وَمِثْلُ هَذَا لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْهُ، فَهُوَ بِمَقَامِ النَّبِيِّ فِي الْأُمَّةِ»[٨]، وَقَالَ الرَّازِيُّ [ت٦٠٦هـ]: «هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْهُدَى وَأَعْلَامُ الدِّينِ وَسَادَةُ الْخَلْقِ، بِهِمْ يَهْتَدُونَ فِي الذَّهَابِ إِلَى اللَّهِ»[٩]، وَقَالَ الْآلُوسِيُّ [ت١٢٧٠هـ]: «هُمُ الْمُرْشِدُونَ الْكَامِلُونَ»[١٠]، وَقَالَ السَّعْدِيُّ [ت١٣٧٦هـ]: «أَيْ وَمِنْ جُمْلَةِ مَنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ فَاضِلَةٌ كَامِلَةٌ فِي نَفْسِهَا، مُكَمِّلَةٌ لِغَيْرِهَا، يَهْدُونَ أَنْفُسَهُمْ وَغَيْرَهُمْ بِالْحَقِّ، فَيَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَعْمَلُونَ بِهِ، وَيُعَلِّمُونَهُ، وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ وَإِلَى الْعَمَلِ بِهِ ﴿وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَحْكَامِهِمْ إِذَا حَكَمُوا فِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْحُقُوقِ وَالْمَقَالَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَئِمَّةُ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَهُمُ الصِّدِّيقُونَ الَّذِينَ مَرْتَبَتُهُمْ تَلِي مَرْتَبَةَ الرِّسَالَةِ، وَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ كُلٌّ بِحَسَبِ حَالِهِ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»[١١]، انْتَهَى قَوْلُهُ، وَهَذَا قَوْلُنَا الَّذِي نَقُولُ بِهِ، وَالْعَجَبُ مِنْ أَقْوَامٍ يُنْكِرُونَهُ عَلَيْنَا وَهُمْ يَجِدُونَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ قَدِيمًا وَجَدِيدًا! فَهَلْ يَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا قَوْلَنَا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا؟! وَلَا نَقُولُ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ آبَاؤُنَا، وَلَكِنْ لِمَا نَجِدُ مِنْ فَضْلِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا نُنْكِرُ فَضْلَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ صَاحَبَ نَبِيَّنَا، وَلَكِنْ لَا يُقَاسُ بِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا أَحَدٌ؛ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا إِذَا عَدَّدْنَا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! فَعَلِيٌّ؟ قَالَ: وَيْحَكَ، عَلِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، لَا يُقَاسُ بِهِمْ أَحَدٌ»[١٢]، وَهَذَا قَوْلٌ مَشْهُورٌ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ [ت٢٤١هـ]، وَهُوَ إِمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَمْ يُنْسَبْ إِلَيْهِ التَّشَيُّعُ؛ كَمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: «سَأَلْتُ أَبِي، قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ: يَا أَبَتِ، ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُمَرُ، قُلْتُ: يَا أَبَتِ، ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُثْمَانُ، قُلْتُ: يَا أَبَتِ، فَعَلِيٌّ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ، عَلِيٌّ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ لَا يُقَاسُ بِهِمْ أَحَدٌ»، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «قُلْتُ: يَا أَبَةِ، مَا تَقُولُ فِي التَّفْضِيلِ؟ قَالَ: فِي الْخِلَافَةِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَقُلْتُ: فَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ لَا يُقَاسُ بِهِمْ أَحَدٌ»[١٣]، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَقُولُ بِهِ كُلُّ عَالِمٍ، وَقَدْ قَالَ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِذَا قُلْنَا بِهِ نَحْنُ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ: هَؤُلَاءِ مِنَ الرَّافِضَةِ! ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[١٤]!