الحديث ٢٣
الإمام يأسف على قلّة طلاب العلم.
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَابَوَيْهِ [ت٣٨١هـ] فِي «عِلَلِ الشَّرَائِعِ»[١]، وَ«عُيُونِ أَخْبَارِ الرِّضَا»[٢]، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الصَّلْتِ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ صَالِحٍ الْهَرَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، قَالَ:
أَتَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ مَقْتَلِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ عَمْرٌو، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرْنِي عَنْ أَصْحَابِ الرَّسِّ، فِي أَيِّ عَصْرٍ كَانُوا؟ وَأَيْنَ كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ؟ وَمَنْ كَانَ مَلِكُهُمْ؟ وَهَلْ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ رَسُولًا أَمْ لَا؟ وَبِمَاذَا أُهْلِكُوا؟ فَإِنِّي أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ذِكْرَهُمْ، وَلَا أَجِدُ خَبَرَهُمْ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ حَدِيثٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ، وَلَا يُحَدِّثُكَ بِهِ أَحَدٌ بَعْدِي، وَمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ آيَةٌ إِلَّا وَأَنَا أَعْرِفُ تَفْسِيرَهَا، وَفِي أَيِّ مَكَانٍ نَزَلَتْ مِنْ سَهْلٍ أَوْ جَبَلٍ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ نَزَلَتْ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وَإِنَّ هَاهُنَا لَعِلْمًا جَمًّا -وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ- وَلَكِنَّ طُلَّابَهُ يَسِيرٌ، وَعَنْ قَلِيلٍ يَنْدَمُونَ لَوْ فَقَدُونِي، وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِمْ، يَا أَخَا تَمِيمٍ، أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا يَعْبُدُونَ شَجَرَةَ صَنَوْبَرٍ يُقَالُ لَهَا: شَاهْدِرَخْتُ» -فَذَكَرَ قِصَّتَّهُمْ.
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدَانِيُّ ثِقَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِهِ؛ قَالَ ابْنُ بَابَوَيْهِ: «سَمِعْتُ مِنْهُ بِهَمَدَانَ عِنْدَ مُنْصَرَفِي مِنْ حَجِّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَكَانَ رَجُلًا ثِقَةً دَيِّنًا فَاضِلًا، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَرِضْوَانُهُ»[٣]، وَكَذَلِكَ أَبُو الصَّلْتِ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ صَالِحٍ الْهَرَوِيُّ [ت٢٣٦هـ][٤]، وَقَدْ وَثَّقَهُ الْمُنْصِفُونَ مِنْ مُخَالِفِيهِ، وَأَحْسَنُوا فِيهِ الْقَوْلَ؛ كَمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ [ت٢٣٣هـ]: «هُوَ ثِقَةٌ صَدُوقٌ إِلَّا أَنَّهُ يَتَشَيَّعُ»[٥]، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارَمِيُّ [ت٢٥٣هـ]: «هُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ عَلَى الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّهُ يُحِبُّ آلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ دِينَهُ وَمَذْهَبَهُ»[٦]، وَقَالَ الْمَقْدِسِيُّ [ت٦٠٠هـ]: «هُوَ خَادِمُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا، أَدِيبٌ، فَقِيهٌ، عَالِمٌ»، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ الْمَرْوَزِيُّ [ت٢٨٦هـ]: «رَحَلَ فِي الْحَدِيثِ، وَكَانَ صَاحِبَ قَشَافَةٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعْدُودِينَ فِي الزُّهْدِ، وَكَانَ يَرُدُّ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالزَّنَادِقَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ، وَكَلَّمَ بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ غَيْرَ مَرَّةٍ بَيْنَ يَدَيِ الْمَأْمُونِ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، كُلَّ ذَلِكَ كَانَ الظَّفَرُ لَهُ، وَكَانَ يُعْرَفُ بِكَلَامِ الشِّيعَةِ، وَنَاظَرْتُهُ فِي ذَلِكَ لِأَسْتَخْرِجَ مَا عِنْدَهُ، فَلَمْ أَرَهُ يُفْرِطُ، وَرَأَيْتُهُ لَا يَذْكُرُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ»[٧]، وَسَمَّاهُ الذَّهَبِيُّ [ت٧٤٨هـ]: «الْعَالِمَ، الْعَابِدَ، شَيْخَ الشِّيْعَةِ»[٨]، وَقَالَ: «لَهُ فَضْلٌ وَجَلَالَةٌ، وَكَانَ زَاهِدًا، أُعْجِبَ بِهِ الْمَأْمُوْنُ لَمَّا رَآهُ، وَأَدْنَاهُ، وَجَعَلَهُ مِنْ خَاصَّتِهِ»[٩]، وَلَمْ يَنْسِبْهُ إِلَى الْكِذْبِ إِلَّا الْجُهَّالُ وَالنَّوَاصِبُ، وَإِنَّمَا نَقَمُوا عَلَيْهِ حَدِيثَهُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ، وَعَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ الْمَدِينَةَ فَلْيَأْتِ الْبَابَ»، وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى رَغْمِ أُنُوفِهِمْ؛ كَمَا قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: «سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: هُوَ صَحِيحٌ»[١٠]، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِرِوَايَتِهِ أَبُو الصَّلْتِ، بَلْ تَابَعَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْفَيْدِيُّ؛ كَمَا قَالَ الدُّورِيُّ: «سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يُوَثِّقُ أَبَا الصَّلْتِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ حَدَّثَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ: <أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ، وَعَلِيٌّ بَابُهَا>، فَقَالَ: مَا تُرِيدُونَ مِنْ هَذَا الْمِسْكِينِ؟! أَلَيْسَ قَدْ حَدَّثَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْفَيْدِيُّ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ؟!»[١١]، وَمِنْهُمُ ابْنُ نُمَيْرٍ؛ كَمَا قَالَ يَحْيَى: «أَبُو الصَّلْتِ لَيْسَ مِمَّنْ يَكْذِبُ»، فَقِيلَ لَهُ فِي حَدِيثِهِ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: «هُوَ مِنْ حَدِيثِ أَبِى مُعَاوِيَةَ، أَخْبَرَنِي ابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَ بِهِ أَبُو مُعَاوِيَةَ قَدِيمًا، ثُمَّ كَفَّ عَنْهُ»[١٢]، وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ [ت٤٣٠هـ] فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو الصَّلْتِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: «هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ مَشْهُورٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِنْ رِوَايَةِ الطَّاهِرِينَ عَنْ آبَائِهِمُ الطَّيِّبِينَ، وَكَانَ بَعْضُ سَلَفِنَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ إِذَا رَوَى هَذَا الْإِسْنَادَ قَالَ: لَوْ قُرِئَ هَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى مَجْنُونٍ لَأَفَاقَ»[١٣]، أَرَادَ بِهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ [ت٢٤١هـ][١٤].
ثُمَّ قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي أَصْحَابِ الرَّسِّ فَقَدْ رَوَاهُ الثَّعْلَبِيُّ [ت٤٢٧هـ] فِي «تَفْسِيرِهِ»، وَقَالَ: «هُوَ مَا يَرْوِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ»[١٥]، وَفِيهِ أَنَّ الرَّسَّ نَهْرٌ بِآذَرْبِيجَانَ، وَهُوَ مَا يُقَالُ لَهُ الْيَوْمَ: «أَرَسُ»، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَعْبُدُونَ شَجَرَةً، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، وَرُوِيَ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَنَّ نِسَاءَهُمْ كُنَّ مُسَاحِقَاتٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ[١٦]، وَفِيهِ الْأَسَفُ عَلَى قِلَّةِ طُلَّابِ الْعِلْمِ، وَهُوَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْسَفَ عَلَيْهِ حَقًّا؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ الْعَالِمَ عَمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ مَادَامَ فِيهِمْ، فَإِذَا فَقَدُوهُ تَحَيَّرُوا فِي دِينِهِمْ، فَأَكَبُّوا عَلَى مَا يَرْوِي عَنْهُ الْآحَادُ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا تَحَيُّرًا لِمَا دَخَلَهُ مِنَ الْكِذْبِ وَالْخَطَإِ وَالْإِخْتِلَافِ، وَمِنْ سَفَاهَةِ النَّاسِ عَدَمُ اعْتِنَائِهِمْ بِالْعَالِمِ حَتَّى يَمُوتَ غَمًّا، وَهُمْ يَطُوفُونَ بِرُؤُوسِ الْجَهْلِ وَدُعَاةِ الضَّلَالَةِ؛ كَمَا تَرَوْنَهُمْ لَا يَعْتَنُونَ بِي، وَقَدْ آتَانِيَ اللَّهُ عِلْمًا، ثُمَّ يَتَّبِعُونَ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْغُرَبَاءِ، فَقَالَ: «كُلُّ مَسْجِدٍ لَا يُصَلَّى فِيهِ، وَمُصْحَفٍ لَا يُقْرَأُ فِيهِ، وَعَالِمٍ بَيْنَ قَوْمٍ جَاهِلِينَ لَا يَسْأَلُونَهُ، إِنْ أَمَرَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ضَحِكُوا، وَإِنْ نَهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ اسْتَهْزَؤُوا بِهِ»[١٧]، وَهَكَذَا حَالِي بَيْنَ هَؤُلَاءِ، وَمَا عَلَى الْعَالِمِ إِلَّا إِظْهَارُ عِلْمِهِ، لِيَسْأَلَهُ مَنْ يَشَاءُ، وَيَتْرُكَهُ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يَتْرُكْهُ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[١٨].