الحديث ١٠
عرض النصرة على الإمام
رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ [ت٢٣٥هـ] فِي «مُسْنَدِهِ»[١]، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيِّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:
لَقَدْ شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ مَشْهَدًا لَأَنْ أَكُونَ صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى لِمُوسَى: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾[٢]، وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ، وَمِنْ خَلْفِكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ»، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ وَجْهُهُ بِذَلِكَ، وَسَرَّهُ وَأَعْجَبَهُ.
الشاهد ١
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ [ت٢٥٦هـ] فِي «صَحِيحِهِ»[٣]، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ، قَالَ: «شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ»؛ وَحَدَّثَنِي حَمْدَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «قَالَ الْمِقْدَادُ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، وَلَكِنِ امْضِ وَنَحْنُ مَعَكَ، فَكَأَنَّهُ سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ»، وَرَوَاهُ وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقٍ: أَنَّ الْمِقْدَادَ قَالَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
الشاهد ٢
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ [ت٣٦٠هـ] فِي «الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ»[٤]، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِي تَحْيَى، وَهُوَ حَكِيمُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَقَدْ سَمِعْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ مَنْقَبَةً لَأَنْ تَكُونَ لِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، قَامَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ: «لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا﴾، لَكِنْ نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَشِمَالِكَ»، فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ انْبَسَطَتْ أَسَارِيرُهُ.
الشاهد ٣
وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ [ت٢٥٧هـ] فِي «فُتُوحِ مِصْرَ»[٥]، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِى حَبِيبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عِمْرَانَ أَسْلَمُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ، وَأُخْبِرَ بِعِيرٍ لِأَبِي سُفْيَانَ مُقْبِلَةً، فَقَالَ: «هَلْ لَكُمْ أَنْ نَخْرُجَ، فَنَتَلَقَّى هَذِهِ الْعِيرَ؟ لَعَلَّ اللَّهَ يُغْنِمُنَاهَا»، قُلْنَا: «نَعَمْ»، فَخَرَجْنَا، فَلَمَّا سِرْنَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ قَالَ لَنَا: «مَا تَرَوْنَ فِى الْقَوْمِ؟ فَإِنَّهُمْ قَدْ أُخْبِرُوا بِخُرُوجِكُمْ»، قُلْنَا: «وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا طَاقَةٌ بِقِتَالِ الْعَدُوِّ، وَلَكِنَّا أَرَدْنَا الْعِيرَ»، ثُمَّ قَالَ: «مَا تَرَوْنَ فِى قِتَالِ الْعَدُوِّ؟» قُلْنَا: «لَا طَاقَةَ لَنَا بِقِتَالِهِمْ»، فَقَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو: «إِنَّا لَا نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾»، قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَتَمَنَّيْنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَوْ أَنَّا قُلْنَا كَمَا قَالَ الْمِقْدَادُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَنَا مَالٌ عَظِيمٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾[٦].
الشاهد ٤
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ [ت٢١١هـ] فِي «تَفْسِيرِهِ»[٧]، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا حَالَ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْبَيْتِ: «وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، وَلَكِنْ نَقُولُ: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا، إِنَّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ».
الشاهد ٥
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ [ت٢٤١هـ] فِي «مُسْنَدِهِ»[٨]، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ أَيُّوبَ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَاسِحٍ الْحَضْرَمِيُّ -وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَمَنْ دُونَهُ- عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَقَاتِلُوا»، قَالُوا: «نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: انْطَلِقْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنِ انْطَلِقْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا، وَإِنَّا مَعَكُمَا نُقَاتِلُ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: رَحِمَ اللَّهُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ؛ فَقَدْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً، وَهِيَ عَرْضُ النُّصْرَةِ عَلَى الْإِمَامِ عِنْدَ الْخَوْفِ؛ فَإِنَّهُ يَشُدُّ عَضُدَهُ وَيُثَبِّتُ أَصْحَابَهُ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى شَيْءٍ يَدْفَعُ عَنْهُ شَرًّا فَلْيَعْرِضْهُ؛ فَإِنَّهُ كَالْأَمَانَةِ عِنْدَهُ:
الشاهد ٦
كَمَا رَوَى الْوَاقِدِيُّ [ت٢٠٧هـ] فِي «الْمَغَازِي»[٩]، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَاصِمٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ: كَانَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ أَهْلَ شَرَفٍ وَأَمْوَالٍ، وَكُنَّا قَوْمًا عَرَبًا، لَا نَخْلَ لَنَا وَلَا كَرْمَ، وَإِنَّمَا نَحْنُ أَهْلُ شَاةٍ وَبَعِيرٍ، فَكُنْتُ أَقْدَمُ عَلَى كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، فَأُقِيمُ عِنْدَهُمُ الْأَيَّامَ، أَشْرَبُ مِنْ شَرَابِهِمْ وَآكُلُ مِنْ طَعَامِهِمْ، ثُمَّ يُحَمِّلُونَنِي تَمْرًا عَلَى رِكَابِي مَا كَانَتْ، فَأَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي، فَلَمَّا سَارَتِ الْأَحْزَابُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سِرْتُ مَعَ قَوْمِي، وَأَنَا عَلَى دِينِي، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَارِفًا، فَأَقَامَتِ الْأَحْزَابُ مَا أَقَامَتْ، حَتَّى أَجْدَبَ الْجَنَابُ وَهَلَكَ الْخُفُّ وَالْكُرَاعُ، وَقَذَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامَ، وَكَتَمْتُ قَوْمِي إِسْلَامِي، فَأَخْرُجُ حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَأَجِدُهُ يُصَلِّي، فَلَمَّا رَآنِي جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ: «مَا جَاءَ بِكَ يَا نُعَيْمُ؟» قُلْتُ: «إِنِّي جِئْتُ أُصَدِّقُكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ حَقٌّ، فَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ لَا تَأْمُرُنِي بِأَمْرٍ إِلَّا مَضَيْتُ لَهُ، قَوْمِي لَا يَعْلَمُونَ بِإِسْلَامِي، وَلَا غَيْرُهُمْ»، قَالَ: «إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُخَذِّلَ النَّاسَ فَخَذِّلْ»، قُلْتُ: «أَفْعَلُ، وَلَكِنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقُولُ -يَعْنِي الْكَذِبَ-، فَأْذَنْ لِي»، قَالَ: «قُلْ مَا بَدَا لَكَ، فَأَنْتَ فِي حِلٍّ»، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، قَالَ: «فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ»[١٠]، قَالَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ: فَذَهَبْتُ حَتَّى جِئْتُ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَلَمَّا رَأَوْنِي رَحَّبُوا وَأَكْرَمُوا وَحَيَّوْا وَعَرَضُوا عَلَيَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، فَقُلْتُ: «إِنِّي لَمْ آتِ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا، إِنَّمَا جِئْتُكُمْ نَصَبًا بِأَمْرِكُمْ، وَتَخَوُّفًا عَلَيْكُمْ، لِأُشِيرَ عَلَيْكُمْ بِرَأْيٍ، وَقَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي إِيَّاكُمْ وَخَاصَّةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ»، فَقَالُوا: «قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ، وَأَنْتَ عِنْدَنَا عَلَى مَا تُحِبُّ مِنَ الصِّدْقِ وَالْبِرِّ»، قَالَ: «فَاكْتُمُوا عَنِّي»، قَالُوا: «نَفْعَلُ»، قَالَ: «إِنَّ أَمْرَ هَذَا الرَّجُلِ بَلَاءٌ -يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- صَنَعَ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ بِبَنِي قَيْنُقَاعَ وَبَنِي النَّضِيرِ، وَأَجْلَاهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ بَعْدَ قَبْضِ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ قَدْ سَارَ فِينَا، فَاجْتَمَعْنَا مَعَهُ لِنَصْرِكُمْ، وَأَرَى الْأَمْرَ قَدْ تَطَاوَلَ كَمَا تَرَوْنَ، وَإِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَنْتُمْ وَقُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ مِنْ مُحَمَّدٍ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، أَمَّا قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ فَهُمْ قَوْمٌ جَاءُوا سَيَّارَةً حَتَّى نَزَلُوا حَيْثُ رَأَيْتُمْ، فَإِنْ وَجَدُوا فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ أَوْ أَصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ انْشَمَرُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَأَنْتُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، الْبَلَدُ بَلَدُكُمْ، فِيهِ أَمْوَالُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ، وَقَدْ غَلُظَ عَلَيْهِمْ جَانِبُ مُحَمَّدٍ، أَجَلَبُوا عَلَيْهِ أَمْسِ إِلَى اللَّيْلِ، فَقَتَلَ رَأْسَهُمْ عَمْرَو بْنَ عَبْدٍ، وَهَرَبُوا مِنْهُ مُجَرَّحِينَ، وَهُمْ لَا غَنَاءَ بِهِمْ عَنْكُمْ لِمَا يَعْرِفُونَ عِنْدَكُمْ، فَلَا تُقَاتِلُوا مَعَ قُرَيْشٍ وَلَا غَطَفَانَ حَتَّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ تَسْتَوْثِقُونَ بِهِ مِنْهُمْ أَنْ يُنَاجِزُوا مُحَمَّدًا»، قَالُوا: «أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ عَلَيْنَا وَالنُّصْحِ»، وَدَعَوْا لَهُ وَتَشَكَّرُوا، وَقَالُوا: «نَحْنُ فَاعِلُونَ»، قَالَ: «وَلَكِنِ اكْتُمُوا عَنِّي»، قَالُوا: «نَعَمْ، نَفْعَلُ»، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: «يَا أَبَا سُفْيَانَ، قَدْ جِئْتُكَ بِنَصِيحَةٍ، فَاكْتُمْ عَنِّي»، قَالَ: «أَفْعَلُ»، قَالَ: «تَعْلَمُ أَنَّ قُرَيْظَةَ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَأَرَادُوا إِصْلَاحَهُ وَمُرَاجَعَتَهُ، أَرْسَلُوا إِلَيْهِ وَأَنَا عِنْدَهُمْ: إِنَّا سَنَأْخُذُ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا نُسَلِّمُهُمْ إِلَيْكَ تَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ وَتَرُدُّ جَنَاحَنَا الَّذِي كَسَرْتَ إِلَى دِيَارِهِمْ -يَعْنُونَ بَنِي النَّضِيرِ- وَنَكُونُ مَعَكَ عَلَى قُرَيْشٍ حَتَّى نَرُدَّهُمْ عَنْكَ، فَإِنْ بَعَثُوا إِلَيْكُمْ يَسْأَلُونَكُمْ رَهْنًا فَلَا تَدْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَحَدًا، وَاحْذَرُوهُمْ عَلَى أَشْرَافِكُمْ، وَلَكِنِ اكْتُمُوا عَنِّي، وَلَا تَذْكُرُوا مِنْ هَذَا حَرْفًا»، قَالُوا: «لَا نَذْكُرُهُ»، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى غَطَفَانَ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ، إِنِّي رَجُلٌ مِنْكُمْ، فَاكْتُمُوا عَنِّي، وَاعْلَمُوا أَنَّ قُرَيْظَةَ بَعَثُوا إِلَى مُحَمَّدٍ»، وَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشٍ، «فَاحْذَرُوا أَنْ تَدْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَحَدًا مِنْ رِجَالِكُمْ»، وَكَانَ رَجُلًا مِنْهُمْ فَصَدَّقُوهُ، وَأَرْسَلَتِ الْيَهُودُ غَزَّالَ بْنَ سَمَوْأَلَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ: «إِنَّ ثَوَاءَكُمْ قَدْ طَالَ، وَلَمْ تَصْنَعُوا شَيْئًا، وَلَيْسَ الَّذِي تَصْنَعُونَ بِرَأْيٍ، إِنَّكُمْ لَوْ وَعَدْتُمُونَا يَوْمًا تَزْحَفُونَ فِيهِ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَتَأْتُونَ مِنْ وَجْهٍ، وَتَأْتِي غَطَفَانُ مِنْ وَجْهٍ، وَنَخْرُجُ نَحْنُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، لَمْ يَفْلِتْ مِنْ بَعْضِنَا، وَلَكِنْ لَا نَخْرُجُ مَعَكُمْ حَتَّى تُرْسِلُوا إِلَيْنَا بِرِهَانٍ مِنْ أَشْرَافِكُمْ يَكُونُونَ عِنْدَنَا، فَإِنَّا نَخَافُ إِنْ مَسَّتْكُمُ الْحَرْبُ وَأَصَابَكُمْ مَا تَكْرَهُونَ شَمَّرْتُمْ وَتَرَكْتُمُونَا فِي عُقْرِ دَارِنَا، وَقَدْ نَابَذْنَا مُحَمَّدًا بِالْعَدَاوَةِ»، فَانْصَرَفَ الرَّسُولُ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِمْ شَيْئًا، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: «هَذَا مَا قَالَ نُعَيْمٌ»، فَخَرَجَ نُعَيْمٌ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ، أَنَا عِنْدَ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ جَاءَ رَسُولُكُمْ إِلَيْهِ يَطْلُبُ مِنْهُ الرِّهَانَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: لَوْ طَلَبُوا مِنِّي عَنَاقًا مَا رَهَنْتُهَا! أَنَا أَرْهَنُهُمْ سَرَاةَ أَصْحَابِي يَدْفَعُونَهُمْ إِلَى مُحَمَّدٍ يَقْتُلُهُمْ؟! فَارْتَؤُوا آرَاءَكُمْ حَتَّى تَأْخُذُوا الرَّهْنَ، فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُقَاتِلُوا مُحَمَّدًا وَانْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ تَكُونُوا عَلَى مُوَاعَدَتِكُمْ الْأُولَى»، قَالُوا: «تَرْجُو ذَلِكَ يَا نُعَيْمُ؟» قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ: «فَإِنَّا لَا نُقَاتِلُهُ، وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ لِهَذَا كَارِهًا، وَلَكِنَّ حُيَيَّ رَجُلٌ مَشْئُومٌ»، قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَاطَا: «إِنِ انْكَشَفَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ عَنْ مُحَمَّدٍ لَمْ يَقْبَلْ مِنَّا إِلَّا السَّيْفَ»، قَالَ نُعَيْمٌ: «لَا تَخْشَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ»، قَالَ الزُّبَيْرُ: «بَلَى وَالتَّوْرَاةِ، وَلَوْ أَصَابَتِ الْيَهُودُ رَأْيَهَا وَلَحَمَ الْأَمْرُ لَيَخْرُجُونَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَلَا يَطْلُبُونَ مِنْ قُرَيْشٍ رَهْنًا، فَإِنَّ قُرَيْشًا لَا تُعْطِينَا رَهْنًا أَبَدًا، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ تُعْطِينَا قُرَيْشٌ الرَّهْنَ؟! وَعَدَدُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِنَا، وَمَعَهُمْ كُرَاعٌ وَلَا كُرَاعَ مَعَنَا، وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْهَرَبِ، وَنَحْنُ لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ غَطَفَانُ تَطْلُبُ إِلَى مُحَمَّدٍ أَنْ يُعْطِيَهَا بَعْضَ تَمْرِ الْأَوْسِ وَتَنْصَرِفَ، فَأَبَى مُحَمَّدٌ إِلَّا السَّيْفَ، فَهُمْ يَنْصَرِفُونَ بِغَيْرِ شَيْءٍ»، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ السَّبْتِ كَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ أَنْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ الْجَنَابَ قَدْ أَجْدَبَ، وَهَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفُّ، وَغَدَرَتِ الْيَهُودُ وَكَذَبَتْ، وَلَيْسَ هَذَا بِحِيْنِ مُقَامٍ، فَانْصَرِفُوا»، قَالَتْ قُرَيْشٌ: «فَاعْلَمْ عِلْمَ الْيَهُودِ، وَاسْتَيْقِنْ خَبَرَهُمْ»، فَبَعَثُوا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ حَتَّى جَاءَ بَنِي قُرَيْظَةَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مَسَاءَ لَيْلَةِ السَّبْتِ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، إِنَّهُ قَدْ طَالَ الْمُكْثُ، وَجَهَدَ الْخُفُّ وَالْكُرَاعُ، وَأَجْدَبَ الْجَنَابُ، وَإِنَّا لَسْنَا بِدَارِ مُقَامَةٍ، اخْرُجُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ حَتَّى نُنَاجِزَهُ بِالْغَدَاةِ»، قَالُوا: «غَدًا السَّبْتُ، لَا نُقَاتِلُ وَلَا نَعْمَلُ فِيهِ عَمَلًا، وَإِنَّا مَعَ ذَلِكَ لَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ إِذَا انْقَضَى سَبْتُنَا حَتَّى تُعْطُونَا رِهَانًا مِنْ رِجَالِكُمْ يَكُونُونَ مَعَنَا، لِئَلَّا تَبْرَحُوا حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا، فَإِنَّا نَخْشَى إِنْ أَصَابَتْكُمُ الْحَرْبُ أَنْ تُشَمِّرُوا إِلَى بِلَادِكُمْ، وَتَدَعُونَا وَإِيَّاهُ فِي بِلَادِنَا، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، مَعَنَا الذَّرَارِيُّ وَالنِّسَاءُ وَالْأَمْوَالُ»، فَرَجَعَ عِكْرِمَةُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ فَقَالُوا: «مَا وَرَاءَكَ؟» قَالَ: «أَحْلِفُ بِاللَّهِ إِنَّ الْخَبَرَ الَّذِي جَاءَ بِهِ نُعَيْمٌ حَقٌّ، لَقَدْ غَدَرَ أَعْدَاءُ اللَّهِ»، وَأَرْسَلَتْ غَطَفَانُ إِلَيْهِمْ مَسْعُودَ بْنَ رُخَيْلَةَ فِي رِجَالٍ مِنْهُمْ بِمِثْلِ رِسَالَةِ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَجَابُوهُمْ بِمِثْلِ جَوَابِ أَبِي سُفْيَانَ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ حَيْثُ رَأَوْا مَا رَأَوْا مِنْهُمْ: «نَحْلِفُ بِاللَّهِ إِنَّ الْخَبَرَ الَّذِي قَالَ نُعَيْمٌ لَحَقٌّ»، وَعَرَفُوا أَنَّ قُرَيْشًا لَا تُقِيمُ، فَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَكَرَّ أَبُو سُفْيَانَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: «إِنَّا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ، إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْقِتَالَ فَاخْرُجُوا فَقَاتِلُوا»، فَقَالَتِ الْيَهُودُ مِثْلَ قَوْلِهِمُ الْأَوَّلِ، وَجَعَلَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: «الْخَبَرُ مَا قَالَ نُعَيْمٌ»، وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ تَقُولُ: «الْخَبَرُ مَا قَالَ نُعَيْمٌ»، وَيَئِسَ هَؤُلَاءِ مِنْ نَصْرِ هَؤُلَاءِ، وَيَئِسَ هَؤُلَاءِ مِنْ نَصْرِ هَؤُلَاءِ، وَاخْتَلَفَ أَمْرُهُمْ، فَكَانَ نُعَيْمٌ يَقُولُ: «أَنَا خَذَّلْتُ بَيْنَ الْأَحْزَابِ حَتَّى تَفَرَّقُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَأَنَا أَمِينُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَلَى سِرِّهِ».
ملاحظة
قَالَ الْمَنْصُورُ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَمْ يُخَذِّلِ الْأَحْزَابَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ يَنْصُرُ خَلِيفَتَهُ بِمَنْ يَشَاءُ؛ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ»[١١]، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.